|
|
|
ê Please wait until the rest of page downloads ê
5-8 أغسطس 2006 : الناس نوعان : نوع أكبر من
الحياة ونوع أصغر منها . أفسح أو أوسع أو أكبر من الحياة هو ذلك التعبير
الإنجليزى الذى يعنى أن الحياة برمتها لا تستطيع أن تتسعك . هذا لا علاقة
له بسعة العيش ولا بضيقه ، لا علاقة له بشىء إلا روح الشخص نفسه . شخص
لا يتذلل للحياة أبدا ، لا يتكالب على شىء ، لا الثروة لا المتع لا
شىء . الحياة هى التى تأتيه ، وحين تأتيه ‑وهى عادة ما تأتيه
راكعة معظم الوقت‑ ينهل منها حتى آخر قطرة ، لكنها فى المقابل لا
تنال منه أبدا . الأوسع من الحياة لا يحارب أحدا ، لا ينظر لشىء فى يد
أحد ، ولا يتهافت على شىء أيا ما كان . فقط يعطى ولا يأخذ . ولو
حارب فهو فقط يحارب نفسه ، يتحامل عليها ولا يتحامل على أحد ، يجعلها
تبذل مجهودا أكبر ، يجعلها أرقى وأنبل وأكفأ وأفيد . وهكذا فقط يفهم
كيف تشق طريق حياتك فى عالم تنافسى شرس ، وكيف تسمو فوق الطبيعة
وقوانينها . قد ينجح وقد لا ينجح . قد يصيب الثراء والشهرة والمجد وقد
لا يصيب . لكن فى كل الأحوال يصيب شيئا واحدا على الأقل : إكبار
الجميع له ! مثل هذا الذى يعيش الحياة
بفروسية ، يرحل عنها أيضا بفروسية ، ومن حوله يتمتمون : نحن
فخورون بأن عرفنا يوما مثل هذه الروح السامقة ! …
تعارفنا جاء ذات يوم من ربيع سنة 1979 . فى
ذلك اليوم قال لى صديقى الحميم الناقد أمير العمرى ، تعال أعرفك على
شخص من أنبل الناس وأنقى الناس . فى تلك الأيام كان نديم خارجا للتو من
السجن ( قضية كان اسمها تنظيم طليعة نوڤمبر ، ويبدو أنه لم تكن
تنظيما جديا جدا ، بحيث كلما تذكره أحد ، بما فى ذلك نديم نفسه ،
تذكره ببعض من الطرافة والاستخفاف ! ) . إذن أمير هو رقم 1 وأنا
رقم 2 ، فى تنظيم نديم
الجديد ، تنظيم أصدقاء شقة الدور الثانى 10 شارع محمد صدقى بباب
اللوق . هذا التنظيم عاش للأبد . فى ربع
القرن هذا ، أو للدقة 27 عاما ، سقطت تنظيمات وأحزاب ودول ، لكن
ذلك التنظيم عاش ازدهارا متواصلا . رقم 3 كانت الصديقة عفاف مرعى ، ثم
سرعان ما اتسعت الدائرة ، بلا قواعد ولا شروط . فقط الشرط الوحيد الذى
وضعه نديم ، الإخلاص فى الصداقة . فى البداية كان الطابع الغالب هو
دائرة المهتمين بالسينما . ثم أصبحت تضم المهتمين بأى شىء ، من جميع
التخصصات ، من أرفع المستويات الأكاديمية ، ومن أشهر الكتاب ،
حتى أبسط أو أصغر الناس سنا ، يحسن ‑ربما على العكس من معظمنا‑
فهمهم جميعا ، ويجدونه كلهم مثقفا قديرا وحلو المعشر معا . لو سألتنى
عن عددهم لقدرتهم بالعشرات ، لكن لم أعرف أن عضوية التنظيم باتت
بالمئات ، إلا ونحن نكتب النعى الخاص بجريدة الأهالى . تذكرنا نحو
مائة اسم ، ثم فوجئنا بمائة آخرين يعنفوننا أشد التعنيف أن نسيناهم !
[ ظهر النعى الأربعاء 9
أغسطس ، ومعه التأبين
المؤثر من الصديق محمود حامد ] . …
’ أختى مسيحية وأنا ماركسى ، لكننا نمارس ذات
الشىء بالضبط ، العمل العمومى والمجهودات الطوعية ‘ .
هكذا سمعتها منه أكثر من مرة ، متذكرا مثلا نشاطهما المشترك أيام حربى 1967
و1973 ، وأعتقد أنها ‑أى تلك العبارة‑ كانت المفتاح الرئيس
لفهم عقله الجميل . الاشتراكية بالنسبة له كانت النبل . التعاطف مع
الضعفاء كان يمثل بالنسبة له أنقى وأرقى وأشرف ما يمكن للمرء فعله فى
حياته . لم تكن الاشتراكية أيديولوچية ولا دوجما ولا سياسة ولا شعارات ولا
حتى ثقافة ، فقط كانت هى الخير ، ولا شىء آخر ، وما عدا ذلك هو
لزوميات جانبية فيها . هذا كان بالنسبة له أقرب لأسلوب حياة منه
لأيديولوچية . وكان بالفعل يمتد لكل تفصيلة فى حياته ، بما فيها مثلا
لو شئت ، حبه للحيوانات ، هذا الحب الذى قد يعتبره البعض أحد أكبر
المؤشرات لإنسانية الإنسان . وأذكر منها على مدى تلك العقود ، قطين
أبيض ورمادى فخيمين مهيبى الهيئة من نوعية القطط التى تظهر فى أفلام چيمس بوند .
ثم كلب بسيط متواضع الحال ، فأخيرا آخر ذهبى من سلالة مميزة كان اسمه مايلو ( اسم كلب تن
تن ، وقد اختار الاسم حفيداه وصديقاه ميشيل ونادين ابنا ميرى ابنة أخته
نادية ) ، لم يتركه إلا حين شعر بأنه لا يقوى على جهد رعايته أو
نظافته أو التمشى به وما إلى ذلك . قراءته الأخلاقية للاشتراكية جعلته مفرط الحساسية لأى ارتزاق باسمها . حبه غير النهائى
للأصدقاء يضمحل رغما عنه حين يستشعر شيئا كهذا فى أحد ما . عنده الاشتراكية
ليست حرفة ولا زعامة ولا شهرة ولا نفوذ ، وقطعا ليست طريقا للثراء .
عنده الاشتراكية رسالة ، الاشتراكية سلوك ، الاشتراكية أسلوب
حياة ، ومن يتكسب باسمها لا يمكن أن يكون اشتراكيا . قد لا يعجب هذا الكلام منى معظم أصدقائه
كثيرا . لكن لأنى من القليلين منهم ممن لا يتبنون كثيرا أفكار
اليسار ، فقد تكون رؤيتى لعقلية نديم رؤية مختلفة . هو كان منفتحا لكل
الأفكار . حين تكون بعيدا نسبيا فى أفكارك ، ويصعب أن تجد من يوافقك
عليها فى تلك الأوساط الثقافية ، يكون من يفهمك من الوهلة الأولى ،
عملة نادرة . نديم لم يكن يفهم فقط ( وهى طايرة كما يقولون ،
مقارنا بعقول مغلقة ربما لا تسمع أصلا ) ، بل كان يفكر فى كل
شىء . رأيى الشخصى أن عدو نديم الحقيقى ، لم يكن الرأسمالية ولا أميركا ولا
الحكومات . عدوه الحقيقى كان التخلف . كان
يستشمه فى أى شىء ، ولم يكن يرحمه سواء رآه فى أثرى الأثرياء أو فى أفقر
الفقراء . من هنا كان تلاقينا الفكرى ‑هو وأنا‑ أكبر بكثير من
خلافاتنا . وكثيرا ما يخيل لى أنه أقرب لى بكثير من قربه من بقية أصدقائنا
من اليسار . لكن هنا يوجد الوجه الآخر والأهم . هو ليس أقرب لأحد
بعينه . قبل الكثير من الأفكار التى لا يقبلها أصدقاؤه من المثقفين الأكثر
تقليدية ، ويرونها كفرا وربما يخاصمونك بسببها . فى تقديرى أن مما
ساعده على هذا أنه ذو جذور يونانية بالأصل ، ثم أن هاجر أخواه
لأستراليا ، ثم أخته لاحقة بأبنائها لأميركا . كذلك أن من خلالهم صاهر
وتعارف على الطبقات التى يمكن وصفها حتى بالأرستقراطية . حتى وظيفته
المهنية أضافت له الكثير بهذا الشأن . كان مسئولا عن مكتب الاتصال بوسط
المدينة ( 28 شارع شريف ) لشركة لانا لمعجون الأسنان . ليست
وظيفة كبيرة كما قد تبدو ، فهو لم يكن يرأس سوى سكرتيرة واحدة . لكن
هذه الوظيفة كما أتاحت له التعرف على طبقة الشغيلة بكل حسناتها وسيئاتها ،
أتاحت له التعامل مع أعلى المستويات المجتمعية . حيث كان مقربا جدا ،
على صعيد شخصى ويومى ، لصاحب الشركة محمد طاهر وزوجته الأكاديمية الشهيرة د . نعمات أحمد فؤاد ،
ومن خلالهما لفئات متنوعة من الطبقات الراقية ومنتدياتها … إلخ . هذا
الوضع استمر حتى منتصف التسعينيات ، حيث أصيب نديم بكسر غير قابل للالتئام
فى أسفل ساقه اليمنى ، واضطر للتقاعد . كما أن الشركة نفسها قد أغلقت
بعد قليل ، بالطبع بسبب فشلها فى منافسة الماركات العالمية المعروفة . هذا كله جعل عقل نديم مفتوحا للغاية على أى فكر
وأية طبقة . مع ذلك أضيف أن هذا العقل المفتوح جدا ، العلمانى
جدا ، يصعب جدا أن تدخل فيه فكرة ما بسهولة . اسأل أى صاحب رأى ،
فعدم اقتناع الآخرين بما نقول هو واحدة من مشكلات كل منا المزمنة . أحيانا
البعض ينبهر بأفكارك ، وأحيانا أكثر ينفر منها آخرون بشدة . نعم نديم
يقتنع بالكثير مما يقرأه أو مما أقوله أنا أو غيرى . لكن ليست كل فكرة يمكن
إدخالها بسهولة إلى ذلك الدماغ . هو يمحص كل شىء أشد تمحيص . وكثير
جدا لا يمكن إدخاله إليه أبدا . لكن البعض الذى يدخل هذا ، يصعب أيضا
إخراجه بسهولة ، ويحتاج لتمحيص أكبر وأكبر . لقد كان دائما أقرب
لقناعاته الحرة ، وليس لأية منظومة ولا لأى أحد . هو صديق الجميع
ويناقش الجميع ويمحص آراء الجميع ، يقبل منهم جميعا بعض الأفكار ويرفض
أخرى ، وهذا كله إجرائية لا تنقطع أبدا . إنه باختصار مفكر مستقل بكل
ما يمكن أن تحمله الكلمة من معان ! … هذا عن كيف تدخل الأفكار لدماغ نديم دائبة الحيوية
دائما أبدا ، وعن الخصائص الفكرية العامة له . لكن كيف تدخل أفكاره هو
لأدمغتنا نحن . هنا أزعم أن أثره
على أى من منا ، أكبر بكثير من أثر أى منا عليه . هو قارئ
موسوعى . هو خبرة حياة تفوقنا جميعا . أنت تستفيد طوال الوقت سواء
شعرت أم لم تشعر . هو أولا أكثرنا جميعا قراءة . هو أكثرنا خبرة
وانفتاحا على جميع الفئات الاجتماعية ، قديمة أو معاصرة ، محلية أو
أجنبية ، ثرية أو فقيرة . ثانيا هو مهتم على نحو خاص بالأفلام
وبالنجوم ، مصرية وأجنبية ، قديمة وجديدة ، كل شىء .
باختصار ، كان موسوعة متنقلة
للسينما ، وإن ‑هكذا يجب القول‑ دون
أن يسمح لها أن تكون كل شىء فى حياته أو فى جوانب ثقافته . كان عضوا لكل
الجمعيات السينمائية بدءا من جمعية
نقاد السينما المصريين ، حتى سائر الجمعيات التى
تنشط فى عرض الأفلام . كان يبهرنا بحصوله أكثر من مرة على العضوية رقم 1 فى
تلك الجمعيات . لكن هذه قصة أخرى ، ترتبط أكثر بما ذكرته عن صرامة
الإنسان مع نفسه . فدقة نديم فى المواعيد والطقوس اليومية وفى الطعام وفى
ساعة النوم … إلخ ، دقة هائلة . وفى هذا السياق يأتى أن يدفع
اشتراكات الجمعيات وفواتير التليفون وفواتير أى شىء فى اليوم الأول فى الساعة
الأولى ! أيضا كان مسئول النشاط السينمائى بحزب التجمع .
كان يضع البرامج ، ويأتى بنفسه بنسخ الأفلام من كافة المصادر التى يمكن
تخيلها ، رسمية أو ثقافية أو أجنبية أو تجارية أو حتى شخصية . مكتبته
الڤيديوية رائعة وهائلة . كذا مكتبته المطبوعة . مشاركته فى كتابى ’ دليل أفلام الڤيديو ‘
( 1987 ) و’ دليل
الأفلام ‘ ( 1998 ) ، لم تكن أول
ولا آخر معاونة تلقيتها منه . كان يشاهد الأفلام ويصنع لى نسخة منها ،
أو على الأقل نسخة من عناوينها . للأسف كان خطه رديئا للغاية . كان
شيئا مثبطا جدا ، وربما لولاه لكان قد أصبح اليوم أحد أكبر كتابنا .
كان يملينى ما يريد قوله عن الفيلم ، تلخيصا ونقدا ، وطبعا كان ما
يقوله يظهر فى الكتاب كما هو . وطبعا طبعا لم يكن لكل هذا من أجر
بالمرة . فقط التعاملات العادية جدا بين الأصدقاء يطلب منك أو تطلب منه
نسخة من فيلم ما ، كتاب ما ، أو شىء كهذا . وطبعا فضائله أكبر
وأسرع دائما من أن يسدد دينها أحد . علميا وفكريا إسهاماته اليومية كانت تأخذ ،
فيما تأخذ ، صورة تصحيح المعلومات بمجرد القراءة . يقرأ ويرفع الهاتف
ليخبر المؤلف أو المؤلفة بغلطة استشعرها . مثل هذه الوقائع لا تعد ولا
تحصى ، وكلها يظهر أثره حين يعاد إصدار تلك المؤلفات مرة أو مرات
أخرى . أصدقاؤه يرددون تلك الوقائع طوال الوقت ، وربما أكثرها شهرة بينهم
أن صحح لمؤسسة صحفية عريقة بعض ما جاء فى تقرير مرجعى لها لما يسمى بالحالة
الدينية . أما أحدثها فهو واقعة حضرتها بنفسى ، حيث رفع التليفون
ليحادث صديقا ناقدا ألف كتابا يفترض فيه الموسوعية ، عن دور اليهود فى
السينما المصرية . وراح يقول له كيف نسيت نجمة إبراهيم ، كيف مر عليك
هذا ، وكيف فاتتك تلك . ذلك كله من مجرد الذاكرة ، من وحى
اللحظة ، ودون الرجوع لأى شىء أو أى أحد . فالأرجح أن لو كان ثمة مرجع
مطبوع أو حى لمثل تلك المعلومات لعثر عليه مؤلفو تلك الكتب من البداية . لذا ثالثا هو على نحو أخص موسوعة فى طوائف وأقليات ما قبل 1952 .
مثال هذا مدخل هذا
الموقع عن الفنانين والفنانات المصريين باختلاف خلفياتهم الدينية ممن تعلموا
فى مدارس كاثوليكية ، وأصبحن بالذات كفنانات الأكثر جرأة واتساقا مع الذات
فى زمن التزيف الدينى الحالى . نديم كان بالكامل تقريبا هو مرجعى الوحيد
فيه . أنت بمجرد أن تطرح الفكرة التى تنتويها ، حتى تفقد اعتزازك أو
خيلاءك بها ، إذ تكتشف أن لها أبعادا وأبعادا لم تكن لتخطر ببالك قط .
إن نديم يملك ، سواء علم أم يعلم ، قصد أم يقصد ، القدرة على
إثراء حيوات وعقول كل من عرفوه ، وأن يسبغ عليهم من تواضعه ما لم يكن ممكنا
أن يتعلموه فى مكان آخر . هو أيضا موسوعة فى القاهرة ككل ، وفى منطقة وسط المدينة بالأخص ، مبانيها محالها شوارعها ، وتاريخ كل منها
بالتفصيل ، بما فى ذلك ما كان قائما واندثر الآن . على الأقل من منا
يمكنه مثلا تذكر كل دور العرض السينمائى البائدة فى القاهرة وسطها
وأطرافها . حتى هو موسوعة
فى الميول الجنسية الخاصة أو المثلية لشهيرى وشهيرات المجتمع المصرى . ولا تعرف أبدا كيف تسنى له معرفة كل هذه المعلومات ، سوى
فضوله الشديد للمعرفة . زائد أنه على اتصال عميق شخصى وحميم بكافة الأوساط
مهما تنوعت أو بدت غريبة ، بحيث لن تستغرب إن أفضى له أى أحد بأدق أسراره
الشخصية ! بكلمة ، لو كانت مكتبتى أو حواسيبى قد احترقت
كلها اليوم ، لكانت خسارتى من الناحية المهنية المحضة أهون بكثير من فقدانى
لنديم ميشيل . ذاكرة نديم هى مكتبتى للكتب النادرة ، وأرشيڤى
للمعلومات الفريدة المتفردة . إنها الشىء الذى يستحيل أن تعثر عليه فى مكان
آخر . وأزعم أنه كان كذلك للكثيرين والكثيرين . … المركز الكاثوليكى للسينما قصة أخرى قائمة بذاتها . كل من يكتب عن السينما للصحافة أو
للتليڤزيون ، يذهب بالضرورة تقريبا ، لهذا المركز لاستقاء
المعلومات . كل واحد من هؤلاء مدين لنديم ميشيل على نحو أو آخر ،
وتأكيدا أكبر بكثير مما يتخيل . منذ رحل الناقد والمؤرخ السينمائى
الكبير ، أو الأكبر ، فريد
المزاوى ، ويحاول الأب يوسف مظلوم مواصلة الجهد الأرشيڤى
والمعلوماتى الذى جعل من هذا المركز القاعدة الأكبر لمعلومات السينما فى
مصر . لم يحقق المركز الكثير فى هذا الشأن ، إلا عندما تقدم له نديم
طوعيا ، وأقول من جيبه الشخصى لفترة طويلة . بحسه الثقافى والتطوعى
معا ، استشعر أن ثمة خللا ما قد حدث ، وتقدم لملء الفراغ ،
الفجوة التى ارتأها تحدث فى معلومات السينما وعتادها النقدى فى مصر . كان
يشترى أغلب إن لم أقل كل الصحف والمجلات الناطقة بالعربية . وكانت البداية
أن راح يهديها كلها للمركز الكاثوليكى بعد أن يقرأها . كانت ثروة
هائلة ، على الأقل لأن أحدا لم يكن ليحصر أصلا كل ما يصدر بدقة وحصرية
تامة ، ثم قراءتها وتنويه باحثى المركز لما يراه مهما منها . المركز
كما نعلم جميعا ، جهة محدودة الموارد ، وبعد فترة بدأوا يحاولون تعويض
نديم بثمن تلك المطبوعات المتزايد . لكنه كان يصر طوال الوقت على أن يكون البعض
منها هدايا بلا مقابل ، زائد بالطبع أنه لم يكن يتقبل أى مقابل مادى
للمجهود الهائل نفسه . بالطبع لا أحد منا يتمنى أن يشعر أحد أو مكان
بالضعف أو التراجع ، لكن الحقيقة الواقعة أن نديم ليس بالشخص الذى يمكن
تعويضه أبدا . وإلى أولئك جميعا ‑بالذات جيل معدى التليڤزيون
الشبان والشابات‑ أقول إن لاحظتم بعد عام أو عامين ، أن بدأت تظهر
فجوات أو فترات ضعف فى مواد المركز الكاثوليكى للسينما ، أرجوكم أن تذكروا
ساعتها اسم شخص يدعى نديم ميشيل ! آخر خدمة يقدمها نديم للمركز
الكاثوليكى : أوصى بمكتبته إليه . … لو سألتنى قبل ستة شهور عن الشىء الذى يمكن أن يكسر نديم ، لضحكت فى وجهك ساخرا ، وقائلا بثقة عمياء ’ لا
شىء ! ‘ . فى الأسابيع الأخيرة بدا أن هذا ليس صحيحا جدا .
تفسيرى الشخصى ، ولحد ما يوافقنى البعض عليه ، هو إصابة أخته نادية
بفشل كلوى أقعدها بحيث تيقن أنها لن تأتى لمصر مجددا فى زيارتها الصيفية المعتادة
( التى بالمناسبة أظفر منها أنا شخصيا ببعض هدايا الكتب
القيمة ) . هنا فقط انكسر نديم . لا شىء آخر تغير . ماديا
هو كما قلنا أفسح من الحياة . النقود تأتى كى تنفق ، ولا مشاكل
بالمرة . من حيث الأصدقاء وزياراتهم وتقديرهم له أيضا لا مشكلة
بالمرة ، بل هى فى ازدياد مستمر كما ونوعا . هو كما قلت تفسير شبه
شخصى . مرض أخته هو الشىء النوعى الوحيد الذى تغير . بكى فى
لحظتها . ثم تماسك وقلنا هذا نديم ولن ينال منه شىء . لكن تدريجيا
بدأنا نشعر أن شيئا خبيثا قد تسلل لروحه . لم تمر مرة أقابله فيها منذ سنوات طويلة حتى أمازحه
’ هتموت إمتى ؟ ‘ ، وكل مرة كان يخترع إجابة مبتكرة تذكرك بأنه أسمى من
الحياة ، حيث إن جزءا من هذا بالضرورة أنه لا يأبه الموت . فى المرات
الأخيرة ، كانت إجاباته أكثر جدية . كان حزينا ومتألما من
الداخل . يقولون طبيا إن لدى الإنسان شيئا اسمه إرادة الحياة ، وإن
بإمكان المرء التمسك بها أو التخلى عنها عمدا . ذوت تدريجيا روح نديم
المعتادة المتوقدة ، حتى تلاشت فى لحظة سكينة هادئة . ظل حتى آخر لحظة
فيها يمارس شخصيته المعتادة فى الاتصال بأصدقائه الذين لم يرهم لفترة ما ،
والاطمئنان عليهم ، ذلك قبل أن يخلد للنوم . النوم هذه المرة لم يأت
كالمعتاد ، بل سبقته أعراض هبوط بالقلب . جاءه بعض الأصدقاء ، فى
مقدمتهم صديقه الأخلص والإنسان الحق محمد
أمين . ولم ينتظر كثيرا بعدها ، وكأنه تعمد
أيضا أن يبقى قطعة من روحه حتى يودعهم بها . أما أنا فقد كانت لحظة كافية
ومريحة جدا لى ، أن ألقى فى الصباح التالى نظرة الوداع الأخير عليه قبل
هبوطه للثرى ، محتضنا رفات والدته كوصيته ، فى المدافن اليونانية
بكنيسة مار جرجس الأثرية بحى مصر القديمة . هذا ما فعله نديم مع لعبة الحياة والموت فى شهوره
الأخيرة . على مسئوليتى أقول إنه لم يكره للحظة الحياة التى طالما ركبها
وشغف بها ، فقط عندما سأم منها دعا الموت إليه ، فقط أيضا كى يقابله
بشموخ . ذوت روحه نعم ، بتدرج نعم ، لكن الأمر كان أسرع من أن
نستوعبه نحن بعقولنا البطيئة ، أو حتى نتخيل مدى خطورته ، ناهيك أن
نبادر لفعل شىء حياله . لم يشأ أن يهزمه الموت أو المرض أو حتى الحزن رغما
عنه . لم يشأ إلا أن يكون القرار قراره هو . فقط أراد أن يثبت أنه ليس فقط أكبر من الحياة ، إنما أيضا أكبر من
الموت ، أكبر من كل شىء ! … ملحوظة آمل أن أكون صادقا فيها : كلمة
’ على مسئوليتى ‘ هذه ، أقصد بها المعنى الأعم . أقصد أن كل
ما كتبته هنا هو تقييمات موضوعية لهذا الصديق . لا كصديق ، ولا
كحبيب ، ولا كراحل لم ولن نفيق من صدمة رحيله ، إنما بقدر الإمكان
ولأبعد مدى فيما أظن ، أكتبها ككاتب يحرص على سمعة مصداقيته ومستعد أو
متعود على المحاسبة على كل كلمة يقولها . إنها فقط نديم كما عرفته بعقلى
وكما توحدت معه بوجدانى . الكل أحبك واحترمك ، لكن الحب كان جارفا
بحيث لا يأخذ الكلام عن الاحترام حقه منهم . ترى هل يؤذيك لو قلت لك إن احترامى لك جاء أولا ، ونما الحب فيما
بعد ؟ إليك ‑بالحب والاحترام معا‑
نهدى كل التحية وكل السلام ، بصفتك أحد أجمل الأشياء التى حدثت فى حياة كل
منا ، بصفتك عنصر نادر فى العشيرة الإنسانية يستحيل أن نجد من يطابقة أو
حتى يقترب منه ، أو ربما حتى بصفتك عشيرة قائمة بذاتها انقرضت
برحيلك ! …
صديقى نديم ، سأقول لك سرا أعترف به لأول
مرة . كنت أستغرب قبل نحو أربع سنوات لماذا تفرط فى صورك الشخصية لى
بسهولة ، كلما طلبتها منك . وكان كل طلبك فى المقابل أن أقدم لك نسخة
تفقد ( سكان ) لواحدة فقط مختارة منها هى أكبرها حجما ، صورتك
شابا نسبيا ، والموقعة من أحد أشهر مصورى وسط القاهرة . وكان كل ما
فعلته أنا هو أن وعدتك بأن تكون أعلى جودة من لو ذهبت بها لمكتب تجارى سيعاملها
بتسرع ، وطبعا ستكون هذه النسخة الإليكترونية معك تعيد استخدامها متى
شئت ، زائد أنى بداهة سأضع نسخة من ملف الصورة على موقع الإنترنيت حتى
يجدها من يريد . حتى رسم الكاريكاتير الفريد الذى رسمه لك الفنان الموهوب نبيل تاج ،
( أحد القليلين الذين التقطوا أعظم صفتين لك إطلاقا ، صفتى المفكر
والمتواضع ، التقطهما معا من وضع پروفايل لم يكن متوقعا لأى
منا ! ) ، هذا الرسم أعطيتنى إياه بلا شروط إطلاقا ، وبلا
تردد . فقط وجدتك سعدت بقرص السى دى ، وذهبت به لاستخراج نسخ
فوتوجرافية من تلك الصورة ، ترسلها لأقاربك فى الداخل أو الخارج ، أو
تهديها لأصدقائك . بصراحة ، كنت أعتقد أنى أذكى أو أشطر منك ،
وأنى الرابح تماما فى مثل تلك الصفقة . لقد حصلت على الأصول التى لا تعوض
أبدا ، ورحت أزين بها جدران منزلى وتحت الأسطح الزجاجية بكل أنواعها وفى كل
الغرف ، هذا بينما أنت نفسك لا تملكها . اليوم فقط ، وحين أصبحت
هذه الصور لا تقدر بثمن ، يتهافت عليها كل أصدقائك ، وترسل
للصحف ، ونزمع تزيين كتاب تذكارى لك بها … إلخ ، اكتشفت كم كان
قدر حماقتى . لقد كنت تكلفنى بأن أخلد ذكراك ، ويا لغبائى لم أفهم فى
حينه . ائتمنتى على أغلى ذكريات حياتك ، لكن خدعتنى ولم تخبرنى أنها
أمانة أثقل من أن أفرح بها ! لقد كان هذا آخر مقلب ، مقلب ما بعد
الرحيل ، وكان أكثرها جميعا وجيعة وقسوة ! … السؤال فقط ، ما قيمة بعض الصور
بالنسبة لما يوجد بالفعل من هائل ذكراك فى قلوب محبيك ؟ هل كان سيختلف
الأمر سواء وثقت أنى سأجيد حفظها أم أنى من جانبى أهملتها وأضعتها ؟ هل كان
المقلب يستحق أصلا كل هذا التخطيط والعناء منك ؟ … آخر استشارة فنية : قطعا ما كنت لأجرؤ للكتابة عن فيلم ’ عمارة يعقوبيان ‘ ، قبل أن
أسال نديم ميشيل رأيه فيه ، أو بالأحرى دون أن أشاهده معه . عادة أنا
أستطلع رأيه فى كل فيلم شاهده ، ناهيك عن أنى عامة لا أكتب عن فيلم قبل جمع
الحد الأدنى من المعلومات عن الأشياء التى يتحدث عنها ، أيا ما كانت جنسيته
أو الحقبة التى يدور فيها … إلخ . هذه المرة الوضع كان خاصا جدا وعلى نحو يكاد يكون غير
مسبوق ! هذا بدأ مع ظهور الرواية نفسها وما تبعها
من شهرة . الصفحة الأولى جدا للرواية ، راحت تصف لنا رحلة زكى الدسوقى
الصباحية اليومية فى شوارع وسط القاهرة . ثم راحت الصفحات التالية تصف
أسلوبه فى الاستمتاع بالحياة ، بتحية الجميع فى الشارع ،
بالخمر ، بمعاكسة الفتيات ، بفحولته ، ببحثه عن لحظة دفء
… إلخ . هذه الصفحات قفزت إلى ذهنى كلها ومن اللحظة الأولى لقراءتى لها ،
بصورة نديم ميشيل ، وعاداته وطقوسه اليومية ، فضلا عن انتمائه الروحى
والوجدانى لوسط المدينة ، وبالأخص لحياة ما قبل 1952 وأقلياتها وأساليب
حياتها وقيمها الرفيعة … إلخ . كذلك هناك قصص حبه الرومانسية القديمة
التى لا تنمحى أبدا . أما وجه الشبه الأعجب حقا هو ما جاء بأواخر
الرواية ، أنه كلما تقدم العمر بالرجل لم يكن ليمس امرأة قبل أن يتكون بينه
وبينها الحد الأدنى من الود إن لم نقل العاطفة ( فى الأيام الأخيرة كان بعض
أصدقاء نديم يداعبونه بمطلع الأغنية التى تقول ’ الواد قلبه بيوجعه عاوز حد
يدلعه ! ‘ ) . طبعا قلت لنديم كل ذلك الذى تخيلته فى
الرواية فى حينه لدى قراءتنا لذات النسخة منها ، هذه التى هرولت فى اليوم
التالى لأدفع بها إليه ، وكأنها حدث شخصى يهمه . المهم ، وجدته
الآن قد سبقنى لمشاهدة الفيلم ، قبلت بالأمر ، ومن ثم عدت إليه
لأناقشه فيه . كالعادة ، أكد لى أشياء وصحح لى أشياء ، ومن ثم
كانت مراجعتى التى قرأتها . فقط يجب
أن أنوه أن الفارق بين نديم ميشيل وزكى الدسوقى شيئان واضحان : أن أخته
أقرب للملائكية من أى شىء آخر ( ربما فقط فيما عدا حبها الزائد عن الحد
لأحفادها ) ، وأن حياته لم تكن خلوا من الأصدقاء ، بل هى فيض
منهم لحد يمكن أن يتحدى به كل الكوكب وكل موسوعات السجلات القياسية ! آخر استشارة له هو منى : ما هى سنوات إنتاج أفلام چيمس ديين الثلاثة ؟ آخر كتاب قرأه نديم : ’ بنات الرياض ‘ تأليف رجاء الصانع . آخر نكتة رددها نديم : واحد صعيدى قرر الزواج من نانسى عجرم . عرض الأمر على
زوجته ، فردت ’ إللى تشوفه يا بوى ‘ . قال سأعدل
بينكما ، قالت ’ إللى تشوفه يا بوى ‘ . قال أنتى ثلاثة أيام
وهى أربعة أيام ، ردت بغضب ’ ما عدل يا بوى ‘ . قال
’ صوح ! أنتى أم العيال ، أنتى أربعة أيام وهى ثلاثة
أيام ‘ . واصلت غضبها ’ ما عدل يا بوى ‘ . ’ أنتى
خمسة وهى اتنين ‘ . زاد غضبها ’ ما عدل يا بوى ‘ .
’ أنتى ستة وهى يوم ‘ ، وأيضا ردت ’ ما عدل يا
بوى ‘ . سألها باستغراب ’ وإيه العدل أومال ؟ ‘ ،
فردت عليه ’ العدل أنت يوم وأنا يوم ! ‘ . آخر مطبوعة احتفظ لى بها
نديم : جريدة الأهرام 5 أغسطس 2006 ! اكتب رأيك هنا … أحزننى
جدا جدا هذا الخبر المؤلم عن نديم ميشيل . فكما قال فيه الصديق العزيز
مدحت ، كان أفسح من الحياة . كان باسما لأصدقائه ولكل من يحبهم .
دائم الحركة يحب السينما ومثقف واسع الاطلاع ومضياف وكريم . تعازى الشديدة
لأخته العزيزة وللصديق مدحت وللصديقة د . عفاف مرعى وللأصدقاء كلهم .
وهكذا الحياة . م . سعيد رمضان - أسوان 8 أغسطس 2006 : عقد
أصدقاء نديم ميشيل لقاء موسعا على مقهى زهرة البستان اختتموا به مسيرة 72 ساعة
من الحداد المتواصل عليه ، وتقبل العزاء يوميا فى أماكن مختلفة .
16 سپتمبر 2006 : أقام حزب
التجمع بمقره الرئيسى بوسط مدينة القاهرة ، أمسية تأبينية لنديم
ميشيل ، توالت فيها كلمات الأصدقاء عنه ، وصدر كتاب بعنوان ‘ فى وداع نديم ’ ، أسهمت فيه بالكتابة الغالبية
الساحقة من أصدقائه ، وكان لى شرف أن يحظى المدخل أعلاه بالتعميم
فيه . عكف على إنتاج الكتاب ‑بالأخص‑ كل من محمد أمين ومدحت
محفوظ وحسام حافظ ولاقى استحسانا كبيرا بصفته كتاب غنى متميز بين كتب تأبين
المثقفين المصريين الشبيهة . 6 أغسطس 2007 :
احتفلنا عصرا ‑حسام حافظ وأنا‑ بذكرى مرور سنة على رحيل نديم ميشيل
بزيارة مقبرته فى مدافن كنيسة الروم الأرثوذوكس بمصر القديمة ، ذلك قبل أن
ننضم لحفل ذكراه بمقر حزب التجمع ، والذى امتد بعد ذلك بعد حاشد من أحباء
الفقيد على مقهى زهرة البستان ، ذلك حتى وقت متأخر من الليل . 3 يونيو 2010 : عقد
اليوم فى منزل الصديق فهمى فؤاد لقاء تكريم لذكرى نديم ميشيل بمناسبة صدور كتاب مكاوى سعيد ‘ مقتنيات وسط البلد ’ عن منطقة قلب مدينة القاهرة ، وقرأ الكاتب نبيل عبد الفتاح
وبعض الحاضرين الفصل المعنون ‘ عاشق الحياة ’ عن شخصية الراحل .
تلقى المؤلف تصفيق وتحيات الحاضرين وتوالت كلماتهم فى ذكرياتهم الشخصية عن
نديم ، مع إجماع على ذكراه ظلت وستظل حية لأن أى ممن عرفوه يستحيل عليهم
إلا تذكره . … الأحد
11 سپتمبر 2011 : … الأحد
23 أكتوبر 2011 : … |