|
|
|
سينما ما بعد‑الإنسان
هيتشكوك وكيوبريك وبعض الآخرين
Post-Human
Cinema
Hitchcock, Kubrick and Some Others
NEW:
[Last Minor or Link Updates: Tuesday, July 05, 2011].
December 18, 2007: Special
Guest Entry: Al-Ahram daily’s book review of Fantastic
Cinema.
June 29, 2005: War
of the Worlds: A Great Post-Human Material Hard to Be Corrupted (Even by Steven
‘E.T.’ Spielberg)!
February 11, 2004: The
Lord of the Rings —or the whole dark side of Humanity collective mind, is it
about Islam?
June 19, 2003: The
Matrix Rebanned! The inside story plus a movie review.
September 18, 2002: Minority Report, a good ‘Rashomonian’ movie but Steven ‘The Good Jew’ Spielberg cannot talk deep about our harsh futures!
October 17, 2001: How far did the humane Steven Spielberg spoiled the Stanley ‘Post-Human’ Kubrick’s A.I.?
July 22, 2001: The ugly confusion between Surrealism and Post-Modernism.
June 1, 2001: The first Web introduction to Post-Human Cinema.
March 21, 2001: Hannibal —or How I Learned to Stop Worrying and Love the Post-Human.
…
ê Please wait until the rest of page downloads ê
سينما ما بعد‑الإنسان The Post-Human Cinema
السينما المعادية للإنسان
هيتشكوك بأسلوبه الساخر لم يقدم قط نموذجا بشريا يستحق
حتى مجرد الاهتمام ، ويمكن كتابة مجلدات فى هذا عن كل شخصية بل وكل لقطة فى
أفلامه . وفقط على سبيل المثال ، أبطاله المغاوير هم ذلك الكائن
المغرور الأرعن فى ’ شمال الشمال الغربى ‘ ، أو الكائن الذى لا
يرى شيئا مما يرى فى ’ سايكو ‘ ، أو هم كتل اللحم التى تنهشها
’ الطيور ‘ ثم تعفو عنها بأريحية محضة من جانبها . وفوق كل هذا
وذاك فأفلامه فى حد ذاتها بيان عملى لمدى حمق مشاهديها أنفسهم ومدى السهولة التى
يمكن بها تضليلهم والتغرير بهم عقليا وعاطفيا سواء بسواء .
المشاهدون ، ومن ثم كل البشر ، هم بالنسبة له كما ضفدع على منضدة
مختبر . لو أردت له أن يحرك ذراعه اليمنى سنتيمترا إلى اليمين ، كل ما
عليك أن تعطيه تيارا قيمته 1 ڤولت فى ساقه اليسرى . وإذا أردت 2
سنتيمترا فليكن 2 ڤولت ، وإن أردت لليسار ، فاعكس اتجاه التيار
أو اعكس موضع السلك . هذا كل الأمر ! أما كيوبريك فقد قدم أيضا كل هذا ، وبكفى
مثالا تلاعبه بعواطفنا ثلاث مرات مع ثم ضد ثم مع مرة أخرى ، بطل ’ برتقالة آلية الدقة ‘ ،
وكأنه بكل العنف يقرعنا انظروا لأنفسكم كم كنتم أغبياء تخدعكم ظواهر
الأمور . مثلا أيضا اعتاد السخرية من فيلم رهيب مثل ’ قائمة شندلر ‘ ، قائلا ’ إنه عن النجاح ،
أليس كذلك ؟ ‘ . وكان يعد لفيلم عن الهولوكوست تعتقد أرملته أن
مشاهدا واحدا ما كان ليستطيع تحمله . كما هيتشكوك وشخصياته الكاريكاتورية
المثيرة للشفقة دائما أبدا ، كيوبريك لم يقدم أى إنسان
سوى أو قوى أو جدير بالاحترام إلا مرة واحدة ، هى ديڤيد ’ 2001
—أوديسا الفضاء ‘ . وعندما تورط وفعل هذا وجد لزاما عليه أن يكافئ
شخصا بقدر من الشجاعة والإرادة مثل ديڤيد ، بأن يرتب له ميلادا ثانيا
اندماجيا أسطوريا مع آلهة الذكاء الكونى نفسها وليس أقل ، بمعنى أن
مواصفاته تستحق فى الواقع الانتماء به لشىء لا إنسانى . أما وصيته الأخيرة
فى ’ عيون عريضة الغلق ‘ فهى طبقا لكلمة النهاية جدا ‑البذيئة جدا‑
للفيلم ولحياة كيوبريك المهنية والفكرية أيضا ، أن مارسوا الجنس ولا شىء
إلا الجنس ، فليس من المناسب بل إنه من الخطر جدا للإنسان أن يفكر أو حتى
أن يحلم كما قالت دراما هذا الفيلم ، ويمكن أيضا كتابة مجلدات فى هذا وفيما
قالته أفلامه الأخرى . فقط نقول : كم نفتقدك بكل الحق يا ستانلى كووبريك . كان بوسع المرء
الانتظار عشر سنوات من أجل فيلمك التالى ، أما الآن فانتظار العمر كله لم
يعد يجدى نفعا !
المثير للفضول فى السينما
المعادية للإنسان أنها بعيدا عن هيتشكوك وكيوبريك هى عملة نادرة للغاية ، على الأقل بحكم طبيعة الزبون الذى تباع له ، فهى لا
تغازله ولا تنفخ فى غروره ، إنما تقزمه وتحط من شأنه لأبعد مدى ممكن .
أو بمصطلحات السياسة
هى سينما
يمينية للغاية ،
ومثلها نجاحها فى الانتخابات أمر صعب جدا لأن الكتلة الرئيسة من أصحاب التصويتات
هم الدهماء ممن يجذبهم تضليل اليسار ونفخه فى قوتهم وعظمتهم ، ولا يعجبهم
كثيرا أن تصفهم أو تعاملهم كالضفادع ( طبعا هذا لا شأن له بمن هو المفيد
حقا للإنسان ، اليمين أم اليسار ، من يبدأ بتعريفه بحقيقته أولا ومن
ثم يدله على بداية الطريق الصحيح للنهضة والارتقاء بوضعيته ، أم من يواصل
إغراقه فى غيبوبة الأكاذيب وينتهى به لاشتراكية الفقر للجميع . وهذه قصة
أخرى ! ) . السينما المعادية
للإنسان ، أو ربما ليست هذه تسميتها الدقيقة إنما السينما المحتقرة للإنسان
أو حتى ربما بالأحرى السينما التى تريد الأخذ بيد الإنسان ، هى سينما يجب أن تسمو فوق إنسانيتك حتى تفهم المغزى الحقيقى لها ، ناهيك
بالطبع عن أن تصنعها . لكن المؤكد ساعتها أنك سترى الدنيا غير
الدنيا ، وتستنير فجأة أن الإنسان ما هو إلا مجرد عشيرة بيولوچية species أخرى تخطتها أو كادت شجرة التطور لهذا الكوكب المخضرم الذى خبر أشكال
الحياة المختلفة لأربعة بلايين كاملة من السنين . رغم هذا فهناك بعض الأفلام التى اقتربت بدرجة ما من
الضريح ضد‑الإنسانى لهيتشكوك الأستاذ وكيوبريك العبقرى كما يوصفان
عادة . هذه الأفلام هى الأفلام
’ التى تعقر ‘ ، مستعيرين فى هذا
التعبير الوضاء لديڤيد فينشر موجه فيلم ’ 7 خطايا ‘ . هذه
على العكس أفلام إنسانية الولاء ، أبطالها أناس يستحقون الاحترام وتوحد
المشاهد معهم ، ينتصرون هم وإنسانيتهم فى النهاية ، لكن رغم ذلك فإن
هذه الأفلام ككل وبطريق غير مباشر ومن خلال جبروت أشرارها تحديدا ، تترك
أثرا مؤرقا عميقا بمدى هشاشة الإنسان بيولوچيا ونفسيا وعقليا . المثال الذى
اختاره فينشر هو ’ الفك المفترس ‘ الذى منعه من النزول للبحر إلى
الأبد ( عامة كل أفلام الرعب والسيريالية تحقر من الإنسان وقدراته بدرجة أو
بأخرى ، بل إن منها ما يرقى صراحة لمفهوم معاداة الإنسان مثل الديڤيدين
المولودين معا سنة 1946 كرونينبيرج
ولينش الأقرب لنسخة طوائفية مصغرة من عملاقى هذه السينما ، لا سيما
كرونينبيرج الذى تبناها بوضوح ومنذ بداياته ) . أيضا من الأمثلة
المتنوعة البارزة التى تخرج منها بذلك الانطباع الجسيم بالضالة رغم توجهها
الإنسانى فى المحصلة الأخيرة فيلم ’ المدمر ‘ بجزئيه
و’ هاللوويين ‘ و’ يوم الاستقلال ‘ و’ المتمرد ‘ The Matrix و’ المواجهة الصعبة ‘ Face/Off و’ 12 قردا ‘
( المستوحى بدوره عن كلاسية كريس ماركر القصيرة الهائلة بمجرد الصور
الساكنة’ المطار ‘ La Jetée والمقصود هنا
أورلى ) ، هانيبال —أو
كيف تعلمت أن أكف عن القلق وأحب ما بعد‑الإنسان Hannibal —or How I Learned to Stop Worrying and Love the
Post-Human
القيمة الخاصة لصمت الحملان أنه يقدم القوة الجبارة
التى تقزم الإنسان وتبطش به كقوى تأتى من داخله بل وتحديدا من أفضل ما فيه من
أشياء . إننا لسنا فى حاجة لسمكة قرش عملاقة أو لأطباق طائرة هائلة حتى نحس
بحمق تخايلنا بإنسانيتنا ، بل قدم الفيلم مسخا متوحشا من قلب صميم الإنسانية
كل ما فعله أن استوعب أفضل ما فيها من علم وثقافة وذوق رفيع فنى وأدبى ،
ومنها معا تولدت قدرته على السمو فوق بنى عرقه البيولوچى بل ويلتهمهم بالمعنى
الحرفى للكلمة . مرحبا إلى آكل لحوم البشر الأشهر : دكتور هانيبال
ليكتر . طبعا ’ صمت الحملان ‘ 1991 ليس الفيلم الأول
عن هانيبال ليكتر ، فرواية توماس هاريس الأولى عنه ’ التنين
الأحمر ‘ قدمت سينمائيا فى عام 1986 فى فيلم بعنوان’ قانص
البشر ‘ . لكن ’ صمت الحملان ‘ كرواية وكفيلم لم يكنا مجرد
ترقية لها من شخصية هامشية إلى محور أساس ، بل الفارق الرئيس هو المواهب
الكبيرة التى قدمت الفيلم الجديد وحققت له المجد فى الأوسكار وشباك التذاكر
معا ، وما يكمن وراء هذا هو تأكيدا تلك الرؤية المباغتة الصارمة التى قدموه
بها . هانيبال فى ’ صمت الحملان ‘ أو فى فيلمه
الجديد فائق النجاح حاليا والذى يسمى ببساطة ’ هانيبال ‘ ، هو
آلة قتل متحركة فائقة لا يمكنك تخيلها قط دون أن تراها . فبأقل لمسة ممكنة
على الوجه أو فى البطن تصرع الضحية فى لحظة . بيولوچيا هو أيضا صاحب قدرات
سمع وشم ولمس مثالية . وأكل لحوم البشر هو نوع من التطور الدارونى .
فهناك أولا مملكة النبات ، ثم الحيوانات آكلة النبات ، ثم الحيوانات
آكلة الحلوانات آكلة النبات . ولا يوجد حيوانات آكلة للحيوانات آكلة
الحيوانات سوى البشر أكلة لحوم البشر ، إو إذا ما اضطرت بعض الحيوانات
اللاحمة لأكل الإنسان عرضا بهدف الدفاع عن نفسها . ما نفهمه مما لم تقله
الأفلام ولا الروايات ، أن هذا ’ التطور ‘ كان لا بد وأن يرتقى
بالضرورة بدكتور ليكتر إلى مصاف جديد فى شجرة التطور ، يقارن فقط بمصاف
الشياطين والآلهة كليى القدرة . مع ذلك ليس هناك شىء ما خارق للطبيعة يمنحه
مثلا القدرة على قراءة أفكار الناس أو نقل أفكاره إليهم حتى لو كانت أن يمزق
الإنسان وجهه ويلقيه للكلاب . إنه فقط اكتسب كل هذا من خلال الذكاء
والثقافة والاطلاع ، فهو يعرف كل شىء عن كل شىء فى كل علم أو حقل
معرفة ، ولا يقل فى هذا عن أى إله معروف ( تركع له الوحوش
والبهائم ، ويرى ما فى الضمائر والنفوس ، كذلك فى الرواية نراه يعكف
على وضع المعادلات لنظرية الوتر الفائق . والحقيقة أنه إذا ما أضفنا قدرته
على الحكم الصائب على من يستحق التكريم من البشر ومن يستحق الإفناء ، نجد
فى الواقع أنه أفضل من جميع الآلهة المعروفة لنا حتى الآن . ولعل أى منا لم
يتوسم أبدا يوما إلها أعظم كى يعبده ! ) . ( الجدير بالذكر
أيضا أن النجم أنتونى هوپكينز هو صاحب الكثير من الإضافات للشخصية ولوازمها من
عندياته ، وهى أكثر ما يعتز علنا به فى حياته المهنية ، ومن المهم أن
نعلم أن أغلب ما رأينا من لمسات مميزة جدا للشخصية لم يأت من الرواية أو من كاتب
السيناريو أو من المخرج ، إنما من أنتونى هوپكينز شخصيا . محاكاة صوت
زمجرة تناول الطعام slurp أو محاكاة طريقة كاثرين هيپورن فى النشوة
وكأنها تسمع موسيقى . كما يقول إن هانيبال لم يكن ليرمش العينين أبدا وهو
يتكلم ، وهذا شىء لاحظه هو بنفسه دون أن ينبهه إليه أحد أو يقرأ أحدا كتب
عنه ، ذلك حين شاهد يوما شريط ڤيديو للسفاح الشهير تشارلز
مانسون . حتى اللعب بالألفاظ الجنسية على كلمة chianti أو المحاكاة التحقيرية المستفزة للكنة البطلة غرب الڤيرچينية
هى أشياء أتى بها أنتونى هوپكينز من عفو الخاطر من عنده فى موقع التصوير ،
ولعلها أصبحت هى أكثر ما نذكره من الشخصية ) . فى مقابل دكتور ليكتر هناك وكيلة التحقيقات
الفيدرالية كلاريس ستارلينج التى أرادت الاستفادة من خبراته فى علم النفس وهو
حبيس فى الجزء السابق كى تتمكن من القبض على قاتل متسلسل وضيع ، والتى تريد
الآن القبض عليه وقد أصبح طليقا يتمتع بتدريس وقائع بعض من أقسى فصول العنف فى
تاريخ الديانة المسيحية فى واحد من معاقلها التاريخية فى فلورنسا إيطاليا ،
ويلقن الناس دروسا عملية جديدة فى النهايات المؤسفة لخطيئة الجشع ( الطريف
أن الفيلم الجديد يبدأ بعبارة ماجنة التهكم تصف هانيبال بأنه الطبيب النفسى الذى
لا يعترف بأن السايكولوچى علم ! ) . لقد كنت ممن لاحظوا فى حينه أن هذه الأسماء تحتمل
ما هو رمزى ، فليكتر قريبة من Lucifer أى إبليس وكلاريس توحى
بـ Christ
أى المسيح . وأن القصة فى صمت الحملان أقرب لتنويعة على
حياة المسيح ، هذا الذى يكلفه الإله بالرسالة فى المشاهد الأولى فيمر
بسلسلة تجارب يختبره فيها الشيطان قبل أن يصبح مؤهلا جديا للرسالة ، وهذه
الرسالة أنه حمل الرب الموكل إليه صمت الحملان البشرية المتوجعة ، وهلم
جرا . كما لاحظت أن إبليس فى الفيلم والإنجيل ينفذ للناس من خلال
آذانهم ، وأنه يأكل اللسان تحديدا من ضحاياه ذلك أن أخشى ما يخشاه هو
الكلمة ، والكلمة هو الرب حسب أيضا الإنجيل . لكن ماذا بقى من قيمة لهذه النظرية بعد الفيلم
الجديد ؟ إن هانيبال لم يعد إبليسا أصلا ، ولا يأتى إلا بأفعال قتل
نبيلة للغاية ضد نماذج الحثالة الوجيهة وغير الوجيهة فى مجتمعاتنا
المعاصرة ، بل لم يعد ذلك أشد سفورا وحسب الآن ، إنما بات مركزا
لتعاطف وحماس المتفرج الانفعالى الصريح والمباشر طوال الفيلم . أيضا
هانيبال لم يعد يأكل الألسنة فقط بل يأكل المخ والخصيتين وربما كل شىء .
بالمثل ما قيمة تلك النظرية وكلاريس‑المسيح أصبحت هنا سافرة العلمانية
وليست مجرد ابنة لأسرة لوثرية متدينة فى ’ صمت الحملان ‘ أو على الأقل
لم يكد يعنينا شيئا من معتقداتها الدينية آنذاك ؟ الحقيقة أن نظرية كون الفيلم هو قصة المسيح لا تقول
شيئا فى حد ذاتها . فصمت الحملان هو فى التحليل الأخير فيلم إنسانى
التعهدات من بطولة كلاريس ستارلينج ، ومهما كان من شأن هانيبال ليكتر فيه
ومهما أربك لنا من موجات مخنا فهو ليس البطل الذى يعنينا مصيره …الجديد أن فيلم
’ هانيبال ‘ ليس كذلك ! إذن بلمسة أعجوبية فاحشة الخيال الفكرى يتوحد
المسيح والإلحاد . لكن مهلا : ما المشكلة حقا فى هذا ؟ المسيح هو
ابن الإنسان الذى صار إلها ، والإلحاد هو تأليه الإنسان ، إذن لا فرق
يذكر من حيث الجوهر ! التحفظ الوحيد أن تأليه الإنسان الذى بات هو نفسه
عقيدة ودوجما لم يعد بالشىء الحداثى أو التقدمى اليوم ، فى عصر الموجة
الثالثة من الآلهة : الإله بعد‑الإنسان ، أو الـ post-human .
ألفريد هيتشكوك وستانلى كيوبريك وهانيبال ليكتر هم فى السينما مندوبو هذا الجيل
الجديد من الآلهة ، و’ هانيبال ‘ هو أول بيان عريض سافر
يدشنه . نعم لقد خلص الفيلم الجديد بنفس اللمسة السحرية
هانيبال من ظله الإبليسى ، وإذا كان من الجائز ولو لوهلة تمثل فيلم صمت
الحملان كعمل يمنطق عبادة الشيطان ، فالمؤكد أن ’ هانيبال ‘ ليس
كذلك لأى وهلة . هانيبال هنا هو بعد‑إنسان بكل ما تحمله الكلمة من
محتوى مادى بدنى عقلى وواقعى ، وهو خال من كل بعد أسطورى أو حتى رمزى
باستثناء أنه كشخص وكمعنى يشير فى حد ذاته لما سيكون عليه المستقبل الذى هو
بدوره مستقبل مادى وواقعى ، بل نقول إن محاولة العثور على مثل تلك الرموز
هى إضعاف لفيلم هو فى حقيقته أكثر صفاء فى الرؤية وعظمة فى الفكر من سابقه
بكثير .
رائد الذكاء الآلى ( أو الاصطناعى فى التسمية
الشائعة ) الكبير مارڤين مينسكى صاحب مقولة أن البيولوچيا طريق
مسدود ، تنبأ أيضا ذات يوم بأن الوقت قد اقترب الذى سيحمد فيه البشر الآلات
لو تركتهم أحياء فى مثل الوضعية الحالية للحيوانات ( أنا شخصيا أسميت أحد
السيناريوهات المحتملة للمستقبلات الوشيكة فى كتاب قديم لى من سنة 1989 بعنوان
’ حضارة ما بعد‑الإنسان ‘ باسم سيناريو القط
المدلل ) . هانيبال ليكتر جسد مثل هذه المعانى عندما قال ببعض الإعجاب
وبكل الود لكلاريس التى لن يؤذيها قط وقطع يده دونا عن يدها ، قال :
أنت فتاتى ! ( من الممتع والجميل حقا أن تنظر الآن لصمت الحملان
كتجسيد لفترة الاستكشاف المبكرة من البشرية لفكرة ما بعد‑الإنسان ،
مثلا آنذاك لم يكن أحد بمثل يقين اليوم من أن هانيبال لن يؤذى كلاريس .
أيضا ربما لم يعد اسم هانيبال نفسه مناسبا بعد ، فهو لم يعد قوة عاتية تهب
من الجنوب المتخلف ، إنما من هى تنتمى صميميا لأعمق نقطة ممكنة فى مستقبلنا
عالى التقنية ! ) . إن كلاريس ’ هانيبال ‘ تختلف عن كلاريس
’ صمت الحملان ‘ حتى فى التفاصيل . ولعل لهذا السبب تحديدا ‑أى
لأسباب أيديولوچية محضة وليس لتلك المبررات العلنية الواهية‑ أشاحت چوودى
فوستر عن كل الأمجاد المهنية التى كانت ستجنيها من تمثيله ( فى المقابل
أنتونى هوپكينز بفضل هانيبال أصبح الآن فى الرابعة والستين أكثر نجومية مما كان
عليه فى الرابعة والخمسين ، حيث كان بفضل هانيبال أيضا أكثر مما كان عليه
فى الرابعة والأربعين التى بدورها أكثر من العقود قبلها وهلم جرا ، ولا
أكاد أذكر أن هناك حالة للتصاعد اللا نهائى للنجومية بهذه الطريقة فى تاريخ
السينما ! ) . صحيح أن كلاريس لا تزال رمزا عظيما لحقبة ألوهية
الإنسان التى سادت القرون الثلاثة الماضية ، ذلك بكل ما أوتى به من علم
وتقنية ومبادئ ومثل ، لكنها فى الحقيقة وصلت الآن لمنطقة العقم ،
وباتت عقبة فى مسيرة تقدم حضارة الكوكب أى علمه وتقنياته ( من مهازل العجب
العجاب أن نرى البشر حتى اللحظة يطالبون بالمزيد مما يسمى حقوق الإنسان ،
وكأنهم لم يأخذوا حقهم بعد ! ) . فى الفيلم الجديد تكاد تخلو
كلاريس من وجوهها الإيجابية ، باتت مجرد طائر دحراج يغريه غروره وثقته
بمغامرة السقوط إلى الأرض فلا يدرى بنفسه إلا وقد ارتطم بها ومات . ومن
الناحية الدرامية لا تعدو أكثر من عامل منغص يحاول أن يحول بين هانيبال وأفعاله
النبيلة فى تصفية الكوكب من بشريته الرديئة . لقد كبر وعظم شأنا وطموحا
بحيث باتت رسالته التى لم يرسله بها أحد ، هى الاحتواء الكامل للعشيرة
البشرية متوسطة الذكاء المخربة للكوكب . هذا سواء بالفتك بغالبيتها الشريرة
أو بالحنو والحماية لعناصرها الطيبة القليلة التى تستحق مصير القطط المدللة لا
الكلاب المنبوذة من مكتب التحقيقات الفيدرالية ، لا لشىء إلا أنها جادة
وصاحبة لبعض القيم وحاولت أداء واجبها فيه بإخلاص . ربما قبل عشر سنوات لم يكن كثيرون قد استخدموا
مصطلح post-human ، لكن اليوم يكفيك أن تكتب الكلمة فى أحد
محركات البحث فى الإنترنيت حتى تبزغ لك مئات المواقع والأدبيات تتراوح ما بين
تنظيرات مارڤين مينسكى الجبارة الرصينة السيليكونية المناهضة للبيولوچيا
والچيينيات جذرا ، حتى فيض التفاصيل العلمية لأشياء مثل التقنيات النانووية
وتمازج المخ البشرى والحاسوب والمسمى بالتطليع upload والتعديل الچيينى للبشر
وتقانات إطالة العمر وشحذ الذكاء والذاكرة …إلخ ، وانتهاء بمواقع جمعيات
أهلية مهمتها التبشير العملى والتفصيلى بحقبة ما بعد‑الإنسان ، ولهم
فى هذا أحزاب ومناهج لا تعد ولا تحصى . ساعتها ستدرك أن هانيبال ليكتر ليس
بالمرة مجرد أسطورة سينمائية من ستوديوهات مترو أو اختراع خيالى من روائى بدأ
حياته بالكتابة الصحفية لصفحات الحوادث والجريمة ، بل هو منهاج حياة يومى
لعشرات الآلاف من البشر اختاروا العلم طريقا للسمو فوق بيولوچيتهم المعيبة بل
والمهينة والمسماة بالإنسان . الفارق الوحيد الذى ربما لا يوافقون هانيبال
عليه إعجابه الزائد باقتصاديات الكائن البشرى غليظ المخ كطعام جيد ! إذا ما استثنينا بالطبع مقالة ستيڤين كينج
الرهيبة عن الكتاب ( فضلا عن وضعها الاستثنائى وربما التاريخى أنها من كاتب
للرعب لا يقل شهرة أو خبرة ) ، تظل من أذكى الملحوظات التى يمكن
قراءتها فى المراجعات السينمائية لفيلم ’ هانيبال ‘ قول مجلة ڤارايتى
إن ريدلى سكوت قد تخلى عن اعتداله الأسلوبى المحافظ المعتاد لأول مرة هنا ،
وتقصد بهذا انطلاقه فى تجسيد الدموية بتلذذ كبير . لولا هذا التلذذ
والإخلاص فيه لما كان هذا هو الفيلم صاحب أنجح افتتاح فى وقت من غير فصل الصيف
فى تاريخ شباك التذاكر الأميركى وثالث أنجح افتتاح إطلاقا فى تاريخه ( وفى
مصر ثالث أنجح افتتاح لفيلم أجنبى بعد ’ تايتانيك ‘ و’ مهمة صعبة
‑الجزء الثانى ‘ ) . من قرأوا الرواية وراعهم مشهد الرأس مكشوف
الجمجمة لوكيل شعبة العدل الشاب اللزج ، وهو لا يزال بعد حيا يقظا يتكلم
يأكل ويشرب ، والمعدة لتناول المخ مباشرة منها ، لم يتخيلوا أنها يمكن
أن تحدث نفس الصدمة قط فى السينما . ما تجزم به أفواج الجمهور أن العكس هو
الصحيح . إن أكثر ما يثير التقزز فيما كتب عن الفيلم هو وصفه ببساطة كفيلم
رعب . إن بنية الرعب أن تعيش فى كابوس الخوف من المسخ . ملايين الصغار
عبر العالم توحدوا وهللوا إعجابا بهذا ’ المسخ ‘ مثلهم الأعلى
الجديد ، ذلك أن فيلم مغامرات نمطى بالكامل . والمقزز أن تحاول أن تسلب
منهم هذا : أعظم ولع بأعظم رمز هما معا أعظم برهان على أن نبض الحياة لا
يزال يجرى فى عروق هذا الكوكب وأنه لا خوف قط على مسيرة التطور فيه . لقد ولت بجلاء تام حقبة المسالمة التى اضطرت لها
هولليوود وأكاديميتها بسبب طوفان الهجوم الغوغائى ضد منحهما كل تلك الأوسكارات
لصمت الحملان . وعاد هانيبال لينتقم من جديد ويعيد الاعتبار لسينما العنف
وسينما الأفكار الجارحة لا ’ التى تعقر ‘ فقط بل المعادية للإنسان
صراحة . وقد سبقه فى هذا تمهيدان أقل شأنا ربما ، لكن فتحا له أوسع
الأبواب : ’ المصارع ‘ لنفس ريدلى سكوت مع نسبة لا بأس بها من
عنفه الهانيبالى زائد تسميات اثنى عشر للأوسكار فى نفس أسبوع عرض
’ هانيبال ‘ ، و’ النمر الرابض والتنين الخفى ‘ فيلم
فنون القتال التايوانى بالغ العنف أيضا ، والذى من المؤكد أن برووس ليى
نفسه لم يحلم يوما بأن فيلم كاراتيه سوف يحصد يوما مائة مليون من الشباك
الأميركى زائد عشرة تسميات للأوسكار ، ناهيك عن أن يكون ناطقا بالماندارين
ومن بين تسمياته أفضل فيلم وأفضل فيلم بلغة أجنبية نفسيهما ومعا !
ما أردنا قوله إننا نعيش اليوم احتفالا سينمائيا
كبيرا يتجاوز بكل القوة حقبة رداءة ’ المريض الإنجليزى ‘ وتفاهة
’ القلب الشجاع ‘ و’ غراميات شيكسپير ‘ التى جثمت عنوة على
الأوسكار وعلى العقول لعقد كامل ، وينعش الآمال والذكريات لتلك الأيام التى
أعارت فيها الأوسكار نفسها بسخاء بما فيه التسمية لجائزة أفضل فيلم بل والفوز
بها أحيانا لأعمال مارقة بلا تقدير رقابى أصلا ( أفلام إكس ) مثل
الخريج وراعى بقر منتصف الليل فاز وطارد الأرواح ، لا لشىء إلا لأنها أفلام
كانت صادمة وقوية بمعنى الكلمة . إننا اليوم فى قلب حالة من الانتصاب
الذهنى والفنى تجبرنا على تجاوز ما ركنا إليه من أفكار ’ إنسانية ‘
عديمة اللون والطعم والرائحة بالية وركيكة طالما روجت لها السينما وغير
السينما . والقيمة التاريخية لفيلم هانيبال ‑علما بأن قيمته الفكرية
يكاد ينحصر مصدرها الأصلى فى هاريس وروايته أكثر منه بكثير من السيناريو أو
التوجيه ، بالطبع مع حفظ حق إنجازهما وكذا السير هوپكينز الخارق فى توصيلها
بأقوى وجه ممكن‑ أنه الحدث الصدمة الذى يقتحم العقول على أوسع نطاق ممكن
ويجبرنا على مراجعة الكثير من ثوابتنا . إنه مانيفستو عملاق يتجاوز بمراحل
ذلك التهذب الخجول لهيتشكوك وكيوبريك اللذين رحلا دون أن يشعر بأفكارهما
أحد ، بل وحتى لطمات داروين وفرويد الجديرة والمروعة للخيلاء الإنسانى
والتى رغم ذلك أفلح البشر بدرجة أو بأخرى فى تغمية أبصارهم عنها والمضى فى غيهم
الإنسانى الأفيونى الأهوج وكأنها لم تكن . أخيرا ، كل ما نستطيع أن نغامر بالتنبؤ به أن
كلاريس لو ظهرت فى الجزء القادم من هانيبال فلن تكون شيئا أقل من بعد‑إنسان ،
أو بكلمات نصيحة هانيبال للطفل الآسيوى فى اللقطة الأخيرة تماما من
الفيلم : ’ جرب شيئا جديدا ! ‘ . [ ديسمبر 2003 : تابع
قصة محاكمة هانيبال ليكتر حقيقى فى ألمانيا هنا ] هل تريد المساهمة ؟ ... يمكنك ذلك مباشرة من
خلال لوحة الرسائل إضافة أو قراءة أو بالكتابة عبر البريد الإليكترونى . الجديد :
22 يوليو 2001 : ما هو الفارق بين السيريالية وبين ما يسمى ببعد
الحداثة ، هذا بمناسبة عرض جمعية نقاد السينما المصريين اليوم لفيلم ديڤيد
لينش Lost Highway ( 1997 ) . الصديق أحمد حسونة
قدم سلسلة الأفلام كنماذج لسينما ما بعد‑الحداثة ، وطرح
ملامحها ، ومن أبرزها بالطبع تماهى الأزمنة . بدأت مداخلتى بعبارة أنى كلما سمعت كلمة ما بعد‑الحداثة
تحسست مسدسى . تماهى الأزمنة الذى ظهر على نحو إبداعى جامح جرئ وثرى برواية
مارسيل پرووست ’ البحث عن الزمن الضائع ‘ ( 13-1927 )
الأصل فى كل هذا هو مبدأ اللا يقين uncertainty principle
الذى وضعه ڤيرنر هايزينبيرج عالم الفيزياء الجسيمية سنة
1927 . صحيح أن الأسئلة الوجودية الكبرى بدأت بعمر الخيام وربما
قبله ، وصحيح أن پرووست كتب قبل أن يقول هايزينبيرج شيئا ، وأن الشاغل
الأهم عند وجودييى تلك الأيام ليس الجسيمات ، إنما فقط الثورة الصناعية
التى قزمت الإنسان فراح يبحث عن عمره الضائع ، إلا أننا نضع يدنا على مبدأ
اليقين بالذات لأنه وحده الذى سيساعدنا على فهم أين تقع المشكلة . كلنا
يذكر المناظرة الشهيرة بين أينستاين ونايلز بوهر التى انتهت بعبارة الأول
الشهيرة ’ الرب لا يلعب النرد ‘God doesn't play
dice .
كانت المشكلة أن كان من المستحيل تحديد مكان جسيم إذا كنت تريد تحديد سرعته
والعكس بالعكس . والسبب ببساطة أنه كى تعرف أية معلومات تحتاج لفوتون ضوئى
يصدر لعينك حتى ترى به ، وهذا يغير من طبيعة الجسيم مكانا أو سرعة أو
كلاهما معا . ما لم يره بوهر ورآه أينستاين أننا أمام مشكلة إنسانية
محضة . قدرة الإنسان على الرصد عاجزة ، ليس لديه وسيلة للرؤية سوى عين
تستهلك فوتونات ثقيلة الوزن سخيفة الوجود . أما الحقيقة المجردة فقابعة
هناك حيث لن يستطيع رؤيتها أبدا . أنا شخصيا ربما كتبت ذات مرة أن غزو
الفضاء طريق مسدود ( على الأقل بالنسبة للإنسان ، وربما يكون ذا جدوى
أو معنى لكائنات سيليكونية أو نانوية تالية له —تابع منشأ الفكرة عندى ورأيى فى مستقبلها فى صفحة ما بعد‑الإنسان ) .
السبب أنه كبير جدا ، نفس الشىء يسرى على كشف الجسيمات ذلك أنه صغير
جدا . مهما وصلنا من علم فلن نجزم أن ليست وراء الكون أكوان أكبر
وأكبر ، ولا نستطيع الجزم بأن ثم أكوان أصغر وأصغر تتطفل على سطح أحد أو
بعض الإليكترونات فى عالمنا ، ولا علاقة لها بالمرة بميكانيات الكم
وأينستاين وبوهر وهايزينبيرج ، بل الإليكترون نفسه لا يستطيع رصدها ولا يحس
بوجودها . كلا الطريقين مسدود لسبب واحد فقط لا غير : أننا بشر !
[ عدنا للمزيد لاحقا حول
هذه الجدلية فى صفحة ما بعد‑الإنسان ] إذن قدراتنا محدودة للغاية ، والثورة الصناعية
ومنجزات العلم لم تزد علمنا إلا بشىء واحد هو جهلنا . هنا تدخل السيريالية
ثم بعدها بقليل ما سمى بما بعد‑الحداثة ( والحداثة هى عصر
الصناعة ) . ما لا يراه الكثيرون أن الاقترابيتين جاءتا بزاوية تختلف
180 درجة . وكان محزنا للغاية لى اليوم أن أرى أعظم سينمائى سيريالى حى
ونشط اليوم يصنف تحت راية ما بعد‑الحداثة . تماهى الأزمنة وسمات أخرى
كثيرة راح يعددها الزميل أحمد حسونة ، هى جميعا خصائص شكلية جدا ،
والدليل أن لم تميز بين الشىء ونقيضه كما الحال اليوم . دائما ما نقول على
سبيل الدعابة إن أعظم منهج نقدى هو منهج سعيد صالح فى مسرحية مدرسة المشاغبين
حين سأل ’ فين السؤال ؟ ‘ . هذا ينطلق من أن السينما فن جماهيرى ( وكذا كل الفنون فى أغلب
الحالات ) ، ومن ثم المهم فى فهمها الرغبة فى فهم لب الموضوع .
هنا تظهر الـ 180 درجة واضحة بين السيريالية وما بعد‑الحداثة .
كلاهما وجد نفسه أمام حقيقة ضآلة الإنسان ، لكن الاستجابتين كانتا متناقضين
كلية . الإنسان غير قادر على الرصد لأنه حقير وتافه والسبب يكمن فيه .
هذه كانت الاستجابة السيريالية . والإنسان غير قادر على الرصد لأن العيب فى
الكون نفسه ، لا يقينى ومبهم وغير محدد الملامح . هذه كانت الاستجابة
بعد‑الحداثية .
لى رأى شخصى قد يبدو غريبا بعض الشىء ، وهو أن
السيريالية لا تنتمى كثيرا للوجودية
قدر انتماء ما بعد الحداثة لها . رغم أن كلتيهما ‑السيريالية
والوجودية ، هما بنات مباشرات لفرويد . نفس الشىء أقوله عن التحليل
النفسى وفرويد الذى يكاد يجمع الكثيرون ونحن فى طليعتهم على أنه أحد أعظم عقلين
فى التاريخ الإنسانى بجانب داروين ، بالترتيب صاحبا ثانى وأول ضربة عظمى
لعجرفة ابن الالهة المغرور المدعو الإنسان . الخط الفاصل هنا وهناك هو ’ فين السؤال ؟ ‘ .
الإنسان وصل لمرحلة ما من التطور تيقن له بعدها ضآلته وقلة شأنه ، وأن عليه
أن يفسح الأرض لكائنات أخرى أفضل . هذا هو السؤال ، والمدهش أن سؤال هاملت لا يختلف كثيرا عن سؤال عادل إمام ، ما
يختلف فقط هو الإجابة ! الإجابة الوجودية تعلى من شأن الإنسان وتمحور الكون
كله حول ذاته وإحساسه وإدراكه للكون ، وتحقر من شأن الحقيقة
الموضوعية . فى المقابل لا التحليل النفسى ولا فرويد ولا حتى السيريالية
فعلت هذا ، ومن ثم لا أفهم من أين جاء الربط . من فعلوا هذا هم نايلز
بوهر ومارسيل پرووست وما بعد‑الحداثة ، ومن ثم توجب الربط . على أية حال الحقيقة موضوعيا ، وبأفضل كلمات
تاريخية ممكنة فى صالح الوجودية ، هى ما يلى : الوجودية فتحت الطريق
لحقيقة أنه طالما ليس فى استطاعة الإنسان فهم العالم ، فلينكفئ على
ذاته . ربما أصحابها يرون فى هذا إعلاء للإنسان ، لا بأس .
نسختها النكرانية atheist فعلت ذات الشىء لكن فى نطاقين معا ، نطاق
البشر ونطاق الآلهة . واصلت مسيرة تحطيم الآلهة ، وواصلت ترسيخ مكانة
الإله الجديد ، الإنسان ، الذى تبوأ هذه المكانة منذ فجر عصر العقل
والنهضة الصناعية ، وأرادت هى رفعه لمراتب سماوات أعلى . لكن فى
الحقيقة لم تلحظ أنها تضيف آليات جديدة لتحطيم الآلهة ، سوف تدور الدوائر
حتما بذات الطريقة لتجعلها تسقط على الإله الجديد من عليائه الزائفة . [ بعد 11 سپتمبر تحدثنا من جديد ‑وإن فى
صفحة الحضارة ، وبصورة أخرى
لوجه السيد أينستاين !‑ عن مبدأ اللا يقين وما قد يناظره فى حقل
الستراتيچية تحت مسمى اللا تماثلية asymmetrism ، التى لعلها
النظير السياسى لما يسمى ما بعد الحداثة فى دنيا الثقافة والفن ، كما قلنا
أن قد تصبح مذهبا هى الأخرى ! ] . الأحد القادم سوف يعرض فى ذات السلسلة ولذات الموجه
Twin Peaks —Fire Walk with Me ( 1992 ) ، والمناقشة
ممتدة . اكتب رأيك هنا
17 أكتوبر
2001 : بدأ اليوم عرض فيلم ’ الذكاء الاصطناعى ‘
فى مصر . والسؤال الذى لا يطيق المرء الصبر دقيقة واحدة على معرفة الإجابة
عليه ، هو كيف يمكن لموجه إنسانى عاطفى ودافئ للغاية مثل ستيڤين
سپييلبيرج التعامل مع مشروع بعد‑إنسانى مفرط البرود لا يمكن توقع سواه من
موجه كالراحل ستانلى كيوبريك . هذا خاصة إذا كنت لم تفق بعد من حالة
الإحباط التى سببها لك الأسبوع الماضى خواء ’ كوكب القرود ‘ الجديد ، مقارنا بثراء وبعد‑إنسانية
الفيلم الأصلى قبل 33 سنة . أو ليس صاحب الأفلام المؤثرة جدا من قبيل
’ إى تى ‘ و’ قائمة
شندلر ‘ هو آخر شخص على وجه الأرض يمكن أن يصلح لعمل فيلم هو الحلم
الأكبر والأطول فى حياة مفكر بعد‑إنسانى عظيم كستانلى كيوبريك ؟ لكن
فى المقابل أليس سپييلبيرج صاحب فضل لا ينكر على كيوبريك ، من خلال تنميته
لمؤثرات ’ حديقة الديناصورات ‘ ، ومن ثم إخراج ’ الذكاء
الاصطناعى ‘ من حيز أحلام أو أوهام اليقظة ؟ أو لسنا نضمن أيضا أن ما
سنشاهده هو الرؤية الرؤيوية أو الـ visual vision كما تخيلها ستانلى
كيوبريك تفصيلا ورسمها بيديه فيما يقرب من ألف لوحة ؟ لن أطيل عليك ، وإليك الإجابة موجزة
ومباشرة . نعم كيوبريك موجود بنسبة لا تقل عن 90 أو 95 0/0 ،
لكن هناك سپييلبيرج أيضا يضع لمسته من وقت لآخر ويفسد به المذاق الذى يمكن تخيله
من لو أن كيوبريك قد نفذ الفيلم بنفسه . جميع المشاهد التى قدمت جو الأسرة
الدافئ فى بداية الفيلم ، أو فى لقاء الروبوت الصبى مع ’ أمه ‘
فى تتابع النهاية ، كذلك الجمل الصريحة التى تشيد بعظمة الإنسان ،
كلها أشياء لا سابق لها بالمرة فى سينما كيوبريك ، ويكاد يستحيل تخيل أن
كان سينفذها بهذه الطريقة بالمرة .
لكن ما عدا هذا ، نظل أمام فيلم بعد‑إنسانى
بدرجة واضحة كل الوضوح ، ينتمى بكل القوة لسينما ستانلى كيوبريك باردة
التجريد مخيفة السيريالية . يراوغنا كثيرا ، ويأخذنا بذات رحلة
كيوبريك الأوديسية المعتادة عبر سيمفونية مكونة من ثلاث أو أربع حركات منفصلة
بالكامل تقريبا عن بعضها البعض ، فقط كى يصعقنا فى نهاية المطاف ، بأن
العرق البشرى برمته قد باد ، ولم ينج منه أثرا بعد عين سوى صبوح الوجه هيلى
چوول أوسمينت ، ذلك الروبوت الصغير الذى برمج ليحمل المشاعر الإنسانية
الطيبة . وأن أيضا بالتالى من سيرث الأرض هو ذلك الذكاء الكونى الوافد من
الفضاء الخارجى ، والذى لا شك يذكرنا بنطيره فى ’ 2001
—أوديسا الفضاء ‘ ، رغم كل جهود سپييلبيرج فى الإحالة قسرا لفيلمه
هو ’ لقاءات قريبة من النوع الثالث ‘ ! أيضا من الجائز تخيل أن
كيوبريك لو صنع الفيلم بنفسه لرأينا معالجة أفضل لموضوع المشاعر من منظور تكيفى
أكثر دارونية وأقل حرارة . كيوبريك
بعد‑إنسانى شرس مخيف لا يرحم ، ولا يفوقه فى هذه القسوة سوى
’ الأستاذ ‘ The Master ،
أستاذ الأساتذة فى هذا وفى كل شىء ، ألفريد ’ الأستاذ ‘
هيتشكوك . أما حبيبنا سپييلبيرج ذلك اليهودى الطيب ، فلن يستطيع أبدا
ومهما حاول ، الخروج من جلده الإنسانى . باختصار ، لو بإمكانك أن
تغض الطرف عن بعض المنغصات الصغيرة هنا أو هناك ، فالفرصة لا تزال قائمة
أمامك لمشاهدة فيلم أخير آخر لستانلى ’ الفريد من نوعه ‘
كيوبريك ! اكتب رأيك هنا
[ الشباب الياپانى صنع سابقة بالإقبال على فيلم ’ الذكاء الاصطناعى ‘ ، ليجعل منه
أول فيلم أميركى فى التاريخ يحقق إيرادا فى بلد أجنبى أكثر مما حققه داخل
أميركا . اقرأ تحليلا لاحقا عن
دلالة هذا الحدث من منظور بعد‑إنسانى لقماشة هذا الشباب وطبيعة
ثقافته ، وكذا حديثا سابقا عن
شباب هذا البلد عامة .
لكن لأن الشىء بالشى يذكر ،
وفيما يخص شق سينما ما بعد‑الإنسان ، نقول هنا إن علاقة شباب الياپان
بهذه السينما طالما كانت علاقة ’ طبيعية ‘ ومنطقية للغاية . إن
ما يحضرنى بشدة فى هذه اللحظة هو فيلم الاستحراك من ستوديوهات مانجا ’ أكيرا ‘ 1988 .
الفكرة ليست أنه فيلم اكتسح العالم وكان أحد مظاهر الغزو الثقافى العكسى الجاد
والمدهش ، فهذا لعله أتفه ما فى الأمر . من منظور بعد‑إنسانى ما أردت قوله أن ليس من الغرابة
أبدا أن يكون من يحيى صنع هذا الضرب اليوم هم شباب الياپان ( بلد الجيل
الخامس للحاسوب ) ! ] . 24 ديسيمبر
2001 : كتاب
جديد عن هيتشكوك يتناوله من منظور خاص ، ليس به الكثير مما يتفق مع
رؤية هذه الصفحة له ، لكنه تأكيدا محاولة جادة وطموح لتقديم نظرية كاملة عن
أفلامه . عنوان الكتاب ’ مصرعات هيتشكوك ‘ Hitchcock
Murders ،
والمؤلف الناقد والپروفيسور پيتر كونراد . أهم ما يصعب قبوله افتراض أن
رؤية هيتشكوك رد فعل لأهوال طفولته ، ونحن لا نعتقد أن فى حياة
’ الأستاذ ‘ كلها ما يسمى رد فعل . أما الفكرة المثيرة للاهتمام
هى تمثله لعلمانية هيتشكوك على أنه يصنع أفلاما ’ دينية ‘ ، يقوم
فيها هو نفسه بدور الإله . طريف جدا ، لكننا نسمى هذا رؤية ’ بعد‑إنسانية ‘ ،
بمعنى تقزيم الإنسان من زاويا دنيوية محضة بلا ميتافيزيائيات . اكتب رأيك هنا Cover Story:
(New Year
2002)
1 يناير
2002 : كل عام وأنتم بخير . بدأ اليوم العام
الجديد ، عام يوحى بالكثير من الكلام عن المستقبل . قبل أيام كنا قد
قمنا بتحليل لما أسفرت عنه المائة يوم
الأولى لحرب سپتمبر أو المعركة النهائية للحضارة ضد الدين كما
أسميناها . لكن بعيدا عن السياسة ، وعودة لحديث المستقبل المعتاد من
خلال التقنية والعلم ، وبالأخص شقه الممتع والأكثر إثارة أحيانا
كثيرة ، الخيال العلمى السينمائى ، سوف يكون احتفالنا بالعام
الجديد . ربما سنترك العالم يحتفل بمرور عشرين عاما على بفيلم خيالى آخر
أكثر إنسانية ومن ثم جماهيرية مثل ’ إى . تى ‘ ، وسنختار
فيلما عمره عشرون سنة أيضا ، لكن مع فارق هائل فى المحتوى ، والطرح
المستقبلى . إنه بالطبع : بليد
رانر . سنعتبر عامنا هو عام بليد رانر . هذه النقطة
التى تقع تقريبا فى منتصف الطريق بين صنعه سنة 1982 وسنة 2019 التى تقع أحداثه
فيها . وهى مناسبة رائعة للتوقف لتقييم تلك الرؤى العميقة التى طعن بها هذا
الفيلم بصير الرؤية visionary نفق المستقبل البعيد ليرى بعضا من
خباياه . من الأفلام التى فكرنا فيها أيضا أربعين عاما على لورانس العرب لكننا فضلنا
التطلع للمستقبل بدلا من الماضى ( فقط هذه مراجعة دليل
الأفلام له ) . مبدئيا إليك مدخل
كتاب دليل الأفلام عن الفيلم . وهو ملخص لمراجعات ومتابعات الناقد مدحت
محفوظ المسهبة من سنة ظهور الفيلم ، عمم بعضها فى مجلة
’ الفنون ‘ القاهرية أو نشرة نادى القاهرة للسينما أو غيرهما .
وكانت جميعها نغمة نادرة بين آلاف الصفحات التى احتواها الملف الصحفى العالمى
للفيلم ، والذى إما هاجمته الأقلام بشراسة أو فى أفضل الحالات امتدحته
بسطحية . لكن كما تعلم سرعان ما توالت فى الأعوام التالية التقييمات
الجادة ، وبمرور الوقت اتفق الجميع حوله ككلاسية سينمائية معتمدة . أيضا سوف نجعل لحن الخلفية المرافق لتصفحك للموقع
هو اللحن المميز عميق ومتعدد الإيحاءات للفيلم . وهو لحن كتبه الموسيقى ڤانچيليس
الذى كان فى ذروة لمعانه فى ذلك الوقت ، حيث كان قد فاز للتو بالأوسكار عن
مجرى صوت فيلم ’ عربات النار ‘ 1981 . ويمكنك من هنا تسجيل اللحن والاحتفاظ به لو شئت . أخيرا فقد ألهمنا الفيلم كتابة هذا المدخل اليوم فى صفحة الثقافة
عن مدى علاقة العقلية العربية بالعلوم والتقنية . وفى جميع الأحوال نعتبر صفحة ما بعد‑الإنسان هى المكان الطبيعى على مدى
الأعوام السابقة لمتابعة ذات الشئون المستقبلية التى تناولها هذا الفيلم
العظيم ، وندعوك دوما لزيارتها على نحو متكرر . أما أول ما يخطر ببالنا اليوم عن هذا الفيلم ،
أننا لم نعتبره يوما فيلما بعد‑إنسانى بمعنى الكلمة ، وربما كما
ستلحظ فى المراجعة
أن أغاظنا لحد ما وقفته الحيادية بين الإنسان وبعد‑الإنسان ، ونهايته
التصالحية الحيادية . والتى لمزيد من سوء الحظ أنها لم تكن حتى من بين
قناعات ريدلى سكوت ، وحذفت فى ’ نسخة قطع الموجه ‘ التى عرضت فى
ذكراه العاشرة قبل عشر سنوات ، ذلك مما زاد المذاق العام إبهاما . مع
ذلك نقول اليوم إن كل هذا يتضاءل أمام حجم الرؤى ودقتها فيما يخص شئون المستقبل
بمختلف مناحيها ، بالذات ما يخص الهندسة الچيينية التى اعتبرها محورا
لتقنيات العقود التالية . ربما نتعاطف على نحو أقل مع تفاؤلاته بالنسبة
لاستيطان الفضاء ، وربما نناقش بعض التفاصيل هنا وهناك . لكن هذه لم
تنتقص يوما من انبهارنا الشامل به ككل . بل الأبعد من هذا أن ربما لم يعد
حتى يزعجنا كثيرا ذلك الإحساس المشروع بالإبهام عند الكلام عن المستقبل .
ولعل العبارة التى تطن فى أذنى من بين كل ما قرأت فى الأيام الأخيرة عن العامين
المنصرم والجديد ، ولا أتمالك نفسى من الضحك كلما تذكرتها ، كلمة
ويلليام سافاير الساخرة فى النيو يورك تايمز :
’ لو كان بإمكانك التنبؤ بكل ما
حدث سنة 2001 لكان مكانك الآن السجن ‘ ! اكتب رأيك هنا [ تحديث : مارس 2002 : خلال
العام فرض فيلم دكتور سترينچلاف نفسه فرضا ، وقد فاتنا أن نتوقع أن الحرب الحالية لا بد وأن
تتحول لحرب نووية . صحيح
طالبنا بهذا فى يوم 11 سپتمبر نفسه ، لكن
لم نتوقع تبنى أميركا للسلاح النووى بهذه السرعة . تبنته قبل انتهاء الشهر
الرابع للحرب وأعلنته قبل انتهاء الشهر السادس . وطبعا لو توقعنا لاخترناه
فيلما للعام بداهة رغم أن لا مناسبة زمنية خاصة له ! طبعا هو فيلم بعد
إنسانى ، وهو عمقه الذى نادرا ما فهمه أحد ، وأقل واجب أن افتتحنا
مدخلا خاصا له هنا بالأسفل ، وهذه هى مراجعة دليل
الأفلام له . كذلك لاحت لنا أيضا بعد قليل فكرة
ثلاثين عاما على الحلق العميق ، اقرأ هذا
المدخل الطريف عنه أيضا فى صفحة الإبادة ، وكذا اقرأ مراجعة دليل
الأفلام . نخشى أن نقول الآن ‑ونحن بعد فى الشهر الثالث فقط من
العام‑ إن الكل يفكر فى الإبادة ، وليس فى الهندسة الچيينية ولا
أفلام الپورنو ! ] . [ يبدو أننا عدلنا عن هذا ،
ولاحقا فى خريف ذات السنة أضفنا مدخلا ضخما عن تاريخ الپورنو فى صفحة الجنس ! ] . 9 مارس 2002 :
مراجعة
دليل الأفلام لفيلم دكتور سترينچلاڤ ،
بمناسبة تكشف تقرير الپنتاجون
للكونجرس عن بدء استعدادات الحرب النووية . اكتب رأيك هنا
18 سپتمبر
2002 : بدأ اليوم عرض فيلم ’ قبل وقوع
الجريمة ‘ أو Minority Report فى مصر . طموح سپييلبيرج هذه المرة صنع بليد رانر
جديد ، بعد أن اعتقد قبل عام أنه صنع ’ 2001
—أوديسا الفضاء ‘ جديد ، من خلال مشروع كيوبريك غير المكتمل
الذكاء الاصطناعى الذى تناولناه آنفا فى حينه . ذهب لنفس
المؤلف فيليپ كيه . ديك . إنه شخص بائس رحل فى 2 مارس 1982 ربما حنقا
وغيظا على ما أحاط بليد رانر من مشاكل إنتاجية وانتقادات صحفية . وقد كانت
تلك المرة الأولى التى يحصل فيها بين يديه على مبلغ طيب من المال ، فى
حياته القصيرة المضطربة الحافلة بالعقاقير وخمس زيجات ونصب دور تعميم الكتب
المغمورة عليه طوال الوقت . لا نعلم هل كان سيسعده أم لا أن يشذ ناقد
سينمائى مصرى شاب شاهد الفيلم سبعة مرات فى أيام عرضه السبعة فى سينما راديو
الشاحبة فى وسط مدينة القاهرة ، وغامر بالخروج الناشز على صوت الكورس
الصاخب ، وأخذ يمجد الفيلم بلا هوادة عبر سلسلة
مقالات فى مختلف المجلات المصرية تحمل أسماء مثل ’ الفنون ‘
و’ نشرة نادى القاهرة للسينما ‘ …إلخ . على أن المؤكد أن ديك كان
سيسعد لو عاش ليرى السينما تعود لتعترف به مرة ثانية وتصنع من إحدى قصصه
’ استرجاع كلى ‘ ، سپييلبيرج صنع أرقى ما يمكن صنعه لتقليد بليد رانر
الذى صار تدريجيا أسطورة مؤلهة فى كل العالم ، وليس ببضع مقالات مغمورة فى
مصر ، ألقيت نسختها المترجمة فى أرشيف شركة وارنر فى هولليوود أو ‑وهو
الأرجح‑ فى صفيحة قمامتها ! قام سپييلبيرج بدعوة باهظة الكلفة
بالطبع ، لحفنة من أكبر العقول المسئولة عن صنع المستقبل وتمثله . فى
سنة 1999 جمع 16 عالما وتقنيا فى سانتا مونيكا ، منهم نييل جيرشينفيلد من
مختبر الوسائط فى معهد ماساتشوستس للتقنية MIT ، وزميله فى ذات
المعهد‑الأسطورة عميد مدرسة العمارة ويلليام ميتشيلل ، كذا جاء پيتر
كالثروب الحجة فى حقل الحياة الحضرية ، وجاء شون چونز من دارپا
( الوكالة التى لا تقل أسطورية فى شأن التقنيات العسكرية ، وقد تحدثنا
عنها سابقا وكان الكلام بالصدفة فى نفس
حقل تخصص چونز وهو البيوتقنية ، فرحلتنا التاريخية فى متابعة إنجازاتها كانت
فى حقل الحوسبة أساسا ) ، ولعل أشهر اسم فى القائمة بالنسبة لجيل
الإنترنيت هو چارون لانيير من رواد تقانات الواقع الفضيل virtual
reality . ستقفز فورا إلى القول إن فريقا كهذا لا يمكن إلا أن
يعطيك أفضل تنبؤ ممكن بعالم المستقبل . حسنا ، هذا ممكن ، لكنه
لم يحدث . المشكلة ليست فى الفريق . المشكلة أن سپييلبيرج سألهم
السؤال الخاطئ : ما هو شكل العالم سنة 2054 ؟ الإجابة كما رأيناها بعد ثلاث سنوات على شاشة
السينما ، جاءت ردا على سؤال آخر لم يسأله لهم أحد : ما هو شكل العالم
سنة 2010 ؟ نعم ، ليس بهذه الطريقة يمكن لأحد أن يتنبأ
بسنة 2054 ، قبلها بأكثر من نصف قرن . هذا هو الفارق . عندما
يتعلق الأمر بالتنبؤ من مسافة كهذه ، لا يصلح العلماء للأمر . كما
قلنا ذات مرة فى كتابنا المستقبلى’ حضارة ما بعد الإنسان ‘
( 1989 ) ، العلماء هم آخر من يصلح للتنبؤ بالمستقبل
البعيد . والسبب فى هذا بسيط هو معاناتهم الدءوب الدائمة فى إنجاز
الأشياء ، والتى تجعلهم أميل للتحفظ لدى التنبؤ بالمستقبل ( حتى لو
رأيتهم يتحدثون أمام ممولى أبحاثهم بتفاؤل شديد ، فهم إنما يتحدثون فى
جزئيات ومشروعات محددة ، فالممولون أنفسهم لا يحبون عادة الكلام فى
المستقبل البعيد ! ) . المؤكد أن فريق العلماء المذكور انصرف من
ضيافة سپييلبيرج الكريمة ، معتقدا أنه أجاب على السؤال الذى وجه له .
لم يخطر ببال أى منهم أنه قد خدعه ، أو أنه كان يجب عليه أن يصارحه بأن من
المستحيل عليه التنبؤ بنصف قرن قادم . هنا يكمن الفارق . بليد رانر تنبأ بسنة 2019
قبلها بقرابة أربعين عاما ، لكن ريدلى سكوت لم يستدعى العلماء
ليسألهم . فقط استدعى سيد مييد . الفارق بينه وبين العلماء بالنسبة
للسينما يشبه الفارق بين كتاب العلوم وبين العلماء بالنسبة للصحافة . إطلاع
واسع على العلم والتقنية ، لكن دون الارتباط بقيود وآليات شغل البحث
الأكاديمى المثبطة للخيال . هذا الموقع الوسيط هو الذى يمكن أن يعطينا
خيالا أقرب ما يكون للدقة . أحد أسباب تحول بليد رانر لأسطورة ، أن
مرور السنة تلو الأخرى ، يعطى نبوءاته مصداقية أكبر . باختصار ، ’ تقرير الأقلية ‘ متواضع
كفيلم مستقبلى ، لكنه رائع كفيلم راشومونى ، وأحد أروع التحيات التى
قدمت لأكيرا كوروساوا أستاذ الإنسانية فى السينما ( تسمية ربما نقترحها
لمقابلة هيتشكوك أستاذ اللا إنسانية ! ) . الذى يعتبره
سپييلبيرج ، ولا غرابة من هذا الإنسانى الطيب ، أستاذه ! الأحداث تدور فى واشينجتون 2054 حيث تم القضاء
تماما على الجريمة ، عندما اكتشف بالصدفة قدرة ثلاثة من المواليد على
استبصار المستقبل . يقوم توم كرووز بدور الضابط المسئول عن هذا
المشروع ، ونراه فى التتابع الأول يتلقى المعلومات من هؤلاء الثلاثة
الموضوعين فى حمام خاص شبه منومين ، وأدمغتهم موصولة بأجهزة خاصة لقراءة
وترجمة الإشارات الصادرة عنها ( بعض التفاصيل جيدة ، كالشاشات
الحاسوبية القائمة فى الهواء والتحكم فى شاشة الحاسوب بقفازات تصدر ضوءا ،
لكنها كما قلنا خيالات 2010 وربما قبل ذلك ! ) . ثم يستنتج من
هذه المعلومات الشحيحة مكان وموقع الجريمة ، وترسل فرقة خاصة تهبط من
الطائرات فى اللحظة المناسبة لتقبض على الجانى متلبسا ، وتضع له خوذة تذهب
به إلى نوم لا نهائى فى سجن خاص بهذه التقنية . حبكة الفيلم أن جاء مسئول
حكومى لكشف ثغرات هذا النظام تمهيدا لتعميمه على الصعيد القومى ( كنبوءة
هذه سيئة جدا ، وبصراحة عيب أن يصدر فى عهد حكم چورچ دبليو . بوش فيلم
يتحدث عن أن أميركا أو أية دولة أخرى ستظل بلدا قائما بذاتها سنة 2054 .
حتى نبوءات 2010 تتنبأ بأشياء أكثر جلوبية بكثير ! ) . ويجد چون
أندرتون ( كرووز ) نفسه متهما بالقتل ، وبالطبع ملاحقا من ذات
الفرقة التى كان يرأسها ، وأمامه فقط 36 ساعة لإثبات براءته . ثم مشاهد كثيرة رائعة ، فى حدود النشاط المحض
مشهد الهروب بالسيارات التى تنظلق رأسيا فوق حوائط مبانى واشينجتون الزجاجية
الشاهقة هو قطعة خالدة بكل المقاييس تذكرنا بأفضل ما قعل سپييلبيرج من مشاهد
النشاط مثلا فى ’ غزاة التابوت المفقود ‘ . أما المشاهد الأخرى
فمنها على الأقل مشهدان عظيمان بمعنى الكلمة : مشهد الصوبة الحافلة بكائنات
نباتية متحركة وذكية ( نبوءة جيدة الخيال ، والوحيدة التى تحتمل أن لا
تتحقق قبل 2010 ) ، عندما ذهب لمقابلة العالمة الچيينية التى أنجزت
المستبصرين الثلاثة ، وتخبره بوجود ما يسمى تقرير الأقلية عندما تشذ رؤية
واحد منهم الاثنين الآخرين ، وهو عنوان القصة والفيلم رغم عدم جوهريته
( دور مذهل من لوى سميث ) . ومثل مشهد خطف أندرتون لأفضل المستبصرات
أجاثا ( سامانتا مورتون ) وذهابة بها لمول تجارى لكشف حقيقة
الجريمة ، هنا خيال الكتابة الدرامية يصل لذروة رائعة من التشويق ،
فالمرء لا يجد دائما من يخبره بكل ما سيحدث حوله فى اللحظة التالية ، ومن
ثم يتفادى مورتون الشرطة ويصل للشخص الذى يفترض أنه سيقتله . يكتشف أندرتون أن هذا هو الشخص الذى اختطف وقتل
ابنه الصبى ، وعليه فعلا أن يقتله كما رأى المستبصرون ، ولم يكن يصدق
قط أنه سيقتل تحت أية ظروف . هنا تبدأ المفاجآت
’ الراشومونية ‘ . يصبح للقصة أكثر من وجه وأكثر من منظور .
هذا الشخص مزيف ولم يقتل ابن أندرتون . الوكيل الفيدرالى دانى ويتوير الذى
كان مؤكدا أنه يدبر كل هذا كى ينتزع المشروع من أندرتون ربما يكون أكثر ملائكية
من أندرتون نفسه . أيضا هناك رؤى أخرى للمشروع وتاريخه من بقية
صانعيه ، الذين يبدون طيبين جدا ومخلصين جدا ، لكن بعضهم يخفى بعض
الأشياء . نعم هى دراما تشويق استحواذية رائعة ، لكن العلم فيها
ضعيف ، وطبعا لا نقول سىء . والسؤال متى يضبط سپييلبيرج إحساسه
بالمستقبل . قيل دوما أن خطأ ’ 2001 … ‘ أنه تنبأ بما هو أبعد من
2001 ، ويقال الآن إن بليد رانر تنبأ بـ 2019 دون زيادة أو نقصان .
هذان الفيلمان اللذان شعر سپييلبيرج نحوهما بالغيرة وحاول تقليدهما ، لكنه
دوما مضبوط على مؤشر أقرب بكثير من التاريخ المستقبلى الذى يتمثله .
النانووية لن تكون مجرد عناوين صحف سنة 2054 ، ربما الاحتمال الأكبر أن لن
يكون هناك إنسان أصلا ، وتكون هى كل شىء ، لا العكس ! لقد جلست
شخصيا من اللحظة الأولى متحفزا لأرى كيف سيعالج الهندسة النانوية . هذا هو
الشىء الطبيعى لدى كل من يفكر فى المستقبل ، لأنه ببساطة أهم سؤال مستقبلى
على وجه الإطلاق الآن ، بعد أن باتت معروفة الملامح المستقبلية العامة لكل
من الحوسبة والهندسة الچينيية . تدريجيا أصابنى اليأس ، وبدأ بدأ
اليأس يتحول لسخظ عندما أدركت أنه سوف يتجاهلها ، ثم فجأة جاءت تلك الإشارة
العابرة الساذجة حقا ، فأصبح السخط حنقا وغيظا هائلين !
سپييلبيرج ، هذا الإنسان الجميل الطيب ،
يصلح للثيمات الإنسانية الدافئة ، لا للمستقبليات الخشنة المعقدة .
إنه إنسان غارق فى هموم الإنسان ، ويصنع أفضل ما عنده عندما يتكلم عنه
كلاما اجتماعيا محضا كما فى ’ اللون القرمزى ‘ و’ قائمة
شندلر ‘ و’ أميستاد ‘ ، أو على الأكثر عندما يتكلم
بمشاعر إنسانية مفرطة جدا ليلوى بها قالبا آخرا ، كالفانتازيا مثلا
( ’ إى . تى . ‘ أو غيره ) . لكن المؤكد أنه
لم يبرمج منذ طفولته للكلام الجاف فى العلم والمستقبليات . والمؤكد أكثر
أنك لو قلت له إنها ‑أى العلم والمستقبليات‑ سوف تبطش بالإنسان والإنسانيات ، لأصبح العدو رقم 1
فى هذا الكوكب للعلم والعلماء وللمستقبل والمستقبليين ، وحشد ضدنا كل ما فى
جعبة آلته السينمائية الجبارة . بمناسبة ’ تقرير الأقلية ‘ ، ومرة
ثانية بعد الذكاء الاصطناعى ، وللمرة الألف عامة ،
نكرر : هذا حقل بعد‑الإنسانيين
الأشراس ميتى القلوب من شاكلة هيتشكوك وكيوبريك ، ويحظر على اليهود الطيبين
دخوله . لكن ، رغم كل شىء ألم يثر فضولك أن أكبر
فيلمين جديدين ناقشتهما هذه الصفحة فى الاثنى عشر شهرا الأخيرة هما فيلمان لهذا
السپييلبيرج ! اكتب رأيك هنا
19 يونيو
2003 : قبل عشرة أيام صدر قرار الرقابة المصرية
بمنع الجزء الثانى من فيلم المصفوفة The Matrix Reloaded ، من العرض نهائيا
فى مصر . أتحنا لك فيها النص الرسمى للقرار ( صفحة 1 ، صفحة 2 ) ،
والآن حان وقت تفاصيل القصة ، ومراجعة الفيلم نفسه . …
مبدئيا نزف للشعب المصرى نبأ أنه لن يشاهد ما أصبح
يصطلح عليه بالفعل كأعظم مطاردة سيارات فى تاريخ السينما ( 14 دقيقة كاملة
فوق طريق سريع بنى بكامله خصيصا للفيلم فى سان فرانسيسكو ، فى خلفيته يمكن
مشاهدة كوبرى البوابة الذهبية من بعيد ) . هذا فى شق البهلوانيات
وتصميم الإنتاج وتصميم النشاط وهلم جرا .
مع ذلك كل هذا وذاك أمره يهون … تصدعت أدمغتنا من كثرة ما يقولونه لنا من أن
السينما تافهة وعليها أن تفكر ، وحين فكرت منعوها . والسبب أنهم
يقصدون بكلمة تفكر أن تقوم بالتحريض ضد الرأسمالية أو ضد الجلوبة أو ضد أميركا
وإسرائيل . هذا ما فعلته لجنة الأربعة عشر المبجلة ،
والتى من المدهش أن من غير الممكن حسابها على صفوف المتحجرين أو المهوسين
التقليديين ، ليس بها رجل دين واحد ، وليس بها سياسيون تقتات كل
حياتهم المهنية على بث الكراهية ضد اليهود أو الغرب ، بل هى من أناس معظم
محسوب فرضا على الاستنارة والحداثة ، أو على الأقل على الأكاديميا وأوساط
المعرفة ! كل ما نقوله من أخبار تسربت لنا من هنا أو هناك أن
المناقشات كانت ضحلة وليس بالمرة كما يقول البيان الرسمى . كانت تدور فى
غالبها إما فى مستوى دينى عقيدى جدا ، وتحديدا رفض تجسيد الإله على
الشاشة ، أو أن الواتشوڤيسكى يهوديان ، وإما مستوى سياسى قح وفج
أيضا . فصهيون هذه المرة لم تذكر لمرة فى شريط الصوت ويمكن توجيه التعليمات
بتجاهل ترجمتها كما حدث مع الجزء الأول ، لكنها مجسدة بالصورة والصوت ولوقت
طويل . كل ما يمكننا قوله أن حتى أكثر من تربينا نعتقد أنهم دعاة تنوير
ومعرفة ، الآن إما ينشل جهازهم العصبى لمجرد سماع كلمة الشريعة
الإسلامية ، وإما أن تنطلق بحور الأدرينالين فى جهازهم العصبى ذاك لمجرد
سماع كلمة إسرائيل . كيف وصل بنا الحال إلى هذا الدرك ؟ سؤال سوف تطول
الإجابة عليه ، ولو شئت فابدأ القصة معنا من بدايتها فى صفحة الثقافة . فقط نتخيل إذا ما جاءت جيوش أميركا أو
إسرائيل بربع أو نصف مليون جندى واحتلت مصر كما فعلت مع العراق ، أن يخرج
لها مدكور ثابت رئيس الرقابة ، ضاربا كفا بكف : كيف وصلتم إلى
هنا ؟ لقد منعنا كل أفلامكم السيئة وحذفنا كل مشاهدكم الضارة منها .
هذا ما أوصاه بنا ديننا أن نعد لكم ما استطعنا من قوة ، والمفروض الآن أن
لا نقهر ! … هل الإرادة ( أو سمها الانفعال أو العواطف أو
الدوافع أو المقاصد أو الاختيار أو التيمايوس أو الكرامة …إلى
آخره ) ، هى انحراف فى التاريخ الطبيعى ، تطفر حدث فى غفلة من
الزمن فى عالم هو على العكس مادى بالكامل ، أم هى سمة لصيقة للمادة ،
أو ربما تكون أحد قوانينها القاعدية الكبرى أى بمصطلحاتنا الخاصة nOusia ، سؤال طالما حيرنا ، ناقشناه
مناقشة تمهيدية من قبل ، ونأمل
فى الحصول على إجابة مفصلة له يوما . المصفوفة 2 يفتح هذا السؤال من أوسع
أبوابه . أولا تعال لتسمع ميروڤينچيان يتحدث عن
السببية causality وعن العلاقة
الشهيرة بين السبب والأثر cause and effect ، لتشعر أنك أمام
ديڤيد هيوم يتكلم ، وها قد بعثته السينما حيا بعد ثلاثة قرون أو
نحوها من كتابته Treatise of Human Nature . وطبعا ميروڤينچيان
هذا رمز الشره غير المحدود للسلطة والقدرة . ولا تشك للحظة أن الفيلم يعادل
بلا رحمة ما بين المادية Materialism أو ما يسمى الفيزيائياتية Physicalism أو الإمپريقية Empiricism ،
وبين الشر المطلق . على العكس تماما تعال لتستمع لهذا الحوار بين نيو
والوكيل السابق سميث الذى استنسخ نفسه copied أمامه ، قبل العركة
المشهودة التى يعتز بها الفيلم أكثر من أى شىء آخر . إنه حوار يدخل لصميم
فكرة المقصد purpose : Smith: Thank you. But as you well know, appearances can
be deceiving, which brings me back to the reason why we're here. We're not
here because we're free, we're here because we're not free. There's no
escaping reason, no denying purpose - because as we both know, without
purpose, we would not exist. Smith 2: It is purpose that created us, Smith 3: Purpose that connects us, Smith 4: Purpose that pulls us, Smith 5: That guides us, Smith 6: That drives us, Smith 7: It is purpose that defines, Smith 8: Purpose that binds us. Smith: We're here because of you, Mister Anderson,
we're here to take from you what you tried to take from us. Purpose! سميث شرير أيضا ، لكنه هنا يتحدث بلسان
الإنسان ، بعد أن هوى من علياء المصفوفة . ولا أحد يعلم ما سيئول إليه
مستقبله فى الجزء الثالث ، فربما يغمر نور الإيمان قلبه ، على الأقل
ها هو قد قطع منتصف الطريق لهذا بأن أصبح ’ مجرد إنسان ‘ ! إنه
تقريبا يطرح نفس حجة مورفيوس ضد ميروڤينچيان ’ كل شىء يبدأ
باختيار ‘ . على أية حال لو تركت سميث الشرير فستجد الفكرة
تتردد على لسان حامل المفاتيح ، وهو ليس مجرد خير وحسب بل هو حامل مفاتيح
الملكوت التى سيعطيها لبطرس طبقا لمتى 16 أو طبقا لفيلم جريجورى پيك ،
أيهما شئت ، لو شئت مثل هذه المصطلحات المسيحية . يقول : I know because I must know. It's my purpose. It's the reason I'm
here. Same reason we're all here! . أما حوار العرافة ، فيردد مرة أخرى كلمة
المقصد حتى فى تفسير الأشباح ومصاصى الدماء …إلخ ، والتى يتمثلها نيو
كبرامج ’ تفصص ‘ hack برامج : The Oracle: Every time you've heard someone say they
saw a ghost, or an angel. Every story you've ever heard about vampires,
werewolves, or aliens is the system assimilating some program that's doing
something they're not supposed to be doing. Neo: Programs hacking programs. Why? The Oracle: They have their reasons, but usually a
program chooses exile when it faces deletion. النبرة الوجودية قوية جدا ، فى هذا
الجزء . مرة أخرى العرافة وكأنك أمام سارتر يقدم أطروحته الأشهر عن
الاختيار : Neo: But if you already know, how can I make a choice? The Oracle: Because you didn't come here to make the
choice, you've already made it. You're here to try to understand why you made
it. I thought you'd have figured that out by now. الكل يتحدث عن الاختيار ، ونيو يكررها أمام
المعمارى ( خالق المصفوفة ، الإله فرضا ) : Architect: Precisely. As you are undoubtedly gathering,
the anomaly is systemic - creating fluctuations in even the most simplistic
equations. Neo: Choice. The problem is choice. أيضا إليك هذه اللمحة الوجودية الأبعد فى حوار
مورفيوس مع قائد الجيش : Lock: Goddamnit, Morpheus! Not everyone believes what
you believe! Morpheus: My beliefs do not require them to. بعيدا عن رقابتنا ومثقفينا . بعض المتدينين فى
الغرب لاحظ بأن صهيون فى الفيلم ليست جنة ولا أرض الميعاد ، بل هى جحيم
وسدوم وعمورة . نعم ، كلام مغر ، ولنمضى قدما قليلا مع هذه
النظرية ، المبررات وجيهة جدا للوهلة الأولى ، ونسوغ لها من عندنا
المزيد من الشواهد : الكل يلبس الأسود ، بينما زعماء المصفوفة يلبسون
الأبيض . الحفل الماجن فى صهيون لا يمكن إلا أن يكون مبدئيا ألم تلاحظ أن ربما كان هذا أول فيلم فى
تاريخ السينما يعتمد تفسيره كلية على فيلم لم يظهر بعد . لا بد أن نعترف
للأخوان واتشوڤسكى ، بأن أجبرانا على كسر واحدة من بديهيات التذوق
والنقد ، وهى الحكم فقط على ما يظهر على الشاشة . إنه شىء يثير الغيظ
حقا أن تكتب عن الجزء الثانى فتجد نفسك تتحدث طوال الوقت عن الجزء الثالث .
تجربة فريدة ، وربما لا تنكر أنها ممتعة أيضا ! الآن لنعد لتلك النظرية ، لنجدها تعود بنا
للجزء الأول . فى الجزء الأول بدا لنا
أننا أمام عالمين يدور بينهما الصراع ، عالم صوفى متسامى يؤمن بالروح وما
وراء الطبيعة ، وآخر مادى تقنى . تمثلنا فى الأول تراث الإنسانية
بروحانياتها التى تسمو فوق الماديات ، وفى الآخر عالمنا التقنى المعاصر
الذى يقودنا فيه الحاسوب والذكاء الاصطناعى والواقع الفضيل . من ثم كان
الصراع المحورى فيه بين عالمين : الإنسانية الروحانية والإنسانية
المادية . جمع المفردات الروحانية من كل الأديان التى تحتمل هذا ( هذا
شمل كل الأديان من كل الشعوب ، باستثناء الإسلام فقط لأسباب مفهومة وجلية
تبرر حتى أن كان به نفسه بعض التيارات الصوفية سمت فوق مفاهيم الشريعة والجهاد
وأنه دنيا ودين ) ، ووضعها جميعا فى كفة ، ثم وضع فى مقابلها كل الحياة
التقنية المادية المعاصرة . وطبعا رأينا فى
حينه أن العلم ردئ فى الفيلم ، وما تفعله المصفوفة من حفظ البشر
كبطاريات للطاقة …إلخ ، ما هو إلا هراء يناقض أبسط قوانين العلم ،
ناهيك عن روح التقنيات المعاصرة . المبدع حقا ، والمثير لأقصى
مدى ، أن لا يبدو الجزء الثانى مجرد سير فى خط القصة المستقيم إلى ثلثه
الثانى . بل هو أقرب لدائرة تحيط بالدائرة . رؤية راشومونية أوسع لما
رأيناه فى الجزء الأول ، تعيد تفسير كل شىء فى ضوء معلومات أو معطيات جديدة ،
ومن نقطة منظور جديدة تقلب فهمنا السابق رأسا على عقب ( تماما كما كان يحدث
فى فيلم كوروساوا ) . حتى المصفوفة ، يعيد شرحها على لسان
المعمارى بتفاصيل تقنية تبدو مقبولة أكثر من الناحية الحاسوبية . الآن لنعد فعلا لتلك النظرية السادومية ،
ونقول إن من المحتمل جدا أن تكون الدائرة الراشومونية الأوسع التى سيأتينا بها
الجزء الثالث ، سوف تقلب كل شىء مرة أخرى . قد يتضح أن المصفوفة
خير ، وأن نيو هو المسيح الدجال ، وأن المسيح الحقيقى ربما الشخص الذى
تغلق عليه لقطة النهاية فى الجزء الثانى ، بطريقة مريبة وغير سينمائية
بالمرة ، وأنه سيدخل المعركة الأخيرة ضد إبليس الملاك الساقط سميث .
نحن منفتحون جدا لهذه النظرية ، ستكون لعبة عظيمة من الأخوين واتشوڤسكى ،
لم يشهد تاريخ الفكر الإنسانى مثيلا لها من قبل . هذا سيكون جديرا بيهوديين
عابثين بكل شىء وأوله اليهودية وآخره عقول الإنسانية المعاصرة التى لم يعبث بها
شىء قد أفكار لعبت فى عقول شخص يهودى ما أولا ، وطبعا لا نملك ترف المجازفة
برفضها من الآن ، ونحن لم نر بعد الجزء الثالث بعد . لكن مهلا ! إن لدينا نظرية راشومونية
أخرى ، وإن ليست بمثل هذا التطرف . الجزء الأول كان الصراع المحورى
فيه كما قلنا بين عالمى الإنسانية الروحانية والإنسانية المادية . الجزء
الثانى ليس خطا مستقيما يمتد بالجزء الأول . إنما أيضا دائرة أوسع .
الصراع المحورى تمدد الآن واتسعت أطرافه ، بل بات لحد كبير صراعا بين قيما
مجردة : كل الإنسانية ( بخيرها وشرها ، وكلاهما خير ) ضد كل
التقنية ( وليس بها خير ) . الأسود ليس لون الشر ، إنما لون الأرض . صهيون لا تختلف عن سدوم وعمورة لأن كليهما تمثل الإنسان . أخطاء
ونواقص الإنسان هى جزء منه ، هى ’ الاختيار ‘
و’ المقصد ‘ ، ومهما أدت للخطأ فهى جزء من روعته . فى المقابل وهو المدهش والمفاجأة فى الجزء
الثانى ، أن العلم والتقنية هى ببساطة الإله . والآلهة أشرار ،
لأنها التى تترفع على ضعفاتنا وتعاقبنا عليها ، وتتلذذ بصلف بالتحكم فينا
( ميروڤينچيان لا يتحدث إلا عن التحكم ، ويثير شهوة امرأة بقطعة
حلوى ’ كتبها ‘ بنفسه ، كى يمارس الجنس معها . مهندس الكون
أو المعمارى ، يصنع كل الأشياء مضبوطة لكن البشر لا
يستحقونها ) . بعبارة أخرى ، الصراع الجديد هنا : أن كل البشر أخيار ، وكل الآلهة أشرار ! هذا وضع منطقى . طبعا الدائرة اتسعت ،
لكن من ثم أتتنا بمشكلة أخرى لا يطيق أحد تخيلها من مشاهدة الجزء الأول :
الآن ‑لأنها اتسعت‑ لم تعد قصرا على الدين ، بل ضمت معه
العلمانية فى معسكر واحد للخير . لا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الدين إنسانى
( طبعا ! ) ، لكن من كفروا بالدين هم أكثر إنسانية ،
وكفروا به باسمها ، أو باسم عقل الإنسان فى أشرس حالاتهم ’ إلحادا ‘ .
إذن ‑ويا لها من فاجعة بالمقارنة بالفيلم الأول مفرط الصوفية‑ هذا
فيلم يوسع دائرة الإنسانية لتضم الدين والعلمانية الإنسانية humanist secularism ، وهو طموح مثير للفضول ، حيث لم يسبق لأحد أن حاول
تذويب الخط الفاصل بينهما على هذا النحو . لكن أليس هذا هو الشىء
المنطقى ؟ كيف تقول إنك صوفى وروحانى وأن هذه هى الإنسانية الحقة ،
وتتناسى أن ثمة نظرية أخرى أبلغ فى الإنسانية ووصلت لحد جعل الإنسان نفسه هو
الإله . الحل المنطقى لهذا التناقض الكبير لو أنت إنسانى حقا ، أن
تنحاز دون تمييز لكل ما هو أرضى ، لكل ما هو أسود ! كل هؤلاء وأولئك ممن نراهم من
’ الصهاينة ‘ طيلة الفيلم ، إما متدينون كيوحنا المعمدان البشير
المخبول المدعو مورفيوس ، أو علمانيون لا يؤمنون بشىء وما أكثرهم بدءا من
الزوجة السوداء زيى ( زيى هى ذيل الأبجدية ) الغاضبة لانقياد زوجها
لينك على انسياقه وراء قائده مورفيوس ، وحتى قائد جيوش صهيون الذى لا يثير
جنونه شىء قدر مروق هذا المورفيوس على الانضباط العسكرى . كل شىء إنسانى
بدءا من صوفية الكونج فو حتى ليالى الجنس الجماعى . بدءا من ترينيتى ذات
الحب الخارق شهوة وتضحية لنيو ، وحتى پيرسيفون التى تحس بالاغتراب وسط عالم
القدرة والنفوذ لأن زوجها ميروڤينچيان يخونها ، ولأن البرمجة لا يمكن
أن تعطى نفس إحساس القبلة الحقيقية مع إنسان حقيقى وحب حقيقى . الإنسان هو
الإنسان سواء عاش باستخدام آلات عصر الصناعة الباكرة تحت الأرض ( على غرار
المورلوك فى ’ آلة الزمن ‘ أو نظائرهم فى ’ متروپوليس ‘ ) ،
أو لو أجاد تقانات الحوسبة المعاصرة مثل المفصص hacker السابق مستر
أندرسون ، نيو حاليا ، وشركاه . كل هؤلاء وهؤلاء وأولئك وأولئك
أخيار لأنهم لا يزالون يمثلون روح الإنسان ، معسكر الخير ، ذلك فى
مواجهة معسكر آخر كلية ، معسكر الشر المطلق : معسكر العلم
والتقنية ، معسكر كل المتكبرين ، معسكر الآلهة . الآلهة أمثال المعمارى وميروڤينچيان ساديون
لا يعنيهم إلا هوس التحكم ، وسلب كل الحريات . هم من يريدون مصادرة كل
’ المقاصد ‘ وكل ’ الاختيارات ‘ لأنفسهم . انظر ما
قالته العرافة عن الطيور والأشجار والرياح وشروق الشمس ، والتى تقول أن
تقوم عليها برامج خفية غير مشهورة ولا تثير ضجيجا كبيرا ( تقصد طبعا
المقارنة ببعض البشر المستعصين على البرمجة الصحيحة ) . إنها ترفض
مبدأ الاختيار ، وسجلها مروع ضده ، وبدأ بأن عوقب رجل وامرأة أشد
العقاب لأنهما أكلا تفاحة تتيح لهما التخلص من بعض جهلهما . …
إذن نحن أمام نظريتان ( طبعا للجزء
الثالث ! ) ، هما العكس تماما من بعضهما . فى كلتيهما لا
نتوقع أن ينتصر صناع الفيلم للمصفوفة . لن نرى مثلا المعمارى منتصرا ،
وقد بدأ عالم جديد مقدام منضبط ببشر غير البشر ، أو يخلو كلية من
البشر . فى كلتيهما قد نتوقع دائرة راشومونية جديدة أوسع كثيرا . ربما
مثلا يتضح أن كل البشر وكل الآلهة أخيار ، وأن الشرير الحق شىء ثالث .
ربما كل كبر وكل علو هو شر ، وكل صغر وكل ضعة هو خير . لا أعرف .
كل شىء جائز بدءا من نظرية ميتافيزيائية هائلة الأبعاد وجديدة بالكامل ،
إلى مجرد اختزال كل شىء فى كلمة بسيطة للمسيح أو بوذا . المهم ،
النظرية الأولى تقول إن البشر الحاليين بخيرهم وشرهم عفا عليهم الزمن ،
والمفروض أن نأتى بجيل جديد منهم يجارى ما وصلنا له من تقنية . وقد يتضح
مثلا أن نيو برنامج حاسوبى ، وأن هذا لا يتعارض مع كونه المسيح الذى رأيناه
فى الجزء الثانى تأتيه الأمهات بالرضع والمرضى لشفائهم ، أو يتضح أن سميث
( إبليس الملاك الذى سقط فى الجزء الحالى ) قد أصبح خيرا إذا كانت
المواجهة ستكون مع شىء أكثر شرا ، وبوادر هذا وذاك كثيرة فى الجزء
المذكور . النظرية الأخرى أن الأخوين
واتشوڤسكى غارقان فى الإنسانية حتى النخاع ، ومستعدان لخوض معركتها
ضد كل التقنيات وضد كل الآلهة . هكذا كانت كل أفلامهما وهكذا ستظل ،
هم ليسوا اليهود الذين استحقوا دوما إعجابنا وثقتنا بالقدرة على اللعب بعقول
ملايين البشر ، ذلك أنهما يكرران نظريات إنسانية سوقية وغثة للغاية ،
وإن بطريقة شديد الابتكار من حيث الصيغة لا أكثر .
الواضح الآن أن لدينا ميل
لواحدة ، لكن ما هى الخطوة التالية ؟ لا نعلم على وجه اليقين .
فقط نقول إن أية نهاية غير متسقة مع انتصار الإنسان ودحره للمصفوفة فى نهاية
الجزء الأول ، ومع المقولة شديدة الطبقية ( السوپر
شيوعية ؟ ) إن كل البشر أخيار وكل الآلهة أشرار ، التى أوصلنا
لها الجزء الثانى ، ستدل على نقلة فكرية للأخوين واتشوڤيسكى حدثت
مؤخرا جدا ( ولعلها تشبه أن صححوا أو تغاضوا عن نظرية المصفوفة الخطلة
علميا بأخرى جديدة فى الجزء الثانى ، أو أن شتان بين وصف البشرية بالڤيروس
على لسان الوكيل سميث فى الجزء الأول ثم بذات الوصف على لسان فاتنة الحب بيلوتشى
فى الجزء الثانى ) . مثل تلك النقلة ستكون تأكيدا متناقضة جدا مع ما
بدءا منه . هذا أولا . أما ثانيا : فإن موقفنا الأصلى ككل حتى
اللحظة أن سينما ما بعد‑الإنسان الحقة شىء لا يزال عملة نادرة
للغاية ! من الواضح إذن أية نظرية هى الأرجح . لكن فى
كل الأحوال لن نتوقع إلا جزءا ثالثا أشد إثارة بعد نصف عام فقط من الآن .
لكن مرة أخرى لا تتوقعه فى مصر . على الأقل جدا لأننا نعلم أن صهيون ستحتل
مساحة أكبر بكثير فيه ! اكتب رأيك هنا Cover Story:
(Most of 2004)
11 فبراير
2004 : واكتملت ثلاثية ‑أو بالأحرى فيلم‑
مملكة الخواتم . شىء جسيم الوطأة لدرجة لا تكاد تصدق . اعتدنا القول إنها الرواية التى أرادت أن تجعل
الأوديسا تبدو كلعب العيال . أيضا اعتدنا القول إنها موسوعة للأساطير عادت
لسينما من أوسع أبوابها لأن الآن هو عصر الأفلام‑الموسوعات ( هارى
پوتر موسوعة لأشغال السحر ، المصفوفة موسوعة لأفكار الفلسفة ، وهلم
جرا ! ) . لكن باكتمال فيلم الساعات العشر ، تبدو لنا
الأمور أعمق من هذه أو تلك بكثير . ( انظر لمراجعتنا السابقة للجزء
الأول فى صفحة الفن الجماهيرى ) . الوقع الكلى يبدو أشد وطأة وجسامة بكثير مما خرجنا
به من الجزء الأول ، هذا لدرجة
أن كان الانطباع العام من الجزء الجديد ( ضرب الشاشات المصرية اليوم )
وقعا بعد‑إنسانى أكثر منه من
أى شىء آخر . صورته المحورية أن قزم الإنسان فى مواجهة هذه القوى الرهيبة
حتى وإن كانت منبعها هى نفسها عقله الأسطورى الدينى هو نفسه . هذا فى حد
ذاته يحمل الكثير من الاسقاطات عما نواجهة حاليا من عصور ظلام جديدة تتمثل فى
طغيان العرب والمسلمين على قارات عالمنا ، أو على الأقل برمجتهم لكامل
أچندته لحسابهم الخاص . التجسيد المخيف لقوى الشر ، وترجمته فى صورة
عالم لا يرى الشمس ( عصور ظلام بالمعنى الحرفى للكلمة ) ، يجعل
التلخيص الممكن لو شئناه فى عبارة واحدة ، إنه الفيلم الذى يجسد كل الجانب المظلم من العقل الإنسانى ، بل ويفوق فى هذا التجسيد أعظم التجسيدات السينمائية السابقة من حيث
وطأتها وإرعابها ( وطبعا موسوعيتها ! ) . مرة أخرى هذا معنى
بعد‑إنسانى ، والتحية واجبة للپروفيسور يونج ، ولكل ثقافة النصف
الأول من القرن العشرين التى أنجبت فرويد ويونج وأيضا تولكيين !
الرموز فى الفيلم‑الثلاثية كلها بعيدة ،
هو يأخذ من موسوعة الأساطير و / أو الأديان المفردات كأفكار لا
كأشخاص . والمؤكد أنه لا يريد ولا يقبل أن تختزل هذه الملحمة الجبارة فى
مجرد رموز آنية أو تافهة ، أو أنها تريد أن تقول شيئا محددا ما من حياتنا
المعاصرة . المسيح مثلا توزع ما بين فرودو المصطفى حامل الرسالة الذى يمر
بتجربة اختبار الشيطان له ، ويقبض على الرسالة‑الجمر أحيانا بالمعنى
الحرفى ، وينتهى الأمر بقيامته وصعوده ، وبين معظم الشخصيات الأخرى
التى تحمل هذه المفردة أو تلك ، أقلها ابن دينيثور الملك الذى قام من
الأموات هو أيضا ويمثل فى ذات الوقت قصة الابن الضال الذى عانى من تمييز أبيه
ضده لحساب أخيه ، أو كذلك أراجورن ابن ثيودين الملك الذى آثر الرسالة عن
الزواج ، وسيشق بسيفه سلطان الموت أو غلبة الهاوية ( حرفيا من الناحية
البصرية فى إرضاخ عالم الموتى ) ويعود ليرث ملك العالم ( الواقع أن
ملامح وجه وشعر وملامح الممثل ڤيجو مورتينسين تكاد تطابق الصورة التقليدية
للمسيح أكثر منها بكثير هيئة إليچا وود كالهوبيت فرودو ) . بالمثل قد تعثر على العذراء مريم فى الفيلم
بسهولة ، لكنك لن تجد أبدا كل عناصر أسطورة العذراء فيها . وقد تقول
بذات السهولة عن ساموايز أو اختصارا سام تابع فرودو أنه يشبه بطرس فى قوته
وإخلاصه ، وإن كان هذا لا يستقيم جدا إن تذكرت أن بطرس قد خان سيده
لوهله . جاندولف هل هو ميخائيل الملاك الحارس حامل البشارة أم هو الروح
القدس ، أيضا الرمز ليس محددا بل هو خليط من هذه المفردات وتلك ، أو
لعله الرب نفسه ، لا نعلم ، وهكذا .
الهوبتات هم الكائنات القصيرة الدونية ، لكن
الفيلم ينتهى بملك الأرض الوسطى وكل العرق البشرى يسجدون لهم ، فهؤلاء ما
هم إلا أنقياء القلب ‑إن لم يكن تحديدا الأطفال‑ الذين تحدث يسوع عن
قدرتهم الخارقة النابعة من مجرد نقاء قلوبهم وتنبأ لهم بميراث الأرض . هذه
الأرض هى أهم شىء إطلاقا فى كل المسعى . بل تأتى فى تتابع النهاية بعد رحلة
’ السفينة الأخيرة ‘ لأرض الخلود ، بها الرب جاندولف
والملائكة ، وفرودو ( المسيح المصطفى ) ، وأبيه بيلبو
( أيان هولم ) رغم كل ما فى هذا الأخير من خبث وخشونة ورغبة فى سرقة
الذهب ، وكأننا نتحدث هنا عن موسى ويهوديته البطريركية العنيفة شبه
المافياوية ( لاحظ شبه التطابق بين اسم Bilbo وبين Bible أى التوراة ! ) ، تلك فى مقابل المسيحية الرقيقة
الطيبة المتسامحة التى ولدت من أحشائها . أما الجنة الأرضية فتظل أرض
الشاير الخضراء البهيجة ، وتظل هى الغاية الأسمى ، حيث مرة أخرى نحن
أمام الفكرة الپروتستانية الأبرز والتى لا تقرها المسيحية التقليدية
كثيرا : الجنة هنا والآن . ولقطة النهاية تماما هى لباب بيت يغلق على
أسرة سعيدة ، أسرة سام ، وكان ’ سر الزواج المقدس ‘ ،
هو الهدف الغائى وراء كل تلك الأهوال التى استمرت معنا قرابة العشر ساعات على
الشاشة . كلها ، كلها ، مفردات
أسطورية تتكاثف حينا وتتفكك حينا آخر ، لكن لا تتجسد أبدا فى شخصية واحدة
قاطعة أو مباشرة بعينها . هذا يسرى حتى على الجزء
الأكثر اقترابا للقصص الواقعى المعاصر ، ألا وهو قصة إدوارد الثامن الذى
ترك العرش من أجل حبه لليدى سيمپسون ، والتى من الواضح أن المؤلف الإنجليزى
قد اهتز لها بشدة وأراد الارتقاء بها لمستوى الأسطورة ، هذا من خلال قصة حب
الحورية أروين والمحارب أراجورن ، اللذين من أجل الحب تركا كل شىء ،
الخلود بالنسبة لها ، ووراثة الملك بالنسبة له ( كانت ذروة كتابة
الپروفيسور تولكيين
الشر مثله مثل أى شىء آخر لا رمز مباشر أو
صريح . الشيطان كما هو حية التكوين أو إبليس أيوب ، هو أيضا مفردات
موزعة على أكثر من شخصية ، وأيضا مجمعة فى كل واحدة منها ، وأبرزها
المسخ ذو الوجهين جوللم / سميجول ( فصام الشخصية الفرويدى مرة
أخرى ) ، الذى يفتتح هذا الجزء من الفيلم بأنباء كان لعل من الحرى بنا
أن نتوقعها : أنه ليس إلا ملاك ساقط ! فى ضفة قوى الظلام الأشياء بدورها تذكّر أو تؤشر لشىء
ما طوال الوقت ، لكن ليس أكثر من هذا . هذا الشىء هو ببساطة :
الإسلام . من أسباب جماهيرية الثلاثية الساحقة أن جاء جزؤها الأول بعد
أسابيع معدودة من 11 سپتمبر 2001 ، والعالم الغربى قد أصبح عرضة لغزو قوى
الظلام القادمة من الأرض الوسطى ، وأصبحت الحرب التى ستحدد مصير كل الحضارة
الإنسانية هى حرب حول من يتسيد الأرض الوسطى . والكلمة فى حد ذاتها تحيلك
تلقائيا للشرق الأوسط مهد الأديان وجميع قوى الظلام قاطبة ، أو ربما
بالأحرى لكل الثلث الرأسى الأوسط من الخريطة ممتدا لأعلى ليشمل أيضا الدولة
البيزنطية ، مما يمثلان معا الشريط الأسود المسلم‑الأرثوذوكسى الذى
يشطر بقية العالم نصفين ، الثلث الخالى من صوفية وروحانية الثلث الواقع إلى
الشرق منه ومن عقلانية ومادية الثلث الغربى ، والذى لم يسهم فى التاريخ
الإنسانى إلا بجحافل القلنسوات السوداء لرجال الدين . الجزء الثالث يأتى أكثر عمقا ‑ولا نقول وضوحا‑
بكثير . يكاد يكون موسوعة من الرموز لرؤية الغرب للإسلام بدءا من أيام
محاولات صد الجحيم الإسلامى الغازى فى ضحى العصور الوسطى مرورا بالحملات
الصليبية وتحرير إسپانيا وانتهاء بـ 11 سپتمبر 2001 . تأمل تلك الأفيال
الهائلة التى تخلو منها الأساطير إلا قصة القرآن الشهيرة ، أو أولئك
الفرسان الذين يركبونها وقد لفوا رءوسهم بأوشحة سوداء هى بالضبط ملابس وطريقة
لبس فرسان طوارق شمال أفريقيا أى تحديدا هم تلك الأشكال البشرية التى تعرف الغرب
من خلالها أول ما تعرف على الإسلام . أو تأمل تلك الجوارح الضخمة التى
تذكرك بطائرات 11 سپتمبر ، أو عبارة جاندولف ’ أخيرا جئنا لها ،
أعظم معركة لعصرنا هذا ! ‘ ، التى لعلها أيضا تذكرك بچورچ
دبليو . بوش . بعضها يقترب من الرمز الواضح وأغلبها تذكرات لا أكثر
تشتغل على عقلك الباطن أكثر مما تبنى رمزا صريحا . أضف لهذه وتلك أن هؤلاء
الأشرار يحاربون امپراطوريتين ( مسيحيتين ) متهالكتين ، أو
بالأحرى واحدة متهالكة إلى زوال ( البيزنطية ) ، وأخرى تحاول
التماسك واستعادة قواها ( الرومانية ) ، وتكون أمل العالم الذى
ينتصر فى النهاية . رأس تلك القوة الشريرة التى يصفها الفيلم بأنها أخطر من
كل القوى التى عرفها العالم ، هيكل معدنى أسود ، لكنه خواء من
الداخل ، نقطة ضعفه الوحيدة النساء ، ومن يستطيع قتله هو فقط امرأة
( مرة أخرى يريد تذكيرك بوضعية المرأة فى الإسلام أو فى سمعة نبيه الشهيرة
كزئر نساء ، وتكاد تريد أن تكون نبوءة لدماره على يديها يوما ) .
هنا هو ليس الشرير ( الشيطان ) نفسه ، إنما أحد أكبر أركان
حربه ، بل أكبرهم جميعا . والنهاية طبعا سقوط إله هذا الدين
الشرير ، تلك العين الجحيمية ، ويتحول لحمم منصهرة تتبدد فى
الأرض . ككل اكتمال الفيلم‑الثلاثية قد يأتى ببعض من
رؤية إضافية أو معدلة أو على الأقل معمقة ، لبعض مما سبق لنا تمثله من الجزء الأول . باستثناء النهاية
الصريحة نسبيا لفرودو بالذات ، والتى تشبه تتابعات خاتمة قصة المسيح ،
من صلب وضعف على الصليب وقيامة وصعود بسفينة من ضوء ( هل تخص
صموئيل ؟ ) إلى ’ الشواطئ البيضاء ‘ ( أو إلى
’ الغرب ‘ طبقا لأغنية النهاية وافهمها كما شئت ) ، ذلك بعد
أن عهد لحوارييه بالكتاب الذى يروى قصته وقصة أبيه ، وبعد غمزة عين مغلفة
بابتسامة منه ، ربما تريد أن تخبر لأولئك الباكين بأنه عائد لهم
يوما ، فإن الفيلم فى رأينا ، لا يعد مسيحيا على نحو عام ، ونشك
بشدة فى أن حب المتدينين المسيحيين للرواية وللفيلم إنما هو فقط مبنى على تحليل
سطحى .
رغم أننا فى مراجعتنا للجزء الأول ربطنا بين نجاح
الرواية وبين تنامى الروح الوطنية فى أميركا بعد الحرب الكورية ، وربطنا
بين نجاح الفيلم وبين أحداث سپتمبر ، إلا أن أقل ما فى الأمر الآن أننا
بتنا ملزمين بإعفائه من تهمة المانوية أى تجسيد العالم كخير مطلق فى مواجهة شر
مطلق . لقد وصل به الأمر لدرجة أن أتى هذا الجزء الثالث بالموتى من تحت
الأرض لينضموا لجيش الخلاص وأن ها قد غفرت لهم كل خطاياهم السابقة . حتى
العنكبوت العملاقة التى تلف فرودو بخيوطها وتحوله حرفيا لمومياء مصرية ،
والتى طبعا تذكرك بهذه الأمة الأكثر شرا فى التوراة ، لكنها فى ذات الوقت
تعطى لمسة أكثر شمولية لمفهوم الشر الذى قد لا يعنى بالضرورة الإسلام بمعناه
الضيق ، وتلك رؤية علمانية ربما تأثر فيها بكتاب فرويد ’ موسى والتوحيد ‘
( فرويد مرة أخرى وأخرى ) . لو حاولنا الإفاضة فى كيف تم التعبير بصريا عن كل
هذه الدراما فلن تسعفنا الصفحات . هل نتحدث عن الظلام المتغلغل فى كل شاردة
وواردة ، هل نتحدث عن الجموع والمعارك الهائلة ، هل نتحدث عن المؤثرات
المذهلة . من هنا قررنا فيما سبق أن نكتفى بالتعبير عن الوقع النفسى
والمحتوى الفكرى الذى كان المحصلة الأخيرة لكل هذه مجتمعة . هناك خلاف حول ما بعد‑الذروة ، [ تحديث : 29 فبراير 2004 : ’ لورد
الخواتم —عودة الملك ‘ يكتسح كل تسميات الأوسكار الإحدى عشرة ،
ويتشارك الصدارة التاريخية فقط مع ’ بن هير ‘
و’ تيتانيك ‘ ، فيما يعتبره الجميع تكريما فذا هائلا وغير مسبوق
لكل الثلاثية . اقرأ قصصنا المستقلة هذا العام عن جوائز الجولدن جلوب والبافتا وتسميات الأوسكار وجوائز الأوسكار ] .
26 أغسطس
2004 : ما هى أفضل أفلام الخيال العلمى فى
نظر العلماء ؟ سؤال ذو بعد حنينى بالنسبة لى أنا شخصيا ، وقد قضيت
عقودا أكاد أنفرد عربيا بالكتابة عن هذا الضرب السينمائى ، وتأكيدا أنفرد
بالتوسع فيه طولا وعرضا وعمقا ، بالأخص فى هذه الأخيرة بطرح السؤال
الآتى : ما هى أكثر أفلام الخيال العلمى خيالا ، وما هى أكثرها
علما ؟ والهدف من السؤال أن كان سيدلنا فى محصلة شقيه على ما هى بالفعل أفضل
أفلام الخيال العلمى . وربما كان بحثى المعنون ’ أزمة الخيال فى سينما الخيال العلمى ‘ ، فى مجلة ’ الفنون ‘ المصرية ( فى
منتصف الثمانينات ) ، هو أكثر جهودى تركزا أو تبلورا للإجابة على
السؤال . فى الواقع منذ الصباح وسعادتى هائلة بأن أعلنت الجارديان اليوم
نتائج استفتاء بين طليعة علماء بريطانيا ، وجاءت النتيجة ، المركزين
الأول والثانى ، هما بالضبط أفضل فيلمين اخترتهما فى البحث المذكور ، بليد رانر وأوديسا الفضاء ( لحسن الحظ مراجعات كتابنا دليل الأفلام لهذين الفيلمين موجودة
على الموقع منذ فجر ظهوره ذلك هنا
وهنا
بالترتيب ، فطالعها لو شئت ) . ربما كان الترتيب عكسيا عندى ( وفى الواقع هو
عند الجارديان أقرب لأول وأول مكرر كما تقول ) . فقد اخترت أوديسا
الفضاء كأفضل خيال علمى للمستقبل البعيد ( تعريفه 15 سنة فأكثر فى علوم
المستقبليات ) ، وبليد رانر كأفضل فيلم مستقبل قريب ( والفيلم
يقفز فى المستقبل ذات مدة أوديسا الفضاء تقريبا ، لكنى لم التزم معه
بالتعريف المذكور ، لأن فى السينما المستقبل بعد 30 أو 40 سنة يبدور قريبا
جدا من الواقع الحالى ، وخيالها البعيد قد يصل لقرون كما تعلم ، وهذا
بالطبع ليس هذا بوارد أصلا فى علوم المستقبليات التقليدية . أما أوديسا
الفضاء فيبدو من ناحية انطباعية محضة محلقا فى الخيال البعيد على الأقل بسبب
أعماقه الفلسفية ) . فحوى هذه الدراسة كان أن العلم الجيد ربما لا يكون
معدوما كثيرا فى سينما الخيال العلمى ، لكن المؤكد أن الخيال كذلك ،
أى أنه بالفعل نادر للغاية ، ولدرجة تثير الاستغراب . للدقة فقد كنت
فى تلك الدراسة قد عرجت على فيلم ثالث باعتباره نموذجا للتوازن بين كلا الأمرين
العلم الجيد والخيال المحلق ( جعل شخوصه تسافر بسرعة الضوء ، علم ردئ
بمعايير اليوم ، علم جيد بمعايير الخيال المحلق ، وأحيانا ما أرفع
الخيط بين العلم الردئ والخيال العظيم ! ) . إنه ’ رحلة إلى
النجوم ‘ ، أقصد جزءه الأول الذى جند له فريق مستشارين علميين هائل من
بينهم إسحق أزيموڤ مثلا . فى مقابل هذا وذاك وجدتنى أكاد أهيل التراب
على معظم بقية الخيال العلمى السينمائى ، كمجرد مد الحاضر على استقامته دون
خيال حقيقى يذكر ( سكان الفضاء دائما بأرجل وعيون ، ولا أعرف
لماذا ) . الخيال الحق فى رأيى هو مثلا كائنات غازية أو سائلة ،
وليس أقل من هذا . وعندما جعل
2001 —أوديسا الفضاء كائنه فائق الذكاء شبه الإله مجرد مسلة صخرية سوداء
( لا أرجل ، لا عيون ) تختفى ثم تظهر على بعد ملايين الأميال فى
لحظة ، كدت أطير من المتعة ، وهكذا !
شرفنى كثيرا أن كنت ذات يوم واحدا
من نحو ألف من السينمائيين العالميين ‑بالطبع أغلبهم أكثر شهرة منى بكثير‑
الذين اختارهم معهد الفيلم البريطانى حول العالم ليسجلوا ما سمى يوميات
السينما ، أو World Cinema —Diary of a Day حسب اسم الكتاب الذى صدر احتفالا بمئوية السينما فى فبراير
1995 . اليوميات المقصودة هى ماذا كان يفعله هؤلاء الألف شخصية فى يوم محدد
هو 10 يونيو 1993 . بالنسبة لى كان يوما حافلا فعلت خلاله أشياء كثيرة
يمكنك أن تقرأ عنها فى الكتاب ، وربما لم تعد ذات أثر ممتد أو قيمة
باقية . لكن ما لا أنساه أبدا هو أنه كان واحدا من تلك الأيام الكثيرة التى
كنت ولا زلت أعاود فيها مشاهدة هذا الفيلم . … (Note: Downsized image; for
full scale, click here)
هناك قلة من الأفلام أكرر
مشاهدتها ، أو ‑حسنا‑ ركوبها بحثا عن الأفكار . منها
’ حدث ذات مرة فى الغرب ‘ غير الخيالى بالمرة ، ومنها ’ المدمر 2 ‘
( هو وجزؤه الأول يحتلان معا رقم 6 فى القائمة ، الأمر الذى يثير لى
الكثير من السعادة ، لكن ربما يلغز قليلا هؤلاء النقاد المتحذلقين الذين
صنفوا السلسلة كمجرد عنف وزغللة أبصار وتافهة من حيث المحتوى ) . كما قلت الأفكار لا توجد
فيها ، ولا توجد فى كأس النبيذ الجيدة المصاحبة لها ، بالضبط كما لا
توجد فى الخضرة الممتدة عبر النافذة خلال رحلة قطار مريحة طويلة . مثلا هذه
الأخيرة تأتيك بالأثر التنويمى خالصا ، فتنطلق الأفكار ( مثلا كثير من
الاقتباسات التى باتت معروفة من الدراسة الرئيسة
لصفحة الثقافة جاءتنى خلال رحلات قطار يشق صعيد مصر ! ) . أما
قطار تلك الأفلام فيضع رحلة الخيال فى نطاق أكثر تحديدا ، لكن فى نفس الوقت
أكثر جموحا وانطلاقا ، وأيضا بالطبع الأفكار لا توجد فيه لكنه يأخذك
إليها . ’ المدمر 2 ‘ فيلم بعد‑إنسانى يجعلك تفكر فى العلم والتقنية وضآلة
الإنسان ومستقبله المحتمل … إلخ . فيلم سيرچيو ليونى ‑بالغ الإقباض جدا
بالنسبة لى لكن الذى لا أقاومه أبدا‑ بدوره ركوبة هائلة . هذا هو أجمل فيلم صنعه بشر . الفيلم الوحيد الذى شاهدت جميع حفلات عرضه ( بليد رانر شاهدته
كل الأيام السبعة مرة فى اليوم وأساسا للبحث عن التفاصيل تحت كل حجر كما قيل عن
أسلوب ريدلى سكوت . لكن مع ’ حدث ذات مرة فى الغرب ‘ شاهدت كل
الحفلات ! ) . إنه ركوبة تجعلك تغمض عينيك أحيانا وتكتفى بشريط
الصوت أو بأصوات نجومه الرائعين أو أصوات الطبيعة أو أصوات البناء … إلخ
( وربما ليس مصادفة أنه أقل أفلام الويسترن إطلاقا فى التاريخ من حيث عدد
طلقات الرصاص ) . هذه كلها ثم تسرح إلى ما لا نهاية فى التاريخ
والجغرافيا والإنسان والفراغات والأعراق والرواد والمغامرين والبنائين والحضارة
وشهداء الحضارة وفى علم النفس وعلم الاجتماع ، وأشياء أخرى كثيرة
جدا . بالطبع القائمة ‑قائمة
الأفلام المولدة لحالة التبدل العقلى أو ما يسمى الـ altered states ، تضم بالنسبة لى على الأقل عناوين أخرى ولنقل منها مثلا صوت الموسيقى أو حمى ليلة السبت أو حصيلة الذكاء I.Q. ، أو تقريبا أى فيلم جيد يمكنك لو كررت مشاهدته كثيرا أن
يخلق فيك ذلك المفعول التنويمى التأملى ، وإن كل بالطبع فى حدوده كما
ونوعا .
على أنه لا شىء يفوق أوديسا الفضاء أثرا سواء
أفقيا أو رأسيا ، بمعنى اتساعا وعمقا معا فى إحداث ذلك الأثر . لا
أدرى بالضبط فيم كان المشاهدون الأصليون ممن تقول الأسطورة أنهم تقاطروا عليه مع
لفافات الماريوانا ، يصلون بها لذروة الاشتعال مع التتابع السيريالى
الأخير ، لا أدرى فيم كانوا يسرحون بالضبط . لكنى أعرف فيم أسرح
أنا ، أعرف تماما أثره وأعرف المنطقة التى سيأخذنى إليها . أوديسا الفضاء
يأخذك إلى أعماق أعماق الفلسفة ، يأخذك لأبعد نقطة يمكن أن تطمح لها فى كل
رحلة عمرك . يأخذك إلى حيث يتجلى لك أرسطو وبيكون وهيوم وسپنسر ، هناك تحدثهم ويحدثونك ، تسألهم ويلهمونك بما لم يمكن أن
يكون قد خطر ببالك قط قبل أن تدس شريط الڤيديو ، أو ‑الآن‑
القرص الرقمى ، إلى جهازك . المهم ، بينما نال 2001 —أوديسا الفضاء
( 1968 ) تقديرا فوريا هائلا من كافة النقاد ومن الجمهور الذى لم
يحتسبه أحد أصلا ولا هو نفسه ربما ، كانت القصة مختلفة بالنسبة لبليد
رانر ، وأيضا مختلفة من زاويتى الشخصية ، الحنينية لكن من نوع
آخر . بالنسبة لكلا من رحلة إلى
النجوم ( 1979 ) وبليد رانر ( 1982 )
بالذات ، كنت أشبه بمن يدخل معركة رجل واحد . كان لدى من خلال الشركات
الموزعة مئات الصفحات التى تسجل كل ما كتب صحفيا عن الفيلمين ، وكان كله
إما نقدا سلبيا وإما مدحا سطحيا تافها . كتبت عن كلا الفيلمين مرتين على
الأقل بمجرد العرض ، وأذكر أن ترجمت الشركة الموزعة ما كتبت عن بليد رانر وأرسلته للشركة
الأم . ظللت لا يستفزنى شىء قدر كتاب دليل الأفلام السنوى من تأليف ليونارد
مالتين وهو الأنجح أميركيا ، وهو يعطى الفيلم أحط تقدير إطلاقا ، نجمة
ونصف فيما أذكر ، وأظنه لا يزال يفعل حتى اليوم ؟ ! ظل هذا الألم
يلازمنى إلى أن قرأت كتاب ’ السينما الخيالية ‘ للناقد البريطانى
المتخصص المرموق پيتر نيكولز بعد نحو 4 سنوات ( ترجمته لاحقا للهيئة المصرية العامة
للكتاب ، وترجمة الكتب كما تعلم شىء مضنى ، لذا أنا لا أترجم سوى
الكتب التى أحنق على أصحابها أن كانوا هم مؤلفيها ولست أنا ) . ما أن
قرأت نيكولز حتى هدأ روعى قليلا ، وبالفعل أخذ الفيلم حقه بالتدريج بعد ذلك
ليشق طريقة نحو مكانة كلاسية عظمى معتمدة ، واليوم ها هم علماء بريطانيا
يتوجونه كأعظم فيلم خيال علمى إطلاقا ! فوز عظيم ولحد كبير جدا فوز
مستحق ، ولحد ما فوز مدهش ومفاجئ . إلا أنى ورغم أن حتى من حقى أن
أعتبره فوزا شخصيا لى ولحدسى وتاريخى النقديين ، إلا أنى لا أعتقد أن ثمة
شىء ربما فى كل السينما يمكن أن يفوق ’ 2001 ‘ الذى احتل المركز
الثانى . لكن هنا لا يجب أن ننسى من هى لجنة التحكيم ، أو كما نقول
دوما أعطنى أسماء لجنة التحكيم أعطيك قائمة الجوائز ، وهؤلاء ببساطة علماء
وليسوا فلاسفة ! لكن بالمناسبة لا حتى هذا الكتاب ولا هؤلاء العلماء ، ولا أى أحد ربما
ثمن بعد ’ رحلة إلى النجوم ‘Star
Trek —The Motion Picture . فى رأيى مثلا أن فكرة الحاسوب
ذاتى التعلم الذى يجوب الكون فيحوى كل معرفته ’ فى أحشائه ‘ ، هى
أعظم قطعة خيال تخص الحاسوب ، أفضل حتى من هال أوديسا الفضاء الشهير
جدا ، وهى إرهاصة كانت لمشروع الجيل الخامس ، ولكل مستقبلنا
الآتى . من هذا المنظور إذن ، فبقية قائمة الجارديان
لا تنظبق عليها للأسف مثل معاييرى الصارمة هذه ، وإذا كان بها فيلم ثالث أو
رابع يلامس تلك المعايير فهو السوڤييتى سولاريس ، حيث جعل أحد الكواكب
برمته كائنا حيا ، وفيلم ريدلى سكوت السابق مباشرة على بليد رانر ’ وحش الفضاء ‘ الذى
نجح فى خلق الإحساس بكم هو الفضاء ضخم موحش ومرعب وربما أيضا لا جدوى من
استكشافه . أنا وكما لعلك تعلم من المتحمسين جدا أيضا للمدمر الجزء الثانى
( وفى احتفال معهد الفيلم البريطانى بمئوية السينما حيث سألوا ألف شخصية
سينمائية عالمية بما فعلت فى يوم محدد ، كان من بين إجابتى شاهدته فى ذلك
اليوم ، وأنه بخلاف فيلم أوديسا الفضاء فيلم أحرص على مشاهدته من حين
لآخر ) . السبب ليس أنه سينما بعد‑إنسان مباشرة ، فهو من
حيث المحتوى المباشر فيلم إنسانى جدا معاد للآلات وللعلم ، لكن بعد‑إنسانيته
تأتى من وطأة الجبروت الهائل الذى جسد به تلك الآلات وهذا العلم ، لدرجة
تتضاءل تماما جانبها العظة المباشرة له . أيضا فيما يخص آرائنا السابقة فى
أفلام قائمة الجارديان ارجع لرأينا فى ثلاثية المصفوفة أعلاه ،
حيث رأينا أن الجزء الثانى أفضلها بسبب ما يعد به فلسفيا ، والجزء الثالث
هبط بهذا التوقع للا شىء تقريبا ، أما من حيث العلم فلا قيمة تذكر لأى
جزء ! اختيارات العلماء للقائمة تأثرت بأسماء المؤلفين
كمشاركة علماء كبار فى صنع الأفلام مثل آرثر سى . كلارك فى أوديسا
الفضاء ، أو كاتب خيال علمى معتمد كستانيسلاڤ ليم لفيلم سولاريس
( حسب الجريدة أيضا
بعضهم سمى مؤلفين ولم يسم أفلاما ) ، وأحيانا اختاروا لمجرد الحنين
( التعبير للصحيفة ) كحالة سداسية حروب النجوم . وربما الأدق أنهم
اختاروها لأنها جعلت العلم ثقافة جماهيرية كاسحة ، وهذه ربما تبدو نقطة ضعف
مفهومة لدى أناس طالما أحسوا أنهم مهضومون مهملون وربما مكروهون ، بينما هم
ببساطة صناع مستقبلنا . شخصيا كنت أود وجود رحلة إلى النجوم
بالقائمة ، لكن يكفينا عوضا عنه فيلم روبرت وايز الأكثر كلاسية وأحد أكثر
أفلام ازدهارة الخيال العلمى فى الخمسينيات وقارا وجدية فى التعامل مع مادته
وربما رائدها الحقيقى ’ يوم
سكنت الأرض ‘ 1951 . ( روبرت وايز
النموذج الأكثر كلاسية لما يسمى موجه الستوديو . قادر على صنع كل الضروب
السينمائية بنفس الاتقان . روبرت وايز الذى استمتعنا ذات مرة بحضوره
لمهرجان القاهرة ، هو صانع قصة الحى الغربى وصوت الموسيقى ، وهو نفسه
صانع أريد أن أعيش ، وهو نفسه صانع لعنة الناس القطط والمراودة ، وهو
نفسه صانع جرذان الصحراء واجرى فى صمت اجرى فى عمق ، وهو نفسه صانع هيلين
الطروادية والمكيدة والجناح التنفيذى …إلخ … إلخ ) . أما الأفلام
التى لم أحبها كثيرا من بين أفلام القائمة ، فهى
اثنان . فيلم عن نص أورسون ويلز الإذاعى عن رواية إتش چى .
ويللز . ربما لا أكون موضوعيا جدا ، لكنى مصاب بما يشبه العقدة من
الأفلام التى شارك فيها إتش . چى . ويللز أو نقلت عنه ( آمل ألا
يكون فيلم سپييلبيرج / كروز القادم ’ حروب العوالم ‘ منها ‑انظر
مراجعتنا المختلطة نسبيا لفيلمها السابق معا أعلاه ) .
السبب أن الكثير منها فسد محتواه الأصلى وأحيانا عكس ليصبح دينيا ، ناهيك
عن أنى مثلا لم أبلع أبدا لا سينمائيا ولا علميا فكرة أن تمتد أحداث فيلم لمائة
سنة ( ’ الأشياء الآتية ‘ 1936 ، الممتد الأحداث حتى 2036 ، به كل تلك
المتناقضات . إيمان نادر ومطلق بالعلم فى ذات الوقت معادى جذريا
للحرب . يقدم الدهماء رافضين للعلم مهددين لمستقبله بما يكاد يوحى أنهم يجب
أن يكونوا مادة لحرب إبادة هم أنفسهم . يؤمن بحكم صفوة التكنوقراط بينما
أنت تعلم أن وويلز نفسه اشتراكى حتى النخاع . وهلم جرا من المتناقضات .
لكن الأسوا ‑ورغم أن بعض خيالاته لا سيما المعمارية منها ممتازة ولم تتقدم
عنها كثيرا أفلامنا المعاصرة عن المستقبل نفسها‑ هو أنه جعل الكلام عن
المستقبل البعيد رخيصا إن لم يكن مجانيا ، لدرجة أن مثلا شجع التليڤزيون
فى حينه على الحديث عن ‑صدق أو لا تصدق‑ القرن الخامس والعشرين فيما
سمى ببك روچرز 1939 ‑هل بوسعك حتى أن تجزم أن الإنسان نفسه لن يكون قد
انقرض فى القرن الخامس والعشرين ؟ ) . مع ذلك ربما كان من الأفضل
اختيار فيلم ’ الأشياء الآتية ‘ بدلا من ’ حروب العوالم ‘
( 1953 ) . والسبب سنة إنتاجه فقط ، فهو الفيلم العلمى
الفخيم حقا لفترة ما بعد السينما الصامتة ( متروپوليس ذروتها ) ، وقبل
ازدهارة الخمسينيات ( الكوكب
المحرم ذروتها ) ، وإن كنت فى كل الأحوال لا
أفهم أفضلية أيهما على الفيلمين اللذين ذكرتهما للتو مثلا ! الفيلم الآخر الذى لم يحدث أن وزنته كثيرا يوما وورد
فى قائمة الجارديان ، هو ’ لقاءات قريبة من النوع الثالث ‘ الأكثر
طفولية وصوفية ورمانسية أن لم نقل سذاجة من أن يعد خيالا علميا . إن أى
تعريف للخيال العلمى لا يكاد ينطبق عليه أصلا ! … المهم إليك قائمة الجارديان وارجع للمقال
الأصلى للحيثيات الكاملة : 1. Blade
Runner (1982) Dir: Ridley Scott 2. 2001 —A
Space Odyssey (1968) Dir: Stanley Kubrick 3. Star
Wars (1977) / Empire Strikes Back (1980) 4. Alien
(1979) Dir: Ridley Scott 5. Solaris
(1972) Dir: Andrei Tarkovsky 6. Terminator
(1984) / T2 —Judgment Day (1991) Dir: James Cameron 7. The Day
the Earth Stood Still (1951) Dir: Robert Wise 8. War of
the Worlds (1953) Dir: Byron Haskin 9. The
Matrix (1999) Dir: Andy & Larry Wachowski 10. Close
Encounters of the Third Kind (1977) Dir: Steven Spielberg وفيما يلى قائمة العلماء الذين اختاروها وأصلها هنا : Igor Aleksander, computational neuroscientist,
Imperial Coll Lon; Ross Anderson, prof, security engineering,
Cambridge U; Peter Atkins, chemist, Oxford U; Nicholas Barton,
geneticist, Edinburgh U; Gregory Benford, science fiction author and
physicist, UC Irvine; Mark Blagrove, dreams researcher, Swansea U; Mark
Brake, scientist and sci-fi course director, Glamorgan U; Ken Bray,
physicist, Bath U; Philip Campbell, editor-in-chief, Nature; Euan
NK Clarkson, palaeontologist, Edinburgh U; Simon Conway Morris,
palaeobiologist, Cambridge U; Kevin Cowtan, computer scientist, York
U; Will Cresswell zoologist, Oxford U; Richard Dawkins,
evolutionary biologist, Oxford U; David Deutsch, quantum physicist,
Oxford U; Sarah Dunkin, Rutherford Appleton Lab, Didcot; Francis
Farley, emeritus prof, Royal Military Coll of Science; Ian Fleming,
chemist, Oxford U; Chris Frith, neuropshychologist, UCL; Kevin Fong,
space physiologist, UCL; Susan Greenfield, director, Royal
Institution; Walter Hayman, mathemetician, UCL/York; Julia Higgins,
polymer science, Imperial Coll London; Julian Hunt, climate modeller,
UCL; Alec Jeffreys, geneticist, Leicester U; Steve Jones,
geneticist, UCL; Chris van der Kuyl , computer scientist, and chief
executive of VIS Entertainment; Angus Lamond , biochemist, Dundee U; Armand
Leroi, molecular biologist, Imperial Coll London; Diana Liverman,
Environmental Change Inst, Oxford U; Peter Lynds, independent
scientist, New Zealand; Iain MacIntyre, mathemetician, Edinburgh U; Tak
W Mak director, Advanced Medical Discovery Inst, Toronto; Aubrey
Manning, natural historian, Edinburgh; Robert May, president,
Royal Society; Bill McGuire, director, Benfield Grieg Hazard Research
Centre, UCL; Iain McKinnell, Ottawa Health Research Institute; Anne
McLaren, Wellcome Trust/Cancer Research Institute, Cambridge U; Stephen
Minger, stem cell biologist, King's Coll London; Roy Mootoosamy,
prion biologist, King's Coll London; Miguel Nicolelis, neuroengineer,
Duke U; Miles Padgett, prof of optics, Glasgow U; Linda Partridge,
geneticist, UCL; Paul Pearson micropaleantologist, Cardiff U; Colin
Pillinger, head, space and planetary science, Open U; Steven Pinker,
psychologist, Harvard; Michael Rennie, clinical physiologist,
Nottingham U; Steven Rose, neuroscientist and biochemist, Open U; Marcus
du Sautoy, mathematician, Oxford U; Seth Shostak, senior
astronomer, Seti Inst, California; Chris Surridge, biology editor,
Nature; WG Unruh, cosmology programme director, British Columbia U; Johannes
Vogel, botanist, Natural History Museum; Carl Wunsch, physical
oceanography prof, Massachusetts Institute of Technology; Anton Zeilinger,
quantum physicist, Vienna U; Karl Ziemelis, physical sciences editor,
Nature. … وبعد ، أيا ما كان تظل قائمة الأفلام العشرة
متعة هائلة ، بالإضافة لكونها جزءا مهما ومحوريا فى ثقافة مجتمعات قائمة
على العلم والتقنية ، لا لافظة لها كمجتمعاتنا ، وأقلها دليلا هو
الفشل الذريع لأفلام الخيال عندنا ، وهى الأنجح عالميا . فببساطة
الناس ترى هذا كلام فارغ ، والأفضل أن تحدثهم عن معاناة الفقراء أو عن تشرد
الأطفال بسبب الطلاق . القيمة فى أفلام الخيال العلمى أنها تستفزنا ،
تحفزنا على التفكير ، وتخرجنا من عالمنا الواقعى المحدود الذى نعتقد
تلقائيا أنه نهاية العالم ، أو أنه العالم مؤبدا ولا سواه . أينستاين
نفسه قال عبارة شديدة الاقتباس هى ’ الخيال أكثر أهمية من المعرفة ‘ .
ولعل من المغرى جدا لنا أن نتمسك بهذه المقولة ، وقد كتبنا مثلا يوما نشيد بريجان والسادات لأنهما أتيا
بالخيال السينمائى لدنيا السياسة . أو لعل من المغرى أن نتمسك بها أيضا
لأنها تمثل الكثير من تفرد موقعنا وهو يكتب فى أى شىء بدءا من كتاب حضارة ما بعد‑الإنسان حتى السياسة المعاصرة اليومية نفسها ، مما قد
يراه البعض ميزة وكسرا للأفكار الجاهزة أو الراسخة ، ويراه البعض خيالا
أخرق يتعامل مع السياسة ومصائر الناس كمجرد نوع من الخيال العلمى الرخيص .
لكن الواقع أن لو كانت تلك مقولة أينستاين حقا ، لما تحمسنا لها كثيرا على
أية حال ، على الأقل لأننا أصحاب كتاب ‑هو الكتاب المذكور‑
ربما خيالى جدا بكل المعايير السائدة عن البحوث المستقبلية ، لكنه قائم فى
قسم كبير منه على أن المعرفة هى الرهان الكبير لمستقبل الذكاء الاصطناعى .
لحسن الحظ أن تلك ليست مقولة أينستاين بالضبط . هى مجتزأة على طريقة لا
تقربوا الصلاة ، والاقتباس الكامل Imagination is more
important than knowledge. For knowledge is limited to all we now know and
understand, while imagination embraces the entire world, and all there ever
will be to know and understand. … أعتقد أننا هكذا عثرنا أخيرا على أفضل تعريف
ممكن للخيال العلمى : الخيال
بهدف المعرفة ! ألا يصلح هذا شعارا لصفحتنا . لم لا ؟ من
اليوم ستجده على رأس الصفحة ! اكتب رأيك هنا
29 يونيو
2005 : يبدو أنها أصبحت هواية لدى
سپييلبيرج ، تناول المواد بعد‑الإنسانية الفائقة ، ومحاولة
أنسنتها ( تقرأ إفسادها ! ) . لكن السؤال هل من الممكن حقا
إفساد هجائية إتش . جى .
ويللز الهائلة ’ حروب العوالم ‘ 1898 ؟
تاريخيا أثبتت هذه الرواية أنها واحدة من أصلد وأخلد الأدبيات التى حقرت الإنسان
ودللت لحد الصدمة على مدى هشاشة وجوده البيولوچى على الكوكب أصلا ، وأثبتت
كذلك منذ ذلك الوقت وحتى الآن أنها منيعة على الأنسنة والإفساد . حين حولها أورسون ويللز لدراما إذاعية لم يقدم
كل تلك الأهوال فحسب ، بل أثبت على نحو عملى وغير مقصود ربما ، ذات
الفرضيات الويللزية الأصلية عن الإنسان ، ذلك حين فر الناس للشوارع يومها
( 30 أكتوبر 1938 ) مصدقين أن ما يذاع عن غزو مريخى هو أخبار
حقيقية . ثم حين جاء فيلم الخمسينيات ، وحاول إفسادها بقليل من الهراء
الدينى ، فشل أيضا . فما سمى فى النهاية بمعجزة ، يمكن أن يحتمل
الاستخدام العلمانى للمصطلح ، فالمعنى الويللزى الأصلى لا يزال موجودا
ومحسوسا ، من حيث أن البكتيريا هى المالكة الأصلية لهذا الكوكب ، وهى
الأكفا والأجدر بالزود عنه ، وبقاء الإنسان ما هو إلا بفضلها وتحت مظلتها
وأريحيتها ، وليس أكثر . أيضا مشهد الكاهن الذى يسير نحو حتفه يقرأ
المزمور 23 ’ الرب راعى فلا يعوزنى شىء … ‘ ، ليس مثيرا للضحك
فقط ، بل من الممكن اعتباره سخرية ونفيا لذلك الإله أيضا .
أخيرا ، ولعله الأهم ، شخصية العالم المختال المغرور محور
الفيلم ، الذى نهزأ من صلفه الجاهل بالقوى الجبارة التى تفوق إدعاء الإنسان ،
هو شىء أصبح من الأدوات الكلاسية لسينما ما بعد‑الإنسان ، ولا نبالغ
إن قلنا إن هيتشكوك نفسه وظفه بعد قليل ، فى شخصية بطل ’ شمال الشمال
الغربى ‘ 1959 ، كارى جرانت الوسيم المتباهى وكأنه مالك الأرض وما
عليها ، ذلك فى المشاهد الأولى ، ثم الذى سرعان ما يلاقى أشد أنواع
الإذلال والهوان وتهديد الحياة كل بقية الفيلم ! عامة فيلم 1953 من إنتاج چورچ پال كان جبارا أيضا
من الناحية التقانية ، وإبهارا غير مسبوق فى وقته ، بحيث أضاف هذا
تأثيرا على تأثير لقوة الفيلم . إذن مبدئيا ’ حروب العوالم ‘ شىء أكبر
وأعمق وأخطر من أن يمكن إفساده ، ولو حتى بواسطة الإنسانى الأكبر أوى أوى ستيڤين إى . تى . سپييلبيرج ، الذى بدأ عرض فيلمه اليوم فى مصر كما فى أميركا والعالم
الغربى ( نعم الأربعاء فى كل مكان ! ) . طبعا هو اختلق قصة حولت كلية بؤرة الفيلم .
فبعد أن كان المريخيون هم أبطال القصة فى كافة المعالجات السابقة ، ومحور
التركيز والاهتمام ، إن لم نقل الإعجاب ، أصبح محور القصة شعيل يدوى
نيو يوركى يحاول إنقاذ ابنه وابنته ممن لم يرعاهم طيلة حياته السابقة
( أليس مثيرا للفضول أننا لم نجد صورة واحدة للأغراب الفضائيين فى صور
الفيلم الثابتة ، ومن ثم فضلنا وضع الملصق الفنى المرسوم
هنا ؟ ) . هذا الأب هو بالطبع توم كروز ، الذى انقلب هو
نفسه شخصية دينية خطرة على غرار ميل جيبسون العام الماضى ، لكن الدين هذه
المرة ليس الكاثوليكية إنما الساينتولوچى . فى كل الأحاديث التليڤزيونية هذا الشهر لم يتكلم عن
الفيلم قدر ما تكلم عن السينتولوچى ، رغم أن الحقيقة أن كان من الممكن
استخدام الفيلم نفسه للدعاية لها . فهى كما تعلم علم زائف تحول لدين يمزج
ما بين التحليل النفسى الفرويدى وغير الفرويدى واليوجا والميكياڤيلية
وأساليب التنظيمات السرية فى الاستحواذ الكامل على أعضائها ، وطبعا الشعوذة
لجنى مئات الملايين ، وأشياء أخرى كثيرة . لكنها أيضا ترحب بكل كلام
عن كائنات الفضاء وتراه تعزيزا لقصة زينو سيئة السمعة ، هذه التى كانت إحدى
العقائد السرية للدين إلى أن كشف أمرها فى منتصف التسعينيات . وتروى ما حدث
بواسطة هذا الحاكم الشرير للمجرة قبل 75 مليون سنة ، وهى قصة أسخف حتى من
قصة الإله الخفى التى تعتقد فيها الأديان الثلاث لما يسمى بالتوحيد . ما
أردنا قوله أن كروز بات شخصية خطرة جدا بالمعايير الهولليوودية والأرجح جدا أن
تضعه على القائمة السوداء ، والكلام يجرى بالفعل عن أن پاراماونت بصدد
تعليق تصوير المهمة المستحيلة 3 ، رغم أنه وصل لمرحلة متقدمة جدا من
التجهيز ، ويفترض أن يبدأ تصويره بعد أسابيع قليلة فى يوليو . نعود لذاك الأب النيو يوركى الفاشل ، لنسأل هل
يمكن لأنسنة رخيصة من هذا النوع أن تلغى الحقائق الويللزية الكبرى . الفضاء
يعج بقوى أكثر منا جبروتا ، يومكن أن تبيدنا فى أيام قليلة . طبعا
الفيلم أفضل من كل سابقيه أن شطب كلمة المريخ تماما ، والتى تبناها العمل
تلو الآخر نقلا عن الرواية الأصلية التى ترجع للقرن التاسع عشر . ثم ما هى
التقنيات المستخدمة أصلا . إنها بأقصى تقدير تقنيات إنسان الأرض سنة 2005 +
20 أو 50 على أقصى تقدير . هل لا يوجد فى الفضاء من هو متقدم عنا بأكثر من
خمسين سنة ، خمسين ألفا مثلا ، أو خمسين مليونا ، أو حتى ببليون
سنة ؟ طبعا ممكن ، ومن ثم فوقع هذا الفيلم الذى نفذ بتقنيات حاسوبية
ممتازة ، شديد حقا فى بيان مدى ضآلة الإنسان ، سواء أراد أو لم
يرد . وكل فيلم لسپييلبيرج وأنت طيب ومتغاظ . فالمؤكد أن تلك المادة
لو وضعت بين أيد بعد‑إنسانية حقيقية ومخلصة وفاهمة لأخرجت شيئا مختلفا
بالكامل . أخبار جيدة : فيلمه القادم ما لهوش دعوة
بالخيال العلمى ، إنما بالإرهاب الفلسطينى فى قرية ميونيخ الأوليمپية
1972 . أو زى ما دايما بنقول هو يهودى طيب وابن حلال ، أمه قالت له ما
لكش دعوة بالسياسة يا بنى ، قصدى قالت له ما لكش دعوة بالخيال
العلمى ، بس لو ما كانش بيركب رأسه كل شوية ! اكتب رأيك هنا فيما يلى مراجعة صفحة السينما بجريدة الأهرام التى صدرت اليوم لكتاب
’ السينما الخيالية ‘ . هذه المراجعة
تظهر فى الجريدة المطبوعة فقط ولن تظهر على موقع الأهرام على الإنترنيت ،
وقد اختص بها الصديق محمد نصر مشكورا موقعنا بها . لا أملك تعليقا
سوى أن الترجمة عملية رتيبة ومضنية للغاية ، ولا أجرؤ عليها لا سيما إن
اختص الأمر بكتاب ضخم ، إلا فى حالة واحدة : أن يفسد متعتى بالكتاب أن يتملكنى
حقد وغيظ هائلين أنى لست مؤلفه ! فيما يخص السينما
هذا حدث مرتين : أولها ’ السينما الخيالية ‘ تأصيل لا نظير له لفلسفة السينما
الصغيرة أو السينما الخارجة على القانون إن جاز التعبير . فى المقابل
’ أنواع
الفيلم الأميركى ‘
تأصيل ‑لا نظير له أيضا‑ لفلسفة السينما الكبيرة ؛ سينما
التيار الرئيس أو السينما الجماهيرية أو ما يسمى بالفن
الجماهيرى وسر لماذا تتحول لتصبح ’ الكلاسيات ‘ بمرور
الوقت . ذلك يسرى أيضا على كتبى المترجمة خارج حقل السينما وأبرزها ’ الجيل الخامس للحاسوب ‘ . … مرة أخرى
تكرار الشكر لمحمد نصر : قصة أكثر إثارة من الأفلام نفسها : السينما الخيالية من القاع للقمة بقلم : محمد نصر
ينهى المؤلف البريطانى پيتر نيكوللز موسوعته الضخمة ’ السينما الخيالية ‘ ،
قائلا تحت عنوان ’ نهاية سعيدة ‘ : إن السينما الخيالية لم تعد
ذلك القريب الفقير الذى تستحى منه الأسرة السينمائية ، إنما أصبحت من أغنى
أغنيائها . هذه الموسوعة تسرد بأسلوب شيق هذه القصة المثيرة لتحول السينما
الخيالية من مجرد الأفلام الرخيصة التى تعرض فى دور الدرجة الثانية ، إلى
الوضع الحالى الذى تحتل فيه تقريبا كل المراكز الخمسين الأولى لأنجح الأفلام فى
التاريخ . مكتبة الأسرة أصدرت للعام الثانى على التوالى هذا الكتاب القيم الذى يسد فراغا
كبيرا فى المكتبة العربية ومن قبلها العالمية لدى صدوره فيها . يخصص المؤلف
الفصل الأول
لسرد تاريخى للخمسين عاما الأولى من تاريخ السينما الخيالية بدءا من فيلم رحلة
إلى القمر لچورچ ميليه ، حيث نرى أن السينما الخيالية استغلت قدرات الوسيط
السينمائى أفضل ما يكون الاستغلال وعملت على توسيعها واكتشافها ، بالأخص
فيلم كينج كونج وأفلام الرعب الشهيرة فى مطلع الثلاثينيات كدراكيولا
وفرانكنستاين وغيرها . مثال ذلك إمكانات التقطيع والانتقال السريع فى
الزمان والمكان ، زائد بالأخص المؤثرات الخاصة والماكياج التى تعد قصرا
عليها لحد كبير . الفصل الثانى يتناول ازدهارة الخيال العلمى فى الخمسينيات بما لها وما
عليها . فرغم أن كثيرا من الأفكار كانت ساذجة ، أو فى أفضل الأحوال
أقل بكثير من مستوى الأعمال الأدبية التى أخذت عنها كمؤلفات إتش چى ويلز ،
إلا أن تلك الأفلام اكتسبت جماهيرية كبيرة لدى الجمهور العريض ، وأصبح من
التقاليد الاجتماعية مثلا أن يشاهد المراهقون أفلام الرعب فى دور عرض
السيارات ، فكانت من مظاهر الثورة الجنسية فى ذلك الوقت . فى الفصل
الثالث يحدد پيتر نيكوللز عام 1968 كنقطة التحول الكبيرة تلك
من الهامش إلى المركز ، أو من القاع إلى القمة . يسمى حوالى عشرة
أفلام صنعت ما يسميه ’ أن أصبح المستحيل ممكنا ‘ ، ويقصد أن بدأت
الستوديوهات الكبيرة تضخ الأموال فى هذا النوع السينمائى لتحوله لمركز الصدارة
فى كل صناعة السينما . من أفلام عام الانطلاقة ’ كوكب القرود ‘
و’ بارباريللا ‘ و’ طفل روزميرى ‘ و’ ليلة
الموتى الأحياء ‘ و’ أحبك أحبك ‘ ، وفوقها جميعا فيلم ستانلى كيوبريك ’ 2001
—أوديسا الفضاء ‘ الذى يصفه بأعظم فيلم خيال علمى إطلاقا . المشهد التالى فى الكتاب ،
أو الفصل الرابع ، هو المشهد الرئيسى : ماذا حدث بعد عام الإنطلاقة
هذا . يحدد 13 اسما من كبار مخرجى ومنتجى السينما
الخيالية الذى احتلوا قلب المشهد السينمائى العالمى لأعوام السبعينيات وما
بعدها ، ورفعوا ذلك النوع من الأفلام لمركز الصدارة فى كل صناعة
السينما ، سواء من حيث النجاح الجماهيرى وإبهار التقنيات السينمائية
الجديدة أو من حيث قيمة الموضوعات وعمقها الفلسفى والفكرى . من الأسماء الشهيرة جدا ستانلى كيوبريك وچورچ
لوكاس ( حروب النجوم ) وستيڤين سپييلبيرج ( لقاءات قريبة
وإى تى والديناصورات وغيرها ) ، وبرايان دى پالما وروبرت ألتمان
وريدلى سكوت . ومن مشاهير أفلام الرعب چون كارپنتر وديڤيد كرونينبيرج
وچورچ روميرو ولارى كوين . ومن المنتجين كابى بروكولى منتج سلسلة چيمس
بوند ، والمنتج الإيطالى دينو دى لورينتيس . كذلك يضيف كرقم 13 فريق
المونتى بايتون الإنجليزى صاحب الأفلام الفانتازية المعروفة . الفصول الثلاثة الباقية تستعرض اتساع الصحوة فى العقود التالية وامتدادها لمختلف
البلدان . ويذكر الكثير من الأشياء المثيرة التى قد تغير منظور القارئ من
النقيض إلى النقيض لأفلام الرعب مثلا . من هذا ما ذكره عن فيلم ’ الموت الشرير ‘ الذى
شاهده مجلس العموم البريطانى ورآه من ’ قاذورات الڤيديو ‘ وقرر
منعه ، بينما المعنى الفلسفى والاجتماعى الكامن وراءه عميق ورفيع
جدا . ومن المفارقات أن نذكر أن التاريخ يعيد نفسه ، ومؤخرا حاول
الكونجرس الأميركى ذات الشىء مع أفلام مثل ’ المنشار ‘ و’ الأسر ‘ اللذين
يعرضان حاليا بالأسواق عندنا . هذه الفصول تعرفنا أيضا بأسماء ظلت معرفتنا
بها قليلة بينما هى ذات قيمة عالية . مثال هذا المخرج البريطانى نيكولاس ريج ، الذى
ربما لم نعرفه إلا من خلال رئاسته للجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائى
الأخير ، ذلك أن أيا من أفلامه لم يعرض تجاريا ولا حتى كشرائط ڤيديو
أو فى نوادى السينما عندنا . حسب پيتر نيكولز ، هو واحد من ألمع صناع السينما الخيالية إطلاقا
ويصفه ’ بالموهبة الخارقة ‘ ، ويعطى أعلى التقديرات لفيلمه
’ لا تنظر الآن ‘ من سنة 1973 ، ولفكرته المبتكرة التى كثيرا ما
استغلتها السينما العالمية بعد ذلك ، وآخرها فيلم ’ أحلام حقيقية ‘ من أحدث إنتاجات السينما
المصرية . كتاب
’ السينما الخيالية ‘ بكل معنى الكلمة كتاب يستحق أن يقرأ ويناقش
باعتباره ثورة فكرية فى حقل النقد السينمائى . وقد بذل فيه مترجمه مدحت محفوظ جهدا خارقا ، بالذات فى تبويب
نصفه الثانى
وهو موسوعة بالحروف الأبجدية لكل أفلام السينما الخيالية ، والتى كان قد صنفها بحث
للناقد سمير
فريد عن الكتب
السينمائية ، كأول موسوعة سينمائية تترجم للغة العربية إطلاقا . كذلك
تعد تعليقات المترجم على الكتاب إثراء لا يقل قيمة عن الكتاب نفسه ، واستغل
فيها خبرته التى وصلت لحد التخصص فى هذا النوع من السينما ، وكان ينفرد بين
النقاد المصريين والعرب بالإهتمام بها فى كتاباته النقدية طيلة العقود
الماضية . ونحيى ونشكر مشروع الألف كتاب الثانى ، ومشروع الكتاب
السينمائى بإشراف المخرج والناقد الكبير هاشم النحاس ، اللذين صدرت فيهما الطبعة الأولى
للكتاب . ونشكر مكتبة الأسرة برعاية السيدة سوزان مبارك التى وفرت للجمهور المتلهف للقراءة المسلية
والعميقة فى نفس الوقت هذا الكتاب الثمين ، بأزهد الأسعار فى طبعة
جديدة ، ونتمنى أن نرى فى إصداراتها القادمة بقية مجموعة الكتاب
السينمائى . اكتب رأيك هنا |
25 يوليو 2007 :
The Thin Line Between Good Social Commentary and Post-Humanism! |
أنا لم
أفهم كثيرا لماذا فاز ‘ شروط المودة ’ 1983 بالأوسكار ، لكنى
انبهرت بالواقعية غير المسبوقة فى ‘ نشرة الأخبار ’ 1987 ، أو
بتوصيف أكثر تحديدا بإمساكه بالپراجماتية
التى صارت عليها حياتنا المعاصرة ، أما اليوم فقد صعقت بهذا التحول المذهل‑المبدع
للكاتب چيمس إل . برووكس لسينما ما بعد‑الإنسان !
A Groundbreaking for a ‘Fourth Network!’ |
نعم ،
هو ‘ مطور ’ حلقات ‘ آل سيمپسون ’ منذ ميلادها الأسطورى على
‘ الشبكة الرابعة ’ فى 1987 ( كفقرة ضمن أحد برامج المنوعات
أولا ، ثم كمسلسل مستقل لوقت الذروة فى 1989 ) ، لكنها على ما يبدو
شعرة صغيرة هى تلك
التى تفصل ما بين سينما التعليق الاجتماعى الجيدة ، وسينما ما بعد‑الإنسان !
لا شك
أنه من البداية كان مسلسلا صادما ، بالذات وأنه بالاستحراك المرتبط غالبا
بأفلام الأسرة ، فإذا به أعنف نقد ممكن لمفهوم الأسرة نفسه ، وكأنه
يحاربها بسلاحها أو يغزوها فى عقر قلعتها ! تجاوز الكثير من الخطوط الحمراء
للمواد التليڤزيونية ، وهو الإنتاج الذى بالأساس له الفضل فى تميز فوكس
كشبكة كيبول ، فى استطاعتها أن تبارى طموحات الشبكات الثلاث الكبرى بدون
الالتزام بمحظوراتها .
المبتكر
الأصلى لشخصيات المسلسل هو مات جرونينج ،
شكل الشخصيات التى وضعه لمجرد التوضيح تبناه الرسامون كما هو ، ولا يزال حتى
اليوم فى عصر معجزات الاستحراك الحاسوبى ثلاثى الإبعاد ، يحرصون على تلك
البدائية الخشنة للأصل . المشروع كله بدأ بطلب من برووكس لجرونينج أن يتقدم
له بفكرة فاستلهم كل شىء من حياته الشخصية مغيرا فقط اسمه هو إلى بارت أى الصبى
المشاغب المؤذى الذى أصبح أكثر الجميع جماهيرية ، رغم أن التصميم فى الواقع
كان يقصد أن يكون الأب هومر هو مركز أغلب الأحداث . بمجرد تبنى برووكس للفكرة
كمنتج قدير ‑بل أيضا كمؤلف مشارك ، ارتفع كمونها وأصبح أضخم بما لا
يقاس ، وبات المسلسل هو أطول سيتكوم عرضا إطلاقا فى تاريخ التليڤزيون
[ والفيلم وحده انتهى فى شباك التذاكر الأميركى بأكثر من 183 مليون دولار
ونحو ضعفها خارج أميركا ، أى بشباك تذاكر عالمى يتجاوز نصف البليون
دولار ! ] .
فى
‘ آل سيمپسون ‑التصاوير المتحركة ’ الذى بدأ عرضه بالقاهرة
اليوم ، حدثت هذه النقلة ، من مجرد السخرية من أسرة ضواحى غريبة الأطوار
( لاحظ أن كل البشر ‑ليس فى هذا المسلسل والفيلم فقط بل فى كل مسلسلات
الاستحراك من شبكة فوكس والأفلام المبنية عليها‑ ذوى أصابع أربع فى كل
يد ! ) ، النقلة إلى مواصفات متكاملة لسينما تحقر من
الإنسان . أقل شروط هذه الأخيرة أن لا يوجد فى كل العمل الفنى من يستحق
الاحترام أو التعاطف من البشر ، لكن الفيلم أراد أن يكونا أصرح بكثير فلجأ
للتقانة الهيتشكوكية‑الكيوپريكية الأصيلة وهى السخرية من المشاهد
نفسه ، بل ولجأ لها على نحو شديد المباشرة ‑يمكنك أن تقول فجا .
مثلا أنت سترى هومر يتوجه للكاميرا ويسبك أنت نفسك ، وسترى لمحات كثيرة من
الاستخفاف بالمشاهدين كقطع الفيلم بإعلانات أو بإظلام الشاشة لاستراحة وهمية وما
إلى ذلك ، وكلها يضمن أن المشاهد المسكين سيظل متعلقا بالفيلم وسخافات
شخصياته . رغم هذا بدت تلك ‘ الفجاجة ’ مقبولة جدا ومتماشية مع روح
السخرية العنيفة الجامحة التى لا ترحم ولا تتوقف التى ميزت المسلسل ومن ثم الفيلم .
2 ديسيمبر 2010 :
تعريف الحياة كما تعيد باكتيريا السيانيد كتابته !
(Note: Downsized image; for full
scale, click here)
لعل البعض يذكر بحثا لى من منتصف الثمانينيات على
صفحات مجلة الفنون عنوانه ‘ أزمة الخيال فى سينما الخيال العلمى ’ ،
وكان محوره الأبرز هو الفقر الشديد أو المحدودية المذرية لتصورات كل قصص وأفلام
الخيال العلمى حول الحياة ،
وتمحورها فقط حول الأشكال المعروفة للكائنات الحية لكوكب الأرض .
الغالبية الساحقة مما قدمه الخيال العلمى من كائنات يجمعها أنها 1- ذوات عيون 2- لها
أيدى و3- تسير على أرجل ، وهكذا .
وتساءلنا ألا يمكن أن توجد مثلا حياة من مجرد موائع كسوائل أو غازات ،
أو حتى كائنات حية موجية غير مادية أصلا لا إليكترونات ولا پروتونات ولا حتى
فوتونات فيها .
وقت كتابة ذلك البحث كان الاستثناء الفريد الذى عثرنا عليه هو
‘ 2001
—أوديسا الفضاء ’ ( 1968 ) الذى قدم مسلة صخرية ككائن حى فائق
الذكاء ،
ورغم تجاوزها الهائل لما هو سائد من مستويات الخيال الضحلة ،
فإنها ‑كما هو واضح‑ محدودة الخيال بمعايير تساؤلاتنا المذكورة ،
ناهيك عما يفوق خيالاتنا نحن ،
والتى قطعا لا تستطيع تمثل كل صور الحياة التى قد يعج بها الكون .
فيلم ‘ رحلة إلى النجوم ’ ( 1979 ) كان الاستثناء الثانى لكن
لأسباب لا تتعلق بتصورات الحياة ،
وبعد ذلك البحث جاء الجزءان الثانى والثالث من فيلم ‘ المدمر ’
( 1991 و2009 ) ،
بكائنين سائل وغازى بالترتيب ، وكانا بداية خيال حقيقى إن جاز التعبير .
وعامة يمكنك الرجوع لاستعراض أوسع لهذا البحث ولموضوع أفضل أفلام الخيال العلمى
ككل
فى موضع سابق من صفحة سينما ما بعد‑الإنسان .
… فى كل هذا وربما قبله ، كان الشىء الذى طالما زلزلنى من الداخل ،
هو أن أحد أعظم العقول إطلاقا فى تاريخ الإنسانية
( ڤون نيومان مخترع الحاسوب الإليكترونى ، الشخص الذى كان يستطيع
مثلا إجراء أضخم عمليات المتسلسلات بعقله المجرد ) ،
أنه ضحى بكل ما كان يمكن لهذه العبقرية أن تقدمه من إنجازات كان سيسجلها له
التاريخ ،
وقضى الأربعين عاما الأخيرة من عمره يحاول فقط الوصول ‑دون جدوى قاطعة‑
لإجابة للسؤال التراچيدى :
ما هو تعريف الحياة ؟
والتلميح الأرجح منه أن اعتبر كل نسق معلوماتى هو حياة .
…
… اليوم تأتينا الناسا بكشف غير متوقع على الإطلاق
أسماه الإعلام آكلات
السيانيد Arsenic Eaters !
إنها باكتيريا تعيش على ذات كوكبنا ، كوكب الأرض ، سواء فى بحيرة
زرنيخية فى كاليفورنيا ( انظر الصورة ) ،
أو فى مختبر تحت إشراف باحثة اسمها فيليسا وولفى‑سايمون ( انظر
الصورة ) ،
باكتيريا غيرت نفسها بنفسها تركيبها الچيينى بحيث ‑ولا حسب‑ لا يقتلها
السيانيد ،
إنما أدمجته فى سائر مكونات خليتها ، بل وفى حمضها النووى ذاته .
… ليس خيالا فائقا ، لكنه تأكيدا صفعة هائلة وغير مسبوقة للفكر المحدود
الفقير الجامد أن
كائنات الحياة ما هى إلا خليط من ستة عناصر لا تنقص ولا تزيد ،
هى الكربون والهيدروچين والنيتروچين والأوكسيچين والفوسفور والكبريت ، أو
اختصارا الـ CHNOPS .
و : البقية تأتى !
…
اقرأ الإعلان
الرسمى من الناسا ، أيضا الناسا
فى قصة أكثر تفصيلا ، أو اقرا تحليل
ميتشيو كاكو لهذا الكشف المذهل .
…
(Non-Official Group)