|
|
|
العرب ومستقبل الثقافات القومية
لماذا نحن
دائما فى الجانب الخطأ من معركة الحضارة ؟
—أو : لعنة الچيين المفقود !
Arabs and the
Future of National Cultures
Why We’re Always
on the Wrong Side of the
—Or: The Curse of the Lost Gene!
| FIRST | PREVIOUS
| PART I | NEXT | LATEST |
الآن : العرب ومستقبل
الثقافات القومية لماذا نحن
دائما فى الجانب الخطأ من معركة الحضارة ؟ Arabs and the
Future of National Cultures Why We’re
Always on the Wrong Side of the الدراسة الرئيسة لصفحة
الثقافة على هيئة ملف .pdf أنيق سهل التنزيل والطباعة … هذه الدراسة التى تقع فى نحو 140 صفحة ( أو
نحو 4 ميجا بايت ) ، وكتبت ما بين أپريل 1992 ومايو 1996 ، هى
أقدم ما عمم حصريا من خلال قسم الرأى بالموقع ، وتمثل تلخيصا متكاملا لأغلب
ما طرح فيه من أفكار جريئة وصادمة على مدى قرابة عقد كامل . هذه الدراسة التى ستضاف لكتاب ’ حضارة ما
بعد الإنسان ‘ الأقدم الذى عمم مستقلا مطبوعا سنة 1989 ، ويمثل أيضا
حجر زاوية أساس لأفكار هذا الموقع ، انضمت الآن تنزيل كتاب ’ العرب ومستقبل الثقافات
القومية ‘ هنا تنزيل كتاب ’ حضارة ما بعد
الإنسان ‘ هنا القائمة الكاملة للكتب والكتيبات المتاحة كملفات .pdf هنا |
NEW:
[Last Minor or Link Updates: Wednesday, September 01, 2010].
ê Please wait until the rest of page downloads ê
العرب ومستقبل الثقافات القومية لماذا نحن
دائما فى الجانب الخطأ من معركة الحضارة ؟ Arabs and the
Future of National Cultures Why We’re
Always on the Wrong Side of the
اتفاقية الجات هى الصياغة القانونية لما يسمى الجلوبة ، فالجات تقنن إلغاء
كافة القيود ، وتجعل العالم قرية جمركية وثقافية واحدة بمعنى الكلمة .
هذه الاتفاقية ،
وبكافة المقاييس ، تعد انتصارا ليس له نظير ، لا فقط لحرية التجارة
ولحق المستهلك فى الاختيار ولمبدأ الأرض لمن يستعمرها وحسب ، بل ولوحدة
وحرية الثقافة العالمية ، ذلك إن لم تكن تعريفا جديدا لمفهوم الحرية فى حد
ذاته . [ توضيح : الجلوبة
Globalization من الجلوب وهى كرة الأرض ، وأحيانا تترجم ’ الكونية ‘
وهذه مبالغة مضحكة ، أو العولمة وهى ترجمة سخيفة لكلمة worldization وهى كلمة لا وجود لها فى الإنجليزية . نفس الحال مع كلمة
الكوكبية …إلخ ] . هذا التقنين للمستقبل يضع الثقافات القومية فى مفترق طرق لم
يسبق له مثيل فى التاريخ : فإما أن تقبل الانصهار والذوبان فى الثقافة
العالمية الواحدة ، أو أن تصر على ما تسميه ذاتها وتراثها وتقاليدها ،
وهو ما يعنى التقوقع والخروج الطوعى من عجلة التاريخ .
الاتجاه الأول تمثله أميركا ، فهى ترفض كل
القيود على حرية الثقافة ، كما تطابق بين الابداع والمال الذى يمول هذا
الابداع ، بحيث يصبح الأخير مالكا لكل شىء ، وتعتبر أن هذا هو سر
القوة الدائمة لمنتجاتها الثقافية وغير الثقافية ، فى السينما مثلا والكلام
ينطبق على كل الأنشطة الثقافية الأخرى ، بدءا من الأغانى حتى برامج
الحاسوب ، قدمت أميركا النموذج الذى يحتذى ، فهى لم تصدر لنا مطلقا
الحياة أو الثقافة الأميركية كما يقال عادة ، ولو فعلت ذلك لما نجحت
أفلامها أبدا ، إن السينما الأميركية ومنذ وقت مبكر جدا سينما تم
تصميمها ، لتكون عالمية وليس أميركية ، وذلك كى يفهمها الجميع وتشبع
الجميع ويحبها الجميع ، وأهم كل شىء أن تجد من يشتريها ، ( ذلك
إن لم نقل إنها صممت لتكون فقط سينما بالمعنى الصحيح للكلمة ، وهو ما فشل
فيه الآخرون ) ، والنتائج ظاهرة دائما ، لكن ليس بقدر ظهورها فى
التسعينيات ، حيث تخطت الإيرادات الخارجية الإيرادات المحلية لها لأول
مرة ، وحقق فيلم ’ الحارس الشخصى ‘ عالميا أكثر من خمسة أضعاف ما
حققه أميركيا .
بينما يحدث هذا ينخفض مثلا إنتاج السينما المصرية
إلى أقل من الثلث فى عام واحد ، وتتراجع مثلها صناعات السينما القومية
الأخرى فى أوروپا والعالم ، والتى سبقته للتهمش أو التهشم دون رجعة ،
وما يسرى على السينما يسرى بدرجات ربما أقل حدة لكن واضحة أيضا فى مختلف صناعات
الثقافة والإعلام والاتصال بأنواعها . وبالتوازى تتصاعد دعاوى الإنغلاق فى
كل مكان ، وزعيم هذا الاتجاه ليس بلادا تمنع الأفلام والأطباق والكتب
والمجلات [ ولا زالت ،
ولا تزال ] ،
مثل إيران أو أشباهها إنما فرنسا ، وبغض النظر عن الجذور التاريخية المحتملة ،
فقد بدأ الأمر فى العام 1993 بمعارضة جنونية لتحرير الثقافة فى إتفاقية
الجات ، وأفلحت فرنسا رسميا فى تأجيل هذا التحرير لمدة 10 سنوات ، حتى
وإن لم توافقها الجماعة الأوروپية ذاتها ، [ والتى كان يرأسها آنذاك
مهندسها الفرنسى الرومانسى العظيم چاك ديلور ، الذى أرادها نسخة من أميركا
وليست من الاتحاد السوڤييتى أو ’ أممية خامسة ‘ Fifth
International كما نفضل نحن
تسميتها ، واختارت مبدأ التنافسية والتحرير الطوعى والتدريجى وفتح الأبواب
أمام المواد الأميركية دون قيود تذكر . لكن اتضح أن إرادة ديلور شىء وإرادة
فرانسوا ميتران أو خلفه الجديد چاك شيراك الذى لا يقل يسارية رغم تسميته
يمينا ، شىء آخر . ومنذ العام 1994 زادت عصبية نزعة الانغلاق فى
فرنسا ، وتعددت مظاهرها وهذه بعضها فقط : صبيحة افتتاح نفق المانش صدر
قانون يحظر الاستخدام العلنى للغة الإنجليزية ، وخلال كأس العالم الأخير
لكرة القدم أقامت فرنسا دورة أسمتها الفرانكوفونية ، بعد خروج الفريق
الفرنسى من التصفيات ، واختاروا مواعيد المباريات لتطابق بالضبط مواعيد
مباريات البطولة الأصلية فى أميركا ، حتى لو أدى ذلك لعدم مشاهدة أى أحد
لها ، وأخيرا ، وحتى إلى يوليو 1995 أجهضت الجماعة الأوروپية مشروعا
فرنسيا جديدا لزيادة الدعم للتليڤزيون الأوروپى فى مواجهة المنافسة
الأميركية ] .
المشكلة الحقيقية
هى الإغراء المذهل الذى يعزز به مثل هذا السلوك لبلد فى مثل مكانة فرنسا ووزنها
التاريخى بالذات فى منظور متخلفى العالم ، من الميول الغريزية للعزلة
والتخلف عند الدول الأقل تقدما ، ونقصد بالأخص العرب والمسلمين . توضيح : لأغراض التعريف الخاصة بهذه الدراسة نقول إننا
نقصد بالعرب والمسلمين ، العرب الحقيقيين والمسلمين الحقيقيين ، أبناء
العرق الساموى الآسيوى ، ذوى الخصائص الچيينية المعروفة للعرب منذ بدء ظهور
هذا العرق ، والمعروفة للمسلمين المتمسكين بالإسلام الصحيح الأصولى منذ
ظهور الإسلام ، لا كل من نطق العربية ولا كل من كتبت فى بطاقة هويته كلمة
إسلام .
هؤلاء يتركزون بالأساس فى الجزء الآسيوى من الدول الناطقة بالعربية ، أما
فى الجزء الأفريقى فليسوا سوى أقليات حتى وإن اغتصبوا السلطة أحيانا ووصلوا
لمستويات بشعة فى البغى والنهب ، كما هو الحال فى الجزائر أو
السودان ، أو كما فى مصر ما بين عامى 1952 و1970 . المؤكد على الأقل أن المصريين ليسوا عربا وليسوا
مسلمين ، باستثناء أقلية عربية صغيرة جاءت محتلة وبقيت ‑ولا نقول
استوطنت لأن لا وطن لبدوى أو مسلم‑ على مدى الأربعة عشر قرنا
الأخيرة ، بعضها لا يزال يعيش فى الصحراء وبعضها توغل فى القرى والمدن وإن
دون اختلاط بيولوچى كبير ، لكن للأسف عادت لها منذ 1952 الكلمة العليا ‑أو
على الأقل الصوت الأعلى‑ واختطفت كل البلد لحسابها ولحساب أچندتها
العروبية المسلمة الخارجية الخيانية . لهذا السبب نكتب أصلا ، وبذلك
المعنى المحدد وحده نستخدم الكلمات ، وبقدر ما نجد الشعوب الأخرى
قد تطبعت بدرجة ملموسة بطباع العرب ، كالنهب والسلب والإغارة والغدر والجبن
والپارانويا والدموية والسلفية الدينية وكراهية الغير والتقنفذ القبلى والأخذ
بالثار وتعدد الزوجات … إلخ ، فإننا نتحدث مجازيا ‑ومجازيا فقط‑ عنهم باعتبارهم عربا
أو مسلمين . أما لأية درجة تطبع حقا هذا الشعب أو ذاك بطباع هجامة
يثرب ، فهذا يخرج عن نطاق هذه الدراسة . باختصار ، نحن نستخدم كلمتى عربى ومسلم ‑أو على
نحو أعم كلمة ساموى‑ بمعنى تلك الخصائص المحددة لهذه البركة الچيينية
المحددة التى تجامعت وتبلورت قبل 3000 عام أو نحوها ، فى تلك الصحارى
المجدبة التى عرفت لاحقا باسم شبه جزيرة العرب . هذا لا يعنى بالضرورة أن
تلك الخصائص موجودة الآن بصورتها الأكثر مثالية ونقاء فيما يعرف الآن
بالسعودية ، بل الواقع أن من كانت تتوافر فيه تلك الخصائص الوحشية الدموية
هم أكثر من هبوا إلى تلك الغزوات المسماة بالفتوحات الإسلامية ، حيث استقرت
بهم الأمور فى سوريا ثم بغداد عاصمتى الخلافة . من هنا ربما يكون أكثر من
يمثل الخصائص العربية الكلاسية النقية الآن هو صدام حسين وعشيرته بكل ما فيهم من
دموية وهمجية وهجامية وسلب واغتنام ( إلى آخر ما قاله ابن خلدون فى وصف
العرب ) ، ذلك كلما تيسر ، لا تفرق بين أخ وابن عم وغريب كما
يقول المثل المصرى عندنا عن العرب البدو هوام الصحراء هجامة المدن ! هنا تلوح لنا La Belle France أقرب لعاهرة قبيحة La Laide France تستجدى ما يفعله
المتخلفون بجسدها الخالى من أى جمال ، أو بعبارة أكثر تهذيبا ، تلوح
لنا كطابور خامس يطعن الحضارة فى ظهرها بتشجيع المتخلفين عبر الجلوب بالاعتزاز
بما هم عليه من تخلف ، أو فقط ‑وهذا أقصى ما يمكن أن نصل له من تهذيب‑
تلوح لنا كنوع انتهازى من الرأسمالية يستجدى التعاقدات من هنا وهناك بقصر نظر
مفرط المثيل . للأسف فرنسا تجد المجد والزعامة فى أن تصبح الدولة رقم 1 فى
العالم الثالث ، عن أن تصبح الأخيرة فيما يسمى بمجموعة السبعة أو الـ G7 ، أو
وحيا العظماء السبعة ! ما يلوح
لنا أبعد من هذا ، أو لعله تفسيره الوحيد ، أن فرنسا كأمة مأزومة
مهزومة ، لا تختلف كثيرا فى وضعيتها فى الحقيقة عن الوضعية العربية ،
بلد مأزوم مهزوم حضاريا وثقافيا واقتصاديا ، ويعانى من كل الپارانويات التى
يعج بها العقل العربى كنظريات المؤامرة والغزو الثقافى …إلخ . إنهم أمة من
المهازيم لا تزال تتجرع كأس المرارة والذل والهوان منذ ووترلوو وحتى الآن ،
وربما ستظل كذلك للأبد . لا تستطيع ولا تريد أن تمحو من ذاكرتها أبدا ،
أو تتجاوز حقيقة أن خراقة تحديها يوما لأمة الإنجليز أصحاب الثورة
الصناعية ، كانت تطاولا سافلا أحمق لا أكثر ولا أقل . وجيلنا الذى شب
تعلمه روايات تشارلز ديكينز أن الإنجليز هم أنبل شعوب الأرض والفرنسيون أحطها لم
يعد الأمر الآن مجرد خيال قصصى وحكى ميلودرامى بل حقائق سياسية وثقافية تؤكدها
الأيام وواقع يومى معاش يمسنا حتى فى دخلنا ومستوى اقتصادنا ، ولا يقلل من
شأن ما قاله تلك المنافسة الشرسة المستعرة الآن بين العرب والفرنسيين على ذلك
اللقب المذرى ، قاع العالم ( بالمناسبة أنا شخصيا لا زلت مؤمنا أن ثمة
بالأمر ثأرا لم يحسم بعد . يوم قرأت قصة مدينتين فى طفولتى خرجت كما الجميع
فى فصلى الدراسى يزدرى فرنسا وكل ما يمت لاسم فرنسا بصلة . الفارق أنى لم
أتقبل بسهولة ضياع دم أكثر شخصية أحببتها فى القصة ، ذاك الرجل الذى ينظر
للسقف وكأنه لا يبالى بكل ما يجرى حوله ، والحقيقة أنه لا يبالى لسبب واحد
هو أنه يعرف أكثر من أى أحد إطلاقا حقيقة هذا الجنون الذى يجرى . حتى اليوم
تفور الدماء فى عروقى كلما تذكرت القصة وأهتف لنفسى أن دم سيدنى كارتون ،
أول شخصية قصصية انطبعت فى نفسى إطلاقا ، وأول وربما آخر من هزنى من بينها
طيلة عمرى ، دمه لا يمكن أن يذهب هباء هكذا أبدا ، لا يمكن مهما طال
الدهر ! أيضا بالمناسبة لا تتوقع من هذه الصفحة كما قد يوحى عنوانها أنها
ستفيض كثيرا فى موضوع الغزو الثقافى . المسألة محسومة سلفا : غزو
ثقافى إيه إللى أنت جاى تقول عليه ؟ أنجح فيلم أميركى لا يحقق فى كل عرضه
فى مصر ما يحققه من حفلة عرض واحدة فى دار عرض فى نيو يورك أو حتى تل
أبيب . المشكلة ليست فى وجود غزو ثقافى ، المشكلة فى عدم
وجوده ! ) .
[ من عادة العرب أن تسمى الشىء بعكسه . مثلا يسمون
تحضر وانفتاح وحراك مكة الغناء الزاهرة ما قبل الإسلام جاهلية ويسمون جهامة
وعبوس وقمع عصور الظلام بنور الإسلام ، يخلقون المنتقم الجبار ويدعونه صباح
مساء الرحمن الرحيم ، يسمون البلطجة وقطع الطريق والانحراف الجنسى نبوة
ووحى ، يخلقون دين الصحراء ويختارون له علما أخضر ، يصممونه بحيث يكبت
ويقتل كل شىء حر طبيعى أو أصيل فى الإنسان ثم يسمونه بدين الفطرة ، يطلقون
جراد يثرب الدموى ينهش الأخضر واليابس فى كل العالم ويسمون هذا سماحة
الإسلام ، يخلقون أشرس وأبشع مؤسسة دينية فى التاريخ ويقولون الإسلام لا
يعرف الكهنوت ، يسمون أجهل الناس ( رجال الدين ، من
غيرهم ؟ ) بالعلماء ، يحبسون النساء فى البيوت أو خلف البراقع
ويضربونهن وأحيانا يذبحونهن ويقولون هذا تكريم من الله لهن ( وطبعا لم
يقولوا لنا ولو لمرة واحدة لماذا اختار الله المرأة ليكرمها وليس
الرجل ) ، يسمون مصر أم الدنيا وهى أم الدين ، يطلقون على
إسرائيل وصف الدولة الدينية وهى أكثر علمانية مليون مرة من أى بلد عربى ،
يذبحون الحيوانات بأبشع وأحرم الطرق الممكنة ويسمون هذا الحلال ، وهكذا
وهكذا إلى ما لا نهاية . إنهم بارعون فى هذا . دائما ما يجدون
التسميات العكسية لما هو جوهر الأشياء الحقيقى ، ومن ثم يطلقونها
عليها ، والأدهى أن يصموا الآخرين بعد ذلك بالمعايير المزدوجة . واليوم ،
ومع الاحترام للجبرتى والطهطاوى وطه حسين ، ولأسباب هى العكس بالضبط من
أسبابهم ، وستكون إحدى ثيمات هذا المبحث وكل الموقع ، يطلقون على
عاصمة الظلام والتخلف والبداءة الكونية پاريس ، عاصمة النور ! موقعنا
هذا يفضل تسمية الأشياء بمسمياتها ، لذا لم يؤمن يوما إلا بأن پاريس هى
عاصمة التخلف والبداءة والإظلام لكل الكوكب . ولم يتوقف قط عن الحديث عن
فرنسا كحصان طروادة الذى يمثل الخطر الأعظم إطلاقا على حضارتنا المعاصرة ،
أكثر من الخومينى وبن لادن وصدام وبشار . الشيوعية سقطت لكن طابورها الخامس
لا يزال نشطا ، تشاكل morphed تحت مسميات
جديدة كالاشتراكية الديموقراطية والطريق الثالث والاتحاد الأوروپى …إلخ ،
دون أن يحيد فى جوهره قيد أنملة عن مبادئ ستالين أو
ذات يوم قال أرسطو إن الجمهورية
خطأ ، ولا نعتقد أن استجد منذ ذلك الحين شىء يحمل المرء على الاعتقاد بغير
ذلك . فرنسا تفعل العكس بإيمان عقيدى عجيب بالجمهورية ، وما يتفرع
عنها من شعارات كالديموقراطية وحقوق الإنسان ، تتوطن فيها كما لا تتوطن فى
أية أمة أخرى . هذا هو الذى يحملنا للقول بأن پاريس عاصمة الظلام فى عالمنا ، أو باختصار ‑كما
جاء بالأخص فى صفحة العلمانية‑ هى
عمارنة التاريخ الحديث . أيضا باختصار ، لا شك لدينا أن كما بدأ
اليسار فى پاريس ، انتهى أيضا فى پاريس . مظاهرات مايو 1968 كانت
الذروة المطلقة لذلك المد ، تلاها إنكسار متواصل عالميا لا قرار له .
أيضا باختصار ، لا شك لدينا أن الأممية الخامسة ستسقط كما سقطت الأربع
السابقات ، وأن مائتى عام من حكم رعاع الباستيل لكل المجتمع الإنسانى
بالحديد والنار وإرهابهم المشين لكل العقول كل ذلك الوقت تشهد الآن لحظات
احتضارها الأخيرة ! أولا واصل القراءة فى هذه الصفحة حتى تصل لهذه الفكرة . بعد ذلك انظر
تعميقا لإشكالية اليمين واليسار فى فرنسا فى صفحة الليبرالية . بعد قليل تطورت قناعاتنا بسرعة
لتجزم بأن فرنسا كعقبة كأداء لا أمل فى صلاحها أو شفائها من مرض
الجمهورية ، لا مفر من أن تكون الخطوة الأولى لأى عملية تطوير جدى لهذا
العالم ، وتأسيس ترتيب عالمى جديد يحمى اقتصاده الضخم ومكتسباته الحضارية
الطويلة ، هى قصف پاريس نوويا ، فلا جدوى من أى حلول أخرى ، وهذا
ستجده فى صفحة الإبادة
بمناسبة إعداد أميركا الخطط لقصف سبع دول نوويا ليس منها فرنسا . أيضا ثم رأى يستحق الوقوف عنده فى
صفحة الحضارة ، للكاتبة الإيطالية
أوريانا فالاتشى يختص بموقف عاهرتنا القبيحة من بن لادن وأحداث سپتمبر والعالمين
العربى والإسلامى ككل ، وإلى الصدارة منه مقولتها الشهيرة ’ أوروپا عاهرة تبيع نفسها للعرب والمسلمين… وفرنسا
أكبر دولة راعية للإرهاب الإسلامى فى العالم ‘ . بالمثل تابع لاحقا الإرهاصات
الأولى فى سپتمبر 2002 للمواجهة التى طال انتظارها بين الحضارة ممثلة فى قائدتها
أميركا ، والماضوية اليسارية ممثلة فى فرنسا ، والتى تتبنى وتحتضن كل
الماضويات الأخرى بما فيها الإسلام ، ذلك فى صفحة الجلوبة ، بمناسبة
كفاح فرنسا المستميت لإنقاذ رقبة صدام حسين من إطاحة أميركا به . لماذا يأتى الاستعمار البريطانى
بالتقنية والاقتصاد الحر ، ويأتى الاستعمار الفرنسى بالثقافة ؟ وهل
الإنجليز قوم متعالون حقا ، والفرنسيون أناس محبون للجميع ؟ وما هى
وحقيقة العلمانية الفرنسية ، وهل تظل شيئا جميلا يستحق الانبهار لو عرينا
أساسها الأيديولوچى ؟ أسئلة نوقشت بالأسفل
بإيجاز ، ثم ببعض الاستفاضة فى صفحة سپتمبر بمناسبة قرار انفاق 8 بليون
دولار على تحديث أحياء المسلمين فى فرنسا ، فقط مكافأة لهم على قتل
اليهود ! ] .
هكذا فاليوم ، فإن هذا هو التحدى الكبير
والفاصل لما يسمى ثقافات قومية ، إما أن ’ تشارك ‘
( والكلمة واضحة ومحددة ) فى صنع الثقافة الجلوبية الواحدة والوحيدة
( حلم أتاتورك العظيم وغيره ) ، بمعنى إنتاج سلعة ثقافية تصلح لكل
العالم ، وليس لاستهلاكها المحلى ( بفرض إمكانية هذا الأخير
أصلا ) ، وعليها تعلم وإتقان أصول وحرفيات الفنون ووسائط الاتصال كما
تصنع الآن ، ولابد لها من اعادة تقييم وتعريف الكلمات التى ربما أصبحت
جوفاء أو مجرد شعارات مدلكة للغرائز ومنها الوطنية والتقاليد والدور المجتمعى
للدين والانتماء والشرقية والقيم الخاصة والثقافات والمحلية والتنوع واللغة
الخالدة والتميز والقومية والتراث …إلخ ، وهى كلها -شئنا أم ابينا- تعادل
فى قاموس العصر الرقمى كلمة واحدة هى التخلف . هذه الكلمات والشعارات ، لم يعد لها وجود مؤثر ، لا
فى المجتمعات المتقدمة التى قبلت بمبدأ الانفتاح ، ولا فى المجتمعات
النامية التى حققت قفزات سريعة فى العقود الأخيرة ، ولا خيار أمام الأخرين
سوى هذا الانفتاح الثقافى المطلق ، وبديل هذا شىء مرعب ، هو الانعزال
فى جزر مظلمة وعاجزة ، تقنيا واقتصاديا وثقافيا ، وسط محيط جلوبى حى
مشرق وسريع الانطلاق . هذا هو التحدى الذى يطرح نفسه على الثقافات القومية
على نحو عاجل وملح . وبالمناسبة هذا كان الأمر أقرب للعكس من هذا فيما
مضى ، حيث المحيط هو المتخلف والأكثر تناميا فى الحجم ، بينما يتوالد
وينعزل فى وسطه تكاتل أو تبلور صغير ، ربما بما يمكن تسميته باستثناء الجملة بين قوسين مربعين
الخاصة بمتابعة ما جرى لاحقا على الموقف الفرنسى فالفقرات السابقة هى ما كتبناه
صبيحة إقرار إتفاقية الجات فى ديسيمبر 1993 . ورغم الإشارات الواضحة لحجم
التحديات التى تنتظر ثقافاتنا القومية فإن الكلام يبدو اليوم أكثر رومانسية
وتفاؤلا مما يحب ، وقد يكون على العكس بالضبط مما سيلى من حديث والذى
ستحركه آلام وأوجاع كيف واجهت عقلياتنا المتخلفة التبعات الحقيقية لمبدأ
الجلوبة . بادئ ذى بدء هناك حديث الپارانويا التقليدى : الكتاب
المصريون لم تعجبهم كلمة الجلوبة أصلا ، ذلك أنها لا تتماشى مع منهج
الترجمة السائد عندنا لعقود وقرون ، وراحوا يبحثون عما يسمونه ترجمة
المعنى . هنا استخدموا عددا لا حصر له من الكلمات مثل العولمة والكونية
والكوكبية …إلخ ، لكن الكلمة التى أعجبت الصحافة العربية أكثر من سواها هى
’ الأمركة ‘ وليس طبعا بقصد حسن أو سعيد أو مرحب . فيما يخص بترجمة
الكلمة الأمر الذى استغرق وقتا طويلا من المناقشة نحن شخصيا نرفض مبدأ ترجمة
المعنى ونراه سببا لتردى حركة الترجمة العربية ككل وفى مصر بالذات وسببا رئيسا
لتراجع مكانة اللغة العربية . لكن لو كان لنا اقتراح ترجمة معنى لكلمة
الجلوبة فلن نجد سوى كلمة عربية ذات معنى جميل جدا هى الاستعمار . لكن لو
نحينا أن هذه الكلمة نفسها ابتذلت فى الحقبة الناصرية حتى وصلت لمعناها
العكسى ، فإنها تعانى هى أيضا من المشكلة الرومانسية فهى لا تعدو محاولة
لترجمة محتوى الشعار وليس أكثر .
الشعار الذى انطلق ( أو بالأحرى أعيد
إطلاقه ، فهو حقيقة واقعة لم تمت يوما منذ الأسكندر الأكبر حتى
اليوم ، وإن وهنت فى نصف القرن الأخير تحديدا بعد هوجة ما سمى
بالاستقلال ) ، فحواه أن العالم ككيان اقتصادى وتقنى سيدار بأقصى
كفاءة ممكنة بالمعنى الهندسى للكلمة إذا أصبح وحدة واحدة . لكن هذا على
صعيد النظرية فقط ، إذ هناك هوة بين الاسم الرومانسى الذى سيفترض أن
الجلوبة ستعنى ’ إعمار ‘ العالم المتخلف وبين أن ذلك أمر من شبه
مستحيل من الناحية التطبيقية ، على الأقل فى إطار الإشارات الواردة من
أممنا حتى الآن . ونخاطر هنا وقبل الدخول فى مناقشات تفصيلية لقضايا
الجلوبة بالقول إن ذلك افتقاد مروع منا لجوهر ما تدور حوله الجلوبة أصلا منذ تحققت لأول مرة على يد
الأسكندر الأكبر ‑تلميذ أرسطو المباشر‑ ومن ثم الإمپراطورية
الرومانية فغيرها من الامپرياليات الأخرى بعد ذلك ، ألا وهو الوصول لأكفأ
إدارة ممكنة للكوكب من خلال تحويله لوحدة ثرمودينامية اقتصادية واحدة معدومة
الفواقد تقريبا . والأرجح فى نهاية المطاف وفى ظل
استجاباتنا بالغة الرجعية المتشبثة بأيام التشرذم الكوكبى أو ما يسمى بالاستقلال الوطنى ، أن يعود الغرب قريبا للمربع رقم واحد من جديد ويعيد اكتشاف
ما توصل له نادى روما فى مطلع السبعينيات من أن لا مستقبل للكوكب ولتنميته إلا
بالتحجيم الجذرى لنمو عدد سكانه وذلك بأى وسيلة ممكنة ، وإن كان الوقت
متأخرا الآن من الناحية العملية للحديث عن أى وسيلة سوى الإبادة أى التخلص من
القطاع الأكبر من هؤلاء السكان ممن يمثلون عبئا باهظا على نمو الكوكب بل وحتى
على توازنه البيئى والإيكولوچى ( يمكنك أن تصل بمستويات الإبادة إلى 80 0/0
من العشيرة الإنسانية دون أن يتأثر الاقتصاد الكوكبى بأكثر من 10 0/0
فقط ! ) . ربما هذا هو الكلام العملى الحقيقى الوحيد ، مع
العلم بطبيعة الحال أن الإبادة ليست عملية عنيفة بالضرورة ولا تعنى القتل إلا
بالكاد وفى حالات الضرورة فقط . الوسيلة الشائعة والرخيصة للإبادة حاليا هى
الڤيروسات الحديثة القاتلة حتى وإن بدت عشوائية لحد ما وإن ظلت عادلة ككل
ومنسجمة مع قوانين الانتخاب الطبيعى إذ تميل لقتل الضعفاء والفقراء
بالأساس . [ فى 15 نوڤمبر
1998 تحدثت جريدة الصنداى تايمز اللندنية باستفاضة فى
صفحتها الأولى عن القنبلة الچيينية ( أو الإثنية ) التى قالت إن
إسرائيل قد نمتها بالفعل . ولا شك أنها فكرة رائعة ستحسن كثيرا من مستقبل
العالم فى القرن الجديد ، كما نتوقع أن تزيد دقتها يوما بعد يوم مع ازدياد
المعرفة الچيينية أو مثلا يوم أن يصبح إدخال البصمة الچيينية لكل الأفراد أمرا
مألوفا فى الملفات الحكومية أو ما شابهها ، بل يمكن أن نتخيل مستقبلا
إمكانة تصميم ڤيروس يقتل فردا واحدا محددا فقط صمم من أجله حتى لو حدث
وأصاب كل الناس . فى يناير 2001 جاءت خطوة جديدة تخص القنابل الچيينية ، كذلك لم يكن من حديث
لأوروپا سوى قذائف اليورينيوم المنضب ، والفكرة نشأت من أن هذه المادة
عديمة القيمة من مخلفات المفاعلات النووية اتضح أنها صلدة للغاية وتغطية القذائف
الخارقة للدروع بها يعطيها فعالية فائقة ، الآن بعد أن ثبت أيضا قدرتها على
القتل عبر الإصابة بالسرطان قد تصبح وسيلة إبادة كتلية جديدة للمستقبل وكل
المطلوب اتخاذ الاحتياطات اللازمة لعمليات المناولة أو لو غطت مثلا بطبقة رصاص
...إلخ . كل شىء جائز ! ] . لكن بلا شك تظل الوسيلة الكريمة
الأساسية للإبادة هى التعقيم . ونحن نتصور أن العالم سينضج سريعا بحيث يصل
إلى نقطة يجعل التعقيم فيها إجباريا للدول أو للأفراد لمن هم دون ناتج معين
للفرد ، ذلك بأن يحدد عدد السكان بطريقة دولية أى بمنح نوع من الحصص
السكانية للدول المختلفة تبعا لإسهامها فى الناتج الكوكبى الإجمالى ، أو
على المستوى الفردى بأن يفرص على البالغين ضرورة الحصول على تصريح مسبق بالإنجاب
بالطبع بناء على مستوى إسهامهم فى الناتج الإجمالى للبلد أو الكوكب ، وما
إلى ذلك من الأفكار كثير بل يعتبر بعضه مطبقا بدرجة أو بأخرى فى كثير من
الأماكن ، المهم فقط أن لا تترك عملية الإنجاب للطبيعة والصدفة كما هو
الحال فى السابق [ انظر كتابنا حضارة
ما بعد الإنسان وكذلك صفحة
الإبادة ] !
الجلوبة تطرح مبدئيا إشكالية ما يسمى التعددية . والمخيف
فى الخطاب الثقافى العربى الحديث عن التعددية وكأنها حق ( ! ) ،
وربما يسعون لصدور قرار بها من منظمة اليونسكو المشلولة بفكرها الرجعى ، أو
حتى مما يدعى بمجلس الأمن صديقنا الأكثر ألفة ومنقذنا الدائم بقرارات لحفظ ماء
الوجه لا أكثر ( ليس بوسع المرء أن يقف ضد منظمة اليونسكو إذا وعت أن ما
تقوم به هو شىء جيد لإثراء المتاحف بحفريات الثقافات العالمية لكن ليس للإبقاء
على هذه الأشياء حية فى الواقع اليومى للشعوب ) . لا يوجد أبعد ما
يكون عن الحقيقة والواقع من افتراض أن التعددية حق لأنها لو كانت هكذا فعلا لما
اندثرت أى ثقافات ولما تقدم العالم قط . يكفى أن نذكر أن كمال أتاتورك كرس السنوات
الطويلة من ختام حياته للبحث عن إسهام ما ممكن لتركيا فى الثقافة
العالمية .
الأكثر أهمية ، إذا كان لنا أن تعلمنا شيئا من دراسة الهندسة ، فهو أنه
يوجد حل واحد وحيد يحقق وحده الكفاءة القصوى . مثل هذه المعادلات حين تقوم
بإجراء التفاضل لها ومساواة الناتج بالصفر ، تحصل على قيمة واحدة ،
تكون هناك إجابة واحدة فقط ، ثمة طريق واحد فقط لا غير للكفاءة
القصوى . هنا ‑فى عالمنا الكبير‑ من الغباء لأى شخص أو لأية
أمة أن يفعل أى شىء سوى أن يبحث عن تلك الكفاءة القصوى ، التى هى شىء واحد
وحيد لكل البشرية ، لكل الكوكب . هنا تصبح التعددية ، وبحكم
التعريف نفسه ، إهدارا للموارد ، تضييعا لوقت ، تخلفا ، أو
كما قلنا غباء ! هوية واحدة فقط شديدة التحديد والتوصيف ، هى المؤهلة
للمضى بأفضل سرعة ممكنة نحو المستقبل ، ما عداها يزداد تخلفا مع كل لحظة
تمر عليه .
أولا : يجب القول أنك لن تشارك فى ثقافة
العالم الجلوبى إلا بأشياء صغيرة هنا وهناك ، كنوع من الطعام ، أو
قطعة موسيقى أو رقصة ما ، أو تقليعة من العطور أو الأزياء أو قطع
الأثاث . أما المشاركون بالجزء الأكبر من الثقافة فهم بلا مناص صناع
التقنية وتحديدا الولايات المتحدة . التقنية هى الشىء المهم ودون أن
تخترعها لا تتوقع أن يكون لك أثر ثقافى يذكر على بقية العالم [ ثقافة
التيار الرئيس الجلوبية فوق القومية قضية أخرى فى الواقع ، ونوقشت تفصيلا
فيما بعد فى صفحة الفن الجماهيرى ] . ثانيا : تلك الإسهامات ’ الصغيرة ‘
لم تأت بالصياح أو بقرار من أحد . الهند لم تستخدم قوة السلاح فى جعل
العالم يأكل أرز الكارى ثالثا : العكس بالعكس ، فبما أن هذه
مسألة تخضع لما يمكن تسميته المزاج الجماهيرى العالمى ، فنادرا ما تأتى
الدعاية المنظمة أو الإلحاح بنتائج تذكر فيها . وكثيرا ما تفشل أشياء ناجحة
للغاية محليا فى النفاذ للخارج ، كما مصارعة الثيران الإسپانية مثلا ،
أو تنتشر ببطء شديد كالبيسبول الأميركية ( رغم كل جبروت أميركا المتعارف
عليه ) . رابعا : هذه الأشياء تصلح لكل البشر ، أى
أنها إسهام فى ثقافة جلوبية حقيقية ، وليست إنقاذا لثقافة محلية من الموت
بمجرد الإبقاء عليها فى محيطها كما هى بحجة الحفاظ على التعددية . خامسا : لم يفلح أحد متمسك بمحليته فى الحفاظ
عليها ، وبالأحرى تأكيدا لم يفلح فى صنع شىء جلوبى ، وهذا درس مؤلم لا
يلقيه أحد من منصة محاضرات ، إنما هو واقع يومى معاش . فشعوب كالياپان
والصين والهند شعوب تندفع بنهم لثقافة الغير الأكثر تقدما ( وكما سنرى
فإنها تدوس معظم ثقافتها القومية بلا هوادة أو ندم فى خضم هذه
المسيرة ) .
سادسا : وهو الأهم أنك على الأرجح جدا لن تفرض
شيئا على العالم ما لم تكن غير متخلف ، أى مقاربا له تقدما وتحضرا ،
ونقصد بهذا التقنية والاقتصاد قبل أى شىء آخر . وليس أقل دلالة على ذلك
التخلف أن الشىء الوحيد عندنا المؤهل أو المرشح لأن يصبح جزءا من الثقافة
الجماهيرية العالمية هو شىء نكرهه ونحاربه للغاية : رقص البطن ! [ نهديك هذه القصة عن
بداية أعادة إحياء رقص البطن الشرقى فى مصر من خلال مهرجان عالمى له فى القاهرة
فى يونيو 2003 ، فقط لتكتشف من خلال المشاركات والجمهور سواء بسواء ،
أنه أقرب جدا لأن يصبح يوما ظاهرة عالمية من أن يعود لمحليته
عندنا مرة أخرى . أيضا نذكرك بمدى الشهرة التى حققها مع مطلع القرن الجديد
من خلال المغنية الكولومبية لبنانية الأصل شاكيرا ، والتى تقدمه كفن
انتصابى erotic
خالص ، وبوعى عميق منها لبعده الحسى التنويمى الفريد
والقوى جدا من نوعه ، وللمزيد عن جيل المغنيات هذا انظر صفحة الفن الجماهيرى ] . سابعا : التوحيد والتقييس standardization ‑أو بعبارة أصرح طمس الهويات الصغرى وتقليصها لمجرد مناسبات
فلكلورية كرنڤالية احتفالية بهيجة لا أكثر ، ذلك لحساب هوية عالمية
واحدة وحيدة‑ هو روح وفلسفة الجلوبة [ ربما تعمقنا لاحقا فى صفحة جديدة
اسميناها الفن الجماهيرى فى الفوارق بين الفلكلور وبين
الفن الجماهيرى ، حيث الأول أشبه بالمشغولة اليدوية إن استعرنا الوصف من
صفحة هولليوود حيث عقدت نفس المقارنة بين السينمات
القومية وسينما هولليوود ، والأخير يعنى الفن القياسى الذى ينتج على نطاق
اقتصادى تصنيعى واسع ويرضى كل الأذواق . ربما تجوز ذات المقارنة على صعيد
الهوية الجلوبية ككل ، مع فارق أن الجلوبة طيف يشمل ما هو أكثر بكثير من
الفن وحده . هنا سنجد هويات قومية ’ فلكلورية ‘ فى مواجهة هوية
جلوبية ثقافية ’ جماهيرية ‘ الاتساع والانتشار تمثل المواصفة القياسية
للهوية فى العالم ] . فقط وليكن شعارنا : شقيقنا العالم لن نسمح لك ولا لأنفسنا أن تسبقنا
كثيرا !
ثامنا : هذا التقييس أو التوحيد لا تفرضه
إرادة شخص ما أو غطرسة حكومة ما أو حتى هيمنة قدرة عظمى ما ، إنما يفرضه
ببساطة مفهوم الكفاءة ، حيث لا يجب أن يتوانى أحد عن الأخذ بما ثبت أنه
أفضل وأكفأ فى مكان آخر فى العالم . نعم ، هذه جميعا مصطلحات هندسية
واقتصادية جافة ، لكنها فى الحقيقة تفاعلية وديالكتيكية أكثر مما يبدو
للوهلة الأولى . ومثلا لا تعنى كما يقول البعض إنها ‑أى الجلوبة‑
هى آليا الأمركة . صحيح أن ما يأخذه العالم عن أميركا حاليا يكاد يكون هو
كل الجلوبة ، بحكم النجاح الساحق للتجربة الأميركية تقنيا واقتصاديا
وأيديولوچيا ونمطا فى الحياة …إلخ ، لكن أميركا نفسها لا بد وأن تنصاع
أحيانا لنجاحات الآخرين وللتقييس الأصح إذا لم يكن لديها ( على الأقل جدا
هناك ثلاثة أشياء : عليها أن تأخذ بالنظام المترى فى القياس ،
وبالمائتى وعشرين ڤولتا للكهرباء المنزلية ، وبكرة القدم كلعبة أولى
فى الرياضة . وأقصى ما يمكن أن يفعله العالم بالنسبة لهذه الأخيرة ،
وهذا حادث بالفعل وبسرعة مدهشة ، هو أن يعتمد التسمية الأميركية لها السوكر
soccer كتسمية قياسية احتراما لأن لدى أميركا لعبة أخرى اسمها football ،
ويصعب لها تغيير اسمها ‑المفارقة السيئة أنها حتى لا تلعب
بالقدم ! ) . لا تستغرب ، فكل الأمور سوف تسير بهذه الطريقة
فى عالم جعلته ثورة الاتصالات والمعلومات قرية صغيرة بمعنى الكلمة .
إذن –وبلا المواربة المعتادة المصاحبة عادة لهذا
النوع من الحديث– العرب هم آخر قوم على الأرض يمكن تخيل أن يسهموا فى التعددية
الثقافية كما قد يفهمها عالم اليوم . ربما يمكن تصور أن تسهم الياپان أو
الهند أو الصين فى الثقافة العالمية بأشياء هنا وهناك ( الياپان هى القوة
الثقافية الثانية فى العالم ولها طوال التسعينيات أربعا أو خمسا من أنجح 100
فيلم سنويا على مستوى العالم ، ناهيك عن هيمنة المانجا المتواصلة على محلات
الڤيديو ، بمعنى أنها وجدت فى جودزيللا ضالة أتاتورك الضائعة
لها ! لكن فقط لا تنس أن الياپان وقبل هذا بسنوات جعلت من نفسها القوة
الاقتصادية والتقنية الثانية فى العالم وقبل هذا بعقود أخرى قتلت ثقافتها وتراثها قتلا بدستور كتبه الچنرال
ماكآرثر بخط يده وليس حتى على آلة كاتبة ومن الملفت أنهم لا يسعون لتعديله قط
وكأنهم لا يريدون اكتساب هذا الحق أبدا ! ) . نعم ، لقد فعلتها الياپان وألمانيا ،
والآن تفعلها الصين والهند . فمتى يأتى دورنا فى التخلص من هويتنا بثقة
وشجاعة ؟ قبل ثلاثة أرباع قرن من الآن كان المصريون يسخرون من الطربوش
والبرقع ويتسابقون لارتداء الملابس الغربية . هذا ما يفعله الشباب الصينى
والهندى صباح مساء اليوم بولعهم بكل شىء غربى بدءا من التقنية حتى
الموسيقى . بصراحة : لقد
قضى انضواء أكبر كتلتين بشريتين فى العالم فى ركاب الثقافة الغربية على آخر أمل
لأية ثقافة قومية أخرى مستقلة فى الوجود بعد اليوم . أو بعبارة أخرى : لا
مكان لأحد فى عالمنا عالى التقنية سريع التقدم دون أن ينسى شيئا اسمه
الهوية !
( ولعله ليس من قبيل
الخيال العلمى بكلمات أخرى مثل هذه الدول لا تنادى بالتعددية إنما
تمارسها وتفعل هذا بعد أن أصبحت بالفعل قوى اقتصادية مؤثرة نسبيا ويحترمها
العالم بعد أن اندمجت فى ثقافته على حساب ما اتضح أنه قيم بالية عندها .
إنما أن ينادى المتخلفون بالتعددية فهذا هو الوبال بعينه على البشرية هذا بفرض
أن منحهم أحد أذنا صاغية من الأصل . فالعالم يعى تماما أن هذه الشعوب
متخلفة تقنيا وحضاريا لأن ثقافتها أو معظمها على الأقل متخلف وتخطاه
الزمن .
نقول هذا ونحن نعلم جيدا أن
العرب قدموا بالفعل واحدا من تلك الإسهامات البسيطة التى أصبحت جزءا من ثقافة
المواطن العادى فى الغرب . هذا حدث مرة واحدة عندما ترجمت ألف ليلة وليلة
للغات الأوروپية وعصفت بالحياة الثقافية هناك وما تزال تعصف ، بدءا من ظاهرة
ڤالينتينو حتى أحدث أفلام ديزنى . أما تمسكهم اليوم بالتعددية فليس مطلبا حصيفا
بالمرة ولن يقابل إلا بالسخرية مع ما هم عليه من تخلف ويجب عمليا على الأقل أن
ينسوا قضية الثقافة بالمرة وأن يركزوا أولا على جسر الهوة التقنية ومن ثم
الاقتصادية المريعة بينهم وبين العالم المتقدم . وبالنسبة للثقافة هناك حل
أسهل سلكه من هم فى مثل هذا الوضع الميئوس ، أو على الأقل هو حل ليس
مستحيلا كما بالضرورة المطالبة قسرا بالتعددية . هذا الحل هو ترك ثقافتهم
ومن ثم تبنى ثقافة أخرى أفضل . ( بمناسبة الحديث عن الدساتير ، ربما
الصواب فيما يخص الدستور المصرى ‑وهذا يسرى على من يشاء من الآخرين بالطبع‑
إذن المشكلة التى تواجه الثقافات القومية هى ببساطة
هى أن عليها أن تستبدل نفسها بثقافة أخرى . ويفترض أن عالمة الأنثروپولوچيا
الأشهر مارجاريت مييد قد حسمت هذه القضية قبل ثلاثة أرباع القرن بأن لا حلول وسط فى هذا
الشأن ، وذلك عندما قالت إن الثقافة
كاللغة إما أن تقبلها كلها أو تتركها كلها . الواقع الذى نراه ونتعامى عنه ونخشى الاعتراف به أن
غالبية شعوب العالم تفعل هذا بحماس ، ونحن لا نرى منه سوى ما يعجبنا وهو
كلام بعض المثقفين عندهم عن ضرورة الحفاظ على ما يسمونه التعددية الثقافية أو
الهوية القومية . فى الياپان أو المكسيك
هذه الورقة لا تعتقد بالمرة أن الهند أو الصين التى
أصبحت قناة إم تى ڤى الموسيقية المتحررة أكثر نجاحا فيها من بلدها الأم أميركا ،
شعوب تريد الحفاظ على ثقافتها القومية ، بل العكس بالضبط أنها تريد إحالتها
للمتحف والتخلص منها بأسرع ما يمكن . وكل ما نستطيع التحفظ به مؤقتا فى هذا
السياق أن ربما يكون لهذه الشعوب سقف لن تتخطاه فى الانضمام لمسيرة المستقبل
( أو أمركة نفسها لو شئت ) ، بسبب أن الرغبة وحدها لا
تكفى ، وأنها وإن خلعت جلدها القديم فإنها لم تستطع خلعه بنسبة 100 0/0
كاملة . وعندما يتجرأ أحد على ذكر
كلمة التغيير فإن الشعار الجاهز الذى يشهر فى وجهه على الفور هو ما يسمى ثوابت الأمة . هذه
الورقة تفترض ما يلى : أولا : أنها أكثر مما يجب وتنم من الناحية
الكمية وحدها على عقلية ستاتية رجعية رافضة للتجدد والتغيير . نحن من أكثر
المهتمين بإشكالية الثوابت ، بل الواقع نأمل فى التفرغ للبحث فى هذا الطموح
الفلسفى المثير يوما الفارق الوحيد أننا نعتبر ما عمره من عمر الكون هو فقط
الثوابت ، وما عدا هذا هو متغيرات ! لكن ما أبعد الفجوة ليس فقط بين
هذا وبين الستاتية الكلية للعقل العربى ثقافيا وسياسيا أو حتى تقنيا ، بل
بينها وبين أى فكر آخر فى كل بقية العالم ، الذى يدرك أنه بات عالما عالى
التقنية ومن ثم سريع التطور .
[ البداية بالنسبة لنا
قد تكون مشروع موقع بالإنترنيت نخطط له بعد EveryScreen.com ، سوف يحمل عنوان nOusia.com ،
والكلمة تركيب لكلمتى nous, ousia اليونانيتين القديمتين بمعنى عقل المادة أو
روح الجوهر المادى . التحكم ( ومنه قانون القوة ) Control ،
الاجتماع ( أى الحاجة للتفاعل ) Socialization ، الفردانية
( بمعنى تميز كل فرد ) Individuality ، الاستعقاد
( بمعنى التطور رأسيا ) Sophistication ، التلافف
( بمعنى التطور أفقيا ) Conglomeration ، التخصص
( كميل تصاعدى فى مسيرة التطور ، أو ربما كان ميلا ثابتا كغيرة من
الناوسيات المذكورة الأخرى ) Specialization ، هى من بين
الأشياء المرشحة كثوابت ، والتى يبدو أنها كانت حقيقة واقعة منذ عصر تكون
المجرات ، وإن كانت خاضعة بالطبع لمزيد من البحث مستقبلا أو للحذف أو الدمج
أو الإضافة ] .
ثانيا : أنها جميعا ثوابت متخلفة وليس بها أى شىء جيد تحت أى معيار مقبول
عالميا ، يكفى أن عندهم الكدح وعندنا الرزق ، عندهم الانفتاح وعندنا
الهوية ، عندهم الحرية الجنسية وعندنا الدين ، عندهم الابتكار وعندنا
التقديس ، عندهم المنهج وشمول الرؤية وعندنا الأحادية وكون القبيلة كل
العالم ، عندهم كل شىء موضوعى ومادى وعندنا كل شىء ذاتى ومشخصن ،
عندهم المواجهة والواقعية والشفافية وعندنا الكرامة والشرف وشكليات
الفضيلة ، عندهم الفرد والنقاش والتمرد وقوة الشخصية وعندنا السمع والطاعة
والأسرة والإجماع . العقل العربى عقل دون إنسانى لا يمكنه حتى تجريد
المعانى والرموز والأفكار . كل ما يفهمه هو فقط رابطة الدم ، هى
معياره الوحيد فى الحكم على الأمور ، لا قيمة للأفكار ولا للمبادئ ولا حتى
للمصالح . فقط أنا وأخى ضد ابن عمى ، وأنا وابن عمى ضد الغريب
( أحد الأمثال الشعبية العربية الدارجة لا نهائية العدد ، لكن من
القلة القليلة جدا منها المفعلة فعلا على أرض الواقع بحيث ترقى لمستوى القانون
الاجتماعى والثقافى إن لم يكن لمستوى القداسة ! ) . الإنسان الأبيض
لا يهتم برأى الآخرين فى مظهره أو فى شخصه أو ’ بصورته
المشوهة ‘ ، ويهتم فقط برأيه هو فى نفسه ، ولن نذهب أبعد فنقول
أنه -أو الإنسان الياپانى وسنعود لهذا ، لا يهتم حتى بذلك ، إنما فقط
بالحقيقة الموضوعية ، بالمحتوى ! إجمالا هم آلات عاقلة باردة
ثوابتها العلم والعلمانية والعملية والعالمية ، ونحن حيوانات غريزية
انفعالية هاجسها الأهل والعرض والأرض والفرض . ولهذا السبب هم دوما
بناءون ، بينما نسقنا القيمى الذى نراه سماويا ومقدسا هو تحديدا الذى
يجعلنا طوال الوقت طفيليين همجا مارقين هدامين وقطاع طرق نسعى لتقويض كل ما
يبنيه الغير ، العدو دائما أبدا . والنتيجة أن التاريخ العربى لم يكن
سوى منوال تكرارى لا نهائى من حلقتين لا ثالث لهما : غزوة بدر ثم صلح
حديبية ، بدر ثم حديبية وهلم جرا من مجازر غدر وإبادة وقطع طريق عند القوة
فتمسكن واستكانة وكذب يسمى التقية عند الضعف . الشرف والوضوح ورغبة التعايش
الصادق مع الغير أمور غير واردة من الأصل فى مثل هذا السيناريو . يقولون لك عندنا تبقى الزوجات
على أسمائهن الأصلية وفى الغرب يتخلين عنها لصالح اسم الزوج ، وكأن احترام
وتكريم المرأة أكثر عندنا منه عندهم ! طبعا خطأ ! أكذوبة فاحشة !
السبب هو أننا نؤمن برابطة الدم وبالأسرة الكبيرة وبالماضى اللا نهائى ،
ونرفض تمثل فكرة الأسرة النووية التى جاء بها عصر الصناعة ، حيث مفهوم بناء
حياة جديدة أو مستقلة عن الجذور فكرة غير واردة أصلا فى العقل العربى ولا يطيق
أحد تخيلها . والنتيجة أنك لا تتزوج امرأة إنما قبيلة كاملة تدس أنفها فى
غرفة نومك مدى الحياة ، والعكس بالعكس بالنسبة للمرأة . التكافل
والتواصل والتواد والتراحم وصلة القربى ، كلها قيم بائدة عفا عليها الزمن
وهجرها العالم ، لصالح مبدأ الفردانية والتنافسية المطلقين . قد ترد قائلا
إن الاجتماع قدرة ، كان كذلك وسيظل هكذا للأبد ، والجماعة أقوى من
مجرد مجموع الأفراد . طبعا هذا صحيح ، لكن ثمة فارق هائل بين أن يبنى
الاجتماع على المشاعر والانفعالات فتكون هى الرابطة الأساس بين أعضائه ،
وبين أن يبنى على العقل والمصلحة . تلك المجتمعات الغربية التى يصمها
كتابنا طوال الوقت بأنها فردانية ومفككة ، هى فى الواقع أقوى ترابطا من
مجتمعاتنا بمراحل . ولا مجال للمقارنة أصلا ، ذلك أن هذا الترابط مبنى
عندهم على أساس من المادية ، بالمعنى الفلسفى للكلمة . مصلحة الفرد من
مصلحة الشركة التى ينتمى لها ، حتى لو كان طوال اليوم يتنافس ويتشاجر مع
زملائه فيها . ازدهار ومصلحة الشركة من ازدهار ومصلحة الاقتصاد ككل ،
حتى لو كانت تسعى كل الأيام لتدمير منافساتها . أو ‑وهذا من نافلة
القول‑ هو ككل جوهر نظرية آدم سميث الاقتصادية القائمة على أن المصلحة
العمومية تكمن فى التنافس أو فى سعى كل فرد لمصلحته الشخصية لا أكثر .
بمعنى أوضح الاجتماع الصحيح ، لا يقوم على حماية المجتمع لكل أفراده ،
بل حماية المجتمع لنفسه ، أى بما قد ينطوى عليه هذا من تضحية إلزامية
بالضعفاء والزائدين عن الحاجة . هذه كلها تمثل الوجه المادى الإيجابى الذى
تنص عليه علوم الاجتماع وعلوم الاقتصاد وعلوم البيولوچيا . وربما لنا عودة
لهذه الأخيرة بعد قليل ، بالذات مع ظهور النظرية المثيرة المسماة بالچيين
الأنانى التى تستكشف مثل هذا الكلام على الصعيد البيولوچى أو حتى الميكروبيولوچى
المحضين . وشتان بين أى من كل هذا الكلام ، وبين عبارة ’ أنا
وأخوى على ابن عمى ، وأنا وابن عمى ع الغريب ‘ ، ذلك المعنى
العاطفى الأجوف وغير المادى بالمرة الذى لا تعرف سواه شعوبنا انفعالية الطباع
متوارية العقول . انظر حتى للمفردات
المستخدمة . كلمة العالم العربى لا تقرأها فى الصحف الأجنبية إلا وقد وضعت
بين قوسين استغرابا أو استهزاء أو دعوة للفرجة على حفريات التاريخ التى ترى أنها
هى ’ العالم ‘ وما وراءها بحر الظلمات وبلاد الجان ، بينما كلمة world تعنى فى مخيلة الغرب كوكبا كامل الكروية . الكلام يطول
ويطول ، لكن : ببساطة نحن متخلفون لأننا اخترنا الثوابت الخطأ ،
أو بالأحرى طبعا أن اختارتها لنا چييناتنا ! ( هل اخترنا نسقنا القيمى برغبتنا أم هو
موجود فى چييناتنا قد تكون مادة لمناقشة لاحقة ، لكن عند هذه المرحلة نقول
نعم ’ اخترنا ‘ ولا تملص من المسئولية . وأرجو ألا تكون ثمة
نظرية مؤامرة أخرى فى هذا ، وكلمة سارتر الشهيرة تقول ما معناه أنك أنت
الذى تختار لمن تذهب لاستشارته فى مشكلتك : الكاهن أم أنيس الحانة
النكرانى ) . ثالثا : أن لا شىء يمكن تجميده بما فيه القيم
والأخلاق نفسها عند نصوص عمرها آلاف السنين فهذا ضد منطق الطبيعة والتطور ومن
غير الممكن قبوله نظريا . رابعا : أنها –أى تلك الثوابت– فعلا أكذوبة فى
الواقع العملى ولا تزيد عن كونها نوعا من التربح السياسى للبعض أو الديماجوچية
المحضة . نتمسك بالكرامة والكبرياء الزائف ولا نرى الفقر والتخلف الذى نحن
عليه ، ولعل أحد أشهر ما يقال عليه حاليا الثوابت العربية وهو قرارات الأمم
المتحدة الخاصة بالصراع العربى الإسرائيلى ، يختلف مائة وثمانين درجة عن
’ ثوابت ‘ ما قبل عقود قليلة بأن لا صلح لا اعتراف لا تفاوض مع
إسرائيل .
قس نفس الكلام على الثابت المخيف الآخر وهو الدين والذى
أصبح فى الأعوام الأخيرة –وهذا مجرد مثال– يسمح على نطاق واسع بالخلانية
والخيانة الزوجية وحتى بالدعارة ، فقط بعد وضع مسميات دينية جديدة مستنزلة
لها تقنن تعدد الزوجات والزواج محدد المدة وزواج المتعة المدفوع …إلخ ( دع
جانبا وهو الأهم دفع الأجر المناسب لرجال الدين لأداء المراسم والطقوس ،
وكأن كل الاعتراض ليس على الحريات الجنسية الاجتماعية والفردية
( الشخصية ) ، إنما فقط على ممارستها دون توريد القرابين
للكليروس ، أو : طعام
الكهنة هو كل ما يدور حوله الدين ، وحاول الرجوع
لنصوص سفر اللاويين ونحوه من الشريعة الموسوية ، أو أية شريعة
أخرى ) . الموضوع كله رياء فى رياء ، والضحية هى الإنسان
البسيط ، وطبعا القارئ يفهم كل ما نقصد ولا حاجة للإفاضة .
خامسا- دون التخلص من كل هذه الثوابت ،
والانخراط enlist فى مسيرة التحديث العالمية ‑ليس تقنيا فقط ، إنما بتبنى
الثقافة والهوية العالمية التى اكتشفتها واعتمدها سائر البشرية فى سياق وصولها
لهذا النجاح ، فالبديل مرعب . إنه الإبادة . هذا ما علمتنا إياه
تجربة السكان الأصليين فى فى كل قارات العالم . [ تابع حديث الإبادة
فى الصفحة الجديدة بذات العنوان ] . هكذا تصبح فى الثقافة العربية إشكالية التغيير ثلاثية الأس –إن جاز هذا التعبير الرياضياتى . فمشكلتنا ليست فى الرواسب
اللا شعورية كالتى قد تمنع الأمم المذكورة قبل قليل من القبول الكامل
بالمستقبل ، بل فى أننا لا نمتلك قدرة التغيير تلك التى تتميز بها معظم
الشعوب الأخرى ، وثالثا أننا نرفض بالدقة والتحديد وبوعى كامل نوع الثقافة
المطلوب أن نشغل قلاب ( سويتش ) مارجاريت مييد إليه ، ما يستحب
منها وما يعاب ، بالتعبيرات الرفيعة للدكتور طه حسين ، تلك الثقافة التى سوف
نفصل بعض خصائصها بعد قليل . ( هذا مع كل الاحترام لا يقلل من
تحفظاتنا المعتادة على د . طه حسين كيسارى صاحب فكرة الماء والهواء فى
التعليم وكانت سر نكبته ونكبة كل شىء الكبرى فى الحياة المصرية الاقتصادية
والعلمية والاجتماعية ، وكأول من أطلق على عصابة يوليو اسم ثورة ،
وأول من نظر إطلاقا
ببساطة هذا مستحيل . عرى النساء جزء من الحرية المطلقة وتحطيم المقدسات
التى يجب تربية الأطفال عليها منذ نعومة أظافرهم . ومن غير تحطيمها كلها
دينية وغير دينية ، وإزالة كل غشاوتها عن العقل ، لا مجال بالمرة لشىء
اسمه خيال أو إبداع أو اختراع أو ابتكار . لا غشاوتان ، حجاب الجسم
وحجاب العقل ، فقط غشاوة واحدة ، حجاب أو لا حجاب . ببساطة أكثر : 1- هذا عالم
من القوة . 2- فى عالم من القوة ، التقنية هى اسم اللعبة . 3- لن
نكتسب التقنية قبل أن تنجلى عقولنا . 4- لن تنجلى عقولنا دون أن تتعرى
نساؤنا ( وتمارس بناتنا الجنس بحرية فى سن صغيرة ) . 5- عرى
النساء ( وممارسة البنات الجنس بحرية فى سن صغيرة ) أمر يتوقف على
الثقافة . 6- الثقافة تتوقف على التكوين الچيينى . 7- تغيير التكوين الچيينى
يحتاج لمذابح جماعية كبرى . 8- بدون حسم سؤال هل أنت مع التقنية أم مع
الثقافة لصالح الأولى ، فإن البديل هو الإفناء الكامل .
أنا لن أستطيع القول أنى أعيش فى
مجتمع عصرى وصحى قبل أن أستطيع شراء مجلة الپلاى بوى بكل حرية وعلن من كشك الصحف
أسفل منزلى . هذا ليس شيئا يحدث بقرار من وزير الإعلام يصدر صباح
الغد ، إنما لن يتأتى قبل أن يكون المجتمع قد قطع أشواطا طويلة ومريرة من
أجل الرخاء الاقتصادى والتفتح العقلى ، وهما أمران شديدى التفاعل والارتباط
والاعتماد أحدهما على الآخر . هذه الترابطات هى ما سنحاول
تحليله وإثباته فيما تبقى من هذه الدراسة . [ ظاهرة التفاوت فى قبول
المستقبل لم تعد خافية على أحد ، وفى 24 أكتوبر 2000 وتحت عنوان ’ ثورات ثقافية ‘
جاء مقال توماس إل . فرييدمان كاتب العمود اليسارى الشهير بجريدة النيو
يورك تايمز . المقال يتحدث عن مدى استعداد الصين للدخول فى منظمة التداول
العالمية WTO وصل فيه إلى حد القول أن الحزب الشيوعى نفسه هو أول السعداء بما يسمى
ضغوطا خارجية لأنها تسهل له الترويج للاصلاح الاقتصادى وسط الشعب الصينى ! المؤسف أنه لم يجد طوال الوقت
سوانا عرب الشرق الأوسط لعقد المقارنات : ’ أربطوا أحزمة
المقاعد ، فى الصين اختاروا المستقبل ...فى الشرق الأوسط اختاروا
الماضى ! ‘ ] . [ أيضا متابعة أخرى لذات الموضوع فى 24 أپريل
2002 ، بمناسبة عمود آخر لفرييدمان
فى المقارنة بين الصينيين والعرب ! ] . حتى نشخص أولا الشق الخاص بمدى قدرتنا على تغيير
أنفسنا نقول أننا ومنذ قرون نعيش فى عصر يكتسب فيه قطاع كبير من البشر صفات لا
إنسانية أصلا كالدقة البالغة والحكم الموضوعى وكبح الذاتية وعدم الكلل وقهر
الشعور بالملل واستبعاد العواطف والانفعالات . إلا البعض القليل الذى يحفز
على العمل والمنافسة كالطموح مثلا ، وذلك فى مقابل العواطف
’ الشرقية ‘ إن جاز التعبير كالكرامة والانتقام والشرف والعرض
…إلخ . ربما كانت هذه عواطف إيجابية للعيش أيام حماسة
الحروب الدينية والقومية ذات السيف والرمح ، لكن ما نراه اليوم أن البشر
أشباه الآلات يتسامون عليها ، وتقتصر ممارستهم لها عند اللزوم على الفرجة
على مباراة لكرة السلة أو الذهاب لأحد الأفلام مساء والانفعال مع أى
منهما . الواضح كثيرا أننا لا نملك من الخصائص الچيينية والنفسية إلا أقل
القليل مما يؤهلنا لاكتساب هذه الصفات الجديدة ، ومن ثم نجد أن مقاومة
التقدم أقوى بكثير عندنا مما هى عليه فى الثقافات الصفراء أو اللاتينية .
هذا الرفض للتقدم هو ما يسمى عندنا الطبع يغلب التطبع ( أو بالعامية عندنا
عبارات وفيرة مثل الكبير كبير ، أو ع الأصل دور …إلخ . وكلها تصب فى
الحقيقة اليمينية جدا القائلة بأن الناس يولدون ثم لا يتغيرون أبدا ، ذلك
أن الچيينات قدر المرء الوحيد الذى لا فكاك منه ) . قد يقال إن
الآلات هى التى صبغت البشر ‑وستظل تصبغ المزيد منهم‑ بهذه
الصفات . هذا صحيح بدرجة ما ، لكنه لا يجب أن يعمينا عن حقيقة أن هناك
عرقين من البشر بالذات دون غيرهما ، كانا الأسرع فى تقبل هذا التحول إن لم
نقل صنعه ‑وهذه الأخيرة هى الأدق . إنهم من كانت لديهم أصلا تلك
العقلية الباردة ودشنوا بها بسرعة وقوة مذهلين الثورة الصناعية بشقيها التقنى
والمالى ، ألا وهم تحديدا الإنجليز واليهود .
وقبل الاسترسال فى هذا يجب التوضيح هنا أننا لسنا
بصدد الحديث هنا عن الأعراق races ، أو إحياء محاولات قديمة لإثبات تطابق
الأصول العرقية لذلكما الشعبين ، وأشهرها ما سمى النظرية الأنجلو‑إسرائيلية ،
والتى باءت بالفشل علميا فى حينها ، وإن كان من آثارها غير المباشرة أن
اتضح أن الرابطة الأنجلو‑ساكسونية هى أيضا رابطة واهية ، وأصبح
الإنجليز يصرون على أن القبائل التى استوطنت إنجلترا وسميت الساكسون لا تحمل
تشابها لغويا أو ثقافيا يذكر بينها وبين ساكسون القارة ، بل هم شديدو الصلة
ببقية سكان الجزر البريطانية من الأنجلى ( مثلا ترى الموسوعة البريطانية
طبعة 1910 فى مدخلها الموجز عن نظرية الـ Anglo-Israelite
Theory ،
أن الكتاب الذى صدرت فيه لأول مرة واسمه Philo-Israel ، كان معيبا
ثيولوچيا وأنثروپولوچيا حيث يفترض أن الإنجليز ومستعمراتهم والولايات المتحدة هم
سلالة ’ الأسباط العشرة ‘ بعد شتات الملك الفارسى سرجون لليهود .
لكن فى ذات الوقت ترى ذات الموسوعة كم هى واهية أيضا الرابطة الأنجلو‑ساكسونية .
فالساكسون البريطانيون لا يشبهون ساكسون القارة ، ويشبهون بشدة الأنجلو من
حيث العادات واللغة والسلوك ) .
نحن لا نتوق لإحياء نظرية كهذه ، بل ننطلق فقط
من التشابه العميق الذى ينفرد به العرقان الأنجلو واليهودى من حيث خصائصهما
النفسية بعد‑الإنسانية ( بالطبع نقصد
باليهود الأشكيناز منهم ، من عركتهم محارق بلاد الصقيع فصاروا عرقا لا يمت
بصلة للعرق الساموى شرق الأوسطى الانفعالى التطيرى التقليدى ، والمسمى
بالبرابرة فى القاموس الأرسطى ، ذلك الذى لا يزال بالتأكيد على تخلفه أيا
ما كانت دياناته ، والتى لا يمكن أن نستثنى اليهودية منها ) .
بالتالى لا يهمنا هنا إثبات أى شىء يتعلق بالأعراق رغم أن بحوث الهندسة الچيينية
تجعلنا نشم فى الهواء نظريات سوف تقلب خلال من 5-7 أعوام من الآن كل نظريات
البشر السابقة عن أنفسهم ، وأقلها تفجير فكرة المساواة التى جاءت بها ما تسمى بمبادئ الثورة
الفرنسية ، مبادئ جمهورية المقصلة ، تلك التى ما أن مدت على استقامتها
حتى أتتنا بالشيوعية البغيضة . ورغم كل ما تبدو
عليه حضارتنا اليوم من اندفاع العودة إلى اليمين كما أرادته لها الطبيعة منذ فجر
التاريخ ، لم تتخلص بالكامل بعد من بذور الاشتراكية الدخيلة فيها ،
ولا تزال تخشى إجراء مراجعة لها رغم مرور أكثر من قرنين عليها . وبالمناسبة
يجب القول إن الثورة الفرنسية التى أتت بحكم الدهماء المدعو الجمهورية أحيانا
والديموقراطية أحيانا أخرى والاشتراكية أحيانا ثالثة ، هى أم كل كوارث
العالم الحديث ، تماما كما كانت ثورة إخناتون التى أتت بالأديان المتجلاة
ووأدت كل الحضارات القديمة هى أم كل كوارث العالمين القديم والوسيط .
نعم ، ثورة إخناتون هى الزلزال ، والأديان المتجلاة الثلاث وكل عصور
الظلام هى التوابع . والثورة الفرنسية ( أو هوجة الباستيل لو
شئت ) هى الزلزال ، والثورة البلشڤية ( أو هوجة قصر الشتاء
لو شئت ) وهوس الديموقراطية وحقوق الإنسان ( أو هوجة البناية النيو
يوركية ذات الاثنين وأربعين طابقا لو شئت ) هى مجرد توابع . إذا كانت
هوجة قصر الشتاء قد انحسرت فى نهاية المطاف ، وهوجة نيو يورك تعانى من
إرهاصات الاحتضار المحتوم ، فإن هوجة الباستيل لا تزال نشطة للغاية
ومتغلغلة فى كل مكان ، والأسوأ أن لا يكاد يوجد وعى عالمى يذكر بمدى الشرور
والتخلف الكامنة فيها ، بفضل مساحيق التجميل الكثيفة التى تتجمل بها ،
مما برعت فرنسا فى تصنيعه وتصديره للعالم . بعد
قليل سنتحدث عن مدى التوطن الچيينى للفكر اليسارى أيضا فى مصر ، ومن ثم
قد نقترح تعديل هذه المقولة لأن مصر هى أم كل كوارث العالمين القديم والحديث معا .
على أنه ‑بغض النظر عن إذا ما كان منبع كوارث البشرية الآنية هو وادى
النيل أم لا ، يظل حسم الموقف تجاه ما أتت به الجمهورية الفرنسية من
أطروحات أيديولوچية ، هو ‑فى اجتهادنا المتواضع‑ الإشكالية رقم
1 أمام العقل العالمى اليوم ، والتحدى رقم 1 أمام مستقبل هذا الكوكب ! تأكيدا ما نحن برجعيين نريد
العودة بالتاريخ لما قبل الثورة الفرنسية . فقط نريد له مواصلة مسيرته
وحضارته التى شبه تجمدت لقرنين بسببها ، منطلقا تحديدا نحو عالم يتجاوز كل
ديماجوچيتها الإنسانية البغيضة ، إلى عقلانية آلية موضوعية يحكمها ذكاء بعد‑إنسانى فائق . [ الكلام عن فرنسا لا ينتهى
فى هذا الموقع . للمزيد انظر أعلاه حيث جمعنا
الكثير من الإحالات لما كتب لاحقا عنها . للمزيد عن إخناتون انظر صفحة العلمانية . أما أوسع إعادة معالجة
لمسألة الشخصية المصرية فجاءت لاحقا فى ذات صفحة الثقافة هذه ] . المهم ، ما يعنينا هنا أقل طموحا بكثير من
حديث الچيينات ، وهو مجرد رصد ظاهرى وإحصائى ( ولتقل إن شئت أن هذه
حالة مشابهة لوضعية فرويد عندما لم يجد بين يديه الأدوات العلمية الحاسمة
اللازمة ، ومع ذلك مضى فى تنمية نظرياته ) ، رصد لنوعية العقلية
التى تتجاوب بسهولة مع الطبائع اللا عاطفية لعصر الآلة‑و‑المصرف ،
وللطبائع المتقاربة بين تلكما الفئتين المذكورتين من البشر ، شديدة التباعد
عن طباع بقية البشر ، بحيث نميل مجازا أو مؤقتا لرؤيتهما كعرق حيوى واحد
تجمعه سمات كثيرة مشتركة لا تكاد تتوفر للأعراق الأخرى . [ تحديث : أكتوبر 2001 : لا
أعتقد أن من التسرع القول الآن إن حقبة الأيديولوچية الإنسانية ، أو الفكر
اليسارى ككل ، قد بدأت بسقوط الباستيل فى 14 يوليو 1789 ، وانتهت يوم
11 سپتمبر 2001 بالهجوم الإسلامى على مركز التداول العالمى فى نيو يورك ،
ذلك مع كل ما نراه الآن من مراجعة أمنية وستراتيچية وثقافية وأيديولوچية لأغلب
المفاهيم الأساسية التى قام عليها هذا النسق الفكرى المتداعى والمعادى للتقدم
على طول الخط . حيث لا نعتقد أن التاريخ سيعود للوراء من جديد ويسمح بمثل
هذه الأفكار مرة أخرى . فى صفحة سپتمبر ستجد
تحليلا لكيف كان هذا الحدث الأخير نتيجة طبيعية ومنطقية للحدث الأول فى عمر هذه
الحقبة ] .
بعبارة توجز ما سبق نقول : أولا أن شعلة
حضارتنا المعاصرة ( وتعريف
الحضارة هو فتح جبهة frontier جديدة للتقنية )
نجمت عن اتحاد ربما بدا غريبا فى حينه وإن كان منطقيا فى الحقيقة ، بين شايلوك وچيمس وات ،
وأن هذا اللقاء بين هذين العقلين العمليين الرياضياتيين الآليين الباردين ،
لم يكن فقط مجرد لحظة تاريخية عملاقة أفضت للعالم الجديد المقدام الذى
نعيشه ، بل كان لها أن كشفت عن وجود قطاع بشرى ربما لا تقل جذوره عن عشرة
قرون مضت ، يتميز بوفرة العقل وقلة العاطفة لأبعد مدى ، ويتجاوز
الصفات المألوفة لبقية البشر العاديين ، ذلك رغم أنه كما قلنا لم يتم بعد
( وقد لا يتم أبدا ) إثبات وجود تاريخ چيينى مشترك لعنصرى هذا الاتحاد
( وبالمناسبة ليس فى كل هذا الكلام جديد ، فهو ذات المنهج الأرسطى
القديم فى تصنيف الأمم لحضارية وهمجية ، أو بما يحمل ذات المغزى لبلاد
باردة وبلاد حارة أو لغربية وشرقية أو لأورپية وساموية أو كل ما إلى ذلك .
فقط العيب الوحيد فى كلام ’ المعلم ‘ أنه صواب . المهم دائما
أبدا أن كان أرسطو والكثيرون ممن ساروا على خطاه السديدة من بعده يحكمون على
الشعوب بناء على معيار أساس واحد : قدرتها على كبح عواطفها إعمالا للمنطق
العقلى البارد أم فى الاستسلام لها ) . ثانيا أن ذلك اللقاء الحضارى
الأنجلو‑يهودى تواصلت إنجازاته بأن نجمت عنه الحضارة الصناعية ثم ومن
قلبها بزغت الحضارة بعد‑الصناعية الراهنة ، واللتان يمكن تسميتهما
معا ودون خطأ يذكر باسم واحد مشترك هو الحضارة الأنجلو‑يهودية ، وشاء
من شاء وأبى من أبى فالغالبية العظمى لإنجازات الخمسائة عام الأخيرة تقنية
وعلمية وحتى فكرية وثقافية جاءت كلها من يهود أو پروتستانت ، أول دينين
تعلمنا فى التاريخ . ثالثا أن هذه الحضارة الأنجلو‑يهودية أسفرت
بمرور الوقت عن أول حضارة بعد‑إنسانية يعرفها
كوكب الأرض ، أولا لأنها دفعت لأول مرة إلى طليعة صفوف العشيرة البشرية
بفئة خاصة مغمورة من الناس لم تكن تتجانس سلوكيا مع الطبائع البشرية التقليدية
التى يمثل الانفعال والمبالغة فى شأن القيم المعنوية مكونا عضويا جوهريا فيها
( أى بعد‑إنسان ) ، وثانيا لأنها أفلحت بالتوازى فى إكساب
بعض من البشر أنفسهم الكثير من صفات وخصائص الآلات التى كان يبدو أن هذا الكائن
البشرى فى مجمله لم يكن مؤهلا أو صالحا لها ، وثالثا وهو الأهم لما آلت
إليه تلك الحضارة من سيادة للآلات ككل ‑باعتبارها العشيرة الأكثر قدرة
ماديا وعقليا التالية للإنسان فى شجرة التطور الدارونية للكوكب‑ على
مقدرات هذا الكوكب بنحو مباشر وغير مباشر ( ونقصد بالدرجة الأولى اليوم
الآلات السيليكونية الذكية التى أصبحت تتخذ وبوضوح كبير معظم القرارات الكبيرة
الحاسمة ، وكانت قد بدأت بداية متواضعة فى الخمسينيات فى الحقول العسكرية
ثم امتدت وتشعبت وتعاظمت قدراتها بما لا يقاس الآن ) .
( ملحوظة : أنت تعرف چيمس وات لكن شايلوك يستوجب وقفة لبرهة .
نحن لا نستطيع الإشادة بمنطقه العقلانى البارد قدر إشادة داهية الكتابة شيكسپير
نفسه . ويقيننا الأكيد أنه كتب عنه ‑أو بالأحرى اضطر للكتابة عنه‑
تماما بالطريقة التى اضطر مثلا للكتابة بها لاحقا سلامة موسى عن الخليفة
المأمون . ذاك الأخير خصص فى كتابه ’ حرية الفكر وأبطالها فى
التاريخ ‘ فصلا عن رجل الدين المتطرف أحمد بن حنبل ، وصوره على أنه
شهيد للفكر ، بينما كلنا يعلم أنه يمقته ويمقت أمثاله أشد المقت ، وأن
كل ما قصده أن يخبر القارئ بمعلومة أن من بين خلفاء المسلمين من لم يكن يؤمن
بالقرآن أصلا ، كذاك المأمون الذى راج اسمه فجأة بين المصريين [ تحديث : يناير 2001 : لاحقا توسعنا فى هذا بتدشين صفحة
الحضارة بدراسة رئيسة كتبنا كجزء منها لأول مرة نظرية كنا نطرحها شفاهة منذ عقود
وكان بالأحرى أن تقرأها هنا لولا أن لم نشأ فى حينه لأطروحة الثقافات القومية
هذه أن تكون أكثر صراحة ، أو قل عدوانية لو شئت ، مما هى عليه
بالفعل . تلك النظرية تقضى تقسيم البشر تقسيما چيينيا لست طبقات هى التى
فرضت على دياناتها ( وليس العكس ) ، ومن ثم أوغلنا فى تعريفنا
الخاص لمعاداة الساموية الذى لامسناه أكثر من مرة عبر هذه الصفحة ونراه يحل
الكثير من الالتباسات المعاصرة بأن يرصد أن لم يعد منها
اليهود ، بالذات الغربيين منهم ، بحكم التحولات الكبرى التى طرأت على
خصائصهم الچيينية خلال ألفى عاما من الشتات ، ثم يجعل من معاداة الساموية
جزءا من عقيدة كل نخبوى حق نصير للمسعى الحضارى للكوكب ] .
[ الجزء المقصود استقل لاحقا ليصبح جزءا من صفحة جديدة أخرى هى العلمانية فاقراه هناك ] . التركيبة الطبقية لعالم اليوم هى إحدى نتائج تلك
الفوارق الچيينية ‑السلوكية والنفسية والعقلية‑ بين الشعوب
( وهو أمر بدأ بعض الدارونيين الجدد يتنبهون له ويولونه اهتماما
خاصا ، وتوالت فيه الكتب فى السنوات الخمس الأخيرة ) . تستطيع
الأرقام أن تثبت بسهولة مدى تربع العرق الأنجلو‑يهودى على قمة هذه
التركيبة ، هذا بجبروت لم يسبق له مثيل ربما تبدو الإمپراطورية الرومانية
بجانبه كمجرد دويلة صغيرة ، وليكن ذلك مثلا بالمقارنة بين الناتج الداجن
الإجمالى GDP لأميركا الناشئة وأوروپا المجيدة ، أو بين الناتج الداجن لدويلة
إسرائيل الصغيرة ونواتج المحيط الواسع من الدول المحيطة بها رغم ما فى هذه
الأخيرة من ثروات طبيعية غير مسبوقة . إلا أن تفسير وتحليل هذه الهوة
الطبقية لن يتأتى إلا من خلال إمعان النظر فى تلك الطباع التى جعلت من بعض شعوب
أكثر تقبلا للمستقبل من شعوب أخرى ، وذات استعداد لدوس ماضيها بلا هوادة أو
رحمة أو ندم ، فى مقابل شعوب تجد ملاذها الوحيد فى الاعتصام بماضيها ،
على الأقل كنوع من التعويض النفسى أو من الاستجابة التكيفية تجاه ما يمليه عليها
المستقبل من قرارات تجدها مؤلمة وصعبة بسبب تركيبتها النفسية . هناك على قمة سلم تقبل المستقبل ( ومن ثم سلم
الثروة الطبقى ) من يمكن تسميتهم بصناع تقنيات الغد وهم أناس لا تكبلهم
تقريبا أى عوائق تراثية ( أو دينية بالطبع باعتبار الدين الجزء الأهم من
التراث ) ، ويأتى على رأسهم الكثير من دول الغرب بطبيعة الحال .
ونحن نطرح هذا التصنيف المعتمد على نوع التقنية لما ثبت بداهة من رابطة قوية بين
حجم تراكم الثروة وبين نوع التقنية محل التخصص . إذن فالمحدد الأساسى
لتصنيف دولة فى الصف الأول هو مدى استثمارها فى تقنيات الغد ، والأرقام لا
ترى بعد الولايات المتحدة أكثر من إسرائيل دولة تستثمر بكثافة فى الهندسة
الچيينية التى ستكون المصدر الأساسى للثروات فى ربع القرن القادم ( تقريبا
كل ما نأكله فى مصر هو منتجات منماة چيينيا هناك حيوانية كانت أو
نباتية ) ، أو فى ‑وهو أقل حداثة نسبيا من الهندسة الچيينية‑
الرقاقات والبرمجيات الحاسوبية [ فى أسبوع واحد من شهر ديسيمبر 1995 قررت
إنتل وموتورولا أكبر صانعتين للرقاقات فى أميركا والعالم استثمار أكثر من ثمانية
بلايين دولار فى إسرائيل ، فقط فى هذا الشق الدقيق من تقنيات
الحاسوب . أما برمجيا فيكفى إسرائيل أنها صاحبة المعمل الوحيد لشركة
مايكروسوفت خارج أميركا وأنها صانعة النسخة العربية من برمجيات الويندوز الكبرى
التى تشتغل بها كل حواسيب العالم العربى ولعل من المفروض من حيث المبدأ أن نستحى
من كتابة مقالات تهاجمها باستخدامها ] .
على أن الخطر الكبير على الولايات المتحدة أو غيرها
يأتى من القوى المحافظة والمتدينة داخلها وتحديدا تلك التى تقاوم بشراسة هذا
التوجه المستقبلى . ومن دلالات الأرقام الصارخة استطلاع نشرته مؤخرا مجلة
نيوزوييك يقول إن ثلثى الشعب الأميركى يؤدى صلوات بين الحين والآخر وأن نصف
هؤلاء يترددون بين الحين والآخر على دور العبادة . الصارخ فى هذا ‑وما
لم تقله المجلة‑ أن هذه النسب هى أكثر من 10 أضعاف مثيلتها فى
أوروپا ! من هنا وعلى المجرى البعيد يجب أن نضع بشدة الاعتبار لدول أخرى
تبذل جهودا قوية لقهر قوى التراث فيها وتقبل المستقبل على عواهنه وبلا تحفظات
تذكر ، وقطعت بالفعل شوطا مهما فى هذا ، ويجب القول أن زحرحة القدرة power shift لم يتأت تاريخيا إلا من
هذا تحديدا أى من تبنى التقنية الجديدة أو التحفظ نحوها . إن الفارق بين أن
يكون الدين مخدرا يعين العبيد على تحمل العمل الشاق وبين أن يصبح سلطة
ونفوذ ، هو بالضبط الفارق بين أن تكون الإمپراطورية الرومانية ( أو
أية إمپراطورية أخرى ) وبين أن لا تكون . ويوم تضمحل الولايات المتحدة
وتتحول لقوة من الدرجة الثانية فلن يكون الأمر إلا لهذا السبب . إن الإمپراطوريات تختنق بعبيدها وليس لأى سبب آخر ( وبأخص الأخص لو كانوا
متدينين ) ، أو هكذا علمنا التاريخ . ومن غير المؤكد حاليا أن
أميركا أو حتى أوروپا تجيد انتقاء عبيدها لا كما ولا كيفا ، فما بالك إن
كانت تستجلبهم متدينين جاهزين ومعادين لمفاهيم الحضارة والتطور أصلا ! إنهم
يسمحون حاليا باستجلاب المهاجرين من كسالى وسط العالم القديم ، بنفس
القواعد التى يطبقونها مثلا على مهاجرى شرق آسيا وشرق أوروپا الأكثر علمانية
ودينامية . لقد انهارت الإمپراطورية الغربية يوما بمعاول العبيد
المسيحيين ، والآن يحلم خلفاؤهم المسلمون بتكرار التجربة بنجاح ساحق مشابه
وعشر قرون أخرى من الظلام ) ، ولا شك أن يوما قاسيا للندم قريبا سوف
يحل بالحضارة إذا استمرت على مثل هذه الدرجة من عمى البصيرة .
بريطانيا الشريك المؤسس فى الحلف الحضارى الأنجلو‑يهودى هى إحدى الدول
المؤهلة لهذا الاختراق المستقبلى ( فقط بمناسبة الكلام عن الظلام وعصور
الظلام ، عصور الظلام عندهم تشتمل على الفروسية والملك آرثر وإعلان الماجنا
كارتا ، ومع ذلك يسمونها عصور ظلام ، إما للأدب الزائد ، وإما
لأن معايير النور والظلام تختلف عندهم عنا ، أو على الأقل لوجود فارق بين
ضوء منطفئ وبين ظلام أصيل وحقيقى ! ) . ولعل المطلوب فقط هو
التمسك بالتراث الثاتشرى العظيم ، والإنسحاب فورا من الاتحاد الأوروپى ذو
الميول اليسارية الماضوية والمعادية بدرجة أو بأخرى للجلوبة . وأنا شخصيا
أحرص على شراء وقراءة الفاينانشيال تايمز يوميا ، زائد غيرها من الجرائد
البريطانية المختلفة وإن على نحو أقل انتظاما نسبيا ، ولم أجد لمرة
واحدة ، حتى فى حدود الرؤية البريطانية المميزة للوحدة الأوروپية كوحدة
اقتصادية محض دون أية أبعاد سياسية أو ثقافية أو تنطوى على أى تخالط آخر من أى
نوع ، لم أجد رأيا يمكن أن يقنعنى بجدوى استمرار بريطانيا فى التحالف شرقا
وليس غربا . بالعكس كانت الآراء الأكثر إقناعا تلك الداعية للوحدة مع
النافتا ، [ فى تلك الأيام كانت ‑ولا
تزال فى الواقع‑ الجرائد الأميركية وفى طليعتها النيو يورك تايمز لا تصل
لمصر بسبب الثمن الباهظ للنقل ، وطبعا لم تكن قد دشنت بعد مواقعها الرائعة
الحالية على الغشاء . رغم ذلك لا يوجد ما يمكن أن يقلل من أهمية جرائد
عظيمة كالتايمز والفاينانشيال تايمز ] . بالمثل يمكن أن نرى أيضا أفعالا عميقة المدلول فى
دول أخرى كدعوة ملكة هولندا لعلماء الهندسة الچيينية الذين تحظر بلادهم تجاربهم لإجرائها فى
بلدها ، وهو بلد ليس بعيدا عن القيم الأنجلو‑يهودية إن عرفنا أن يهود
أمستردام وبنوكهم كانوا الممول الرئيس لاكتشاف أميركا وللثورة الصناعية
الإنجليزية . وبالطبع من نافلة القول إنها البلد الرائد فى تحرير الجنس
والعقاقير لأبعد الحدود المعروفة حتى الآن ، ولعل ذلك السلوك من ملكتهم قد
يصبح أنموذجا نمطيا بعد قليل لكل أمه تنتوى بالفعل الدخول فى سباق الثروة
القادم . ببساطة : أميركا ، إسرائيل ، بريطانيا ، وربما
هولندا ، هى القيادة المؤهلة لأن تحكم ما عداها من الدول فى عالم
المستقبل .
الطبقة الثانية تصنع ما يمكن تسميته تقنيات اليوم وهى
التقنيات ذات القيمة السوقية العالية للوقت المعين ، ومثالها العظيم للوهلة
الأولى هو الياپان . ونحن نقبل مؤقتا جدلية أنهم مجرد ’ قطط استنساخ ‘ copycats ،
لكن حتى نعود لتصنيف جديد لهم فى مرحلة متأخرة من هذه الدراسة ، ربما تضعهم
فوق العرق الأنجلى نفسه بكثير ، فسنقبل الحديث عنهم هنا كنموذج مبكر ،
أو النموذج الأول ، لصناع تقنيات اليوم . والأدق أننا نقصد بهؤلاء
عامة كل من يسير على خطى معسكر الحضارة فى اكتساب التقنية منها بجد وأدب ،
أو ما يكمن تسميته بالأمم المتحضرة ، أو بمعسكر التحضر ( لغويا التحضر
هو اكتساب الحضارة ) . هى دول تبدو ناجحة للغاية لكن لا يجب أن يخفى
هذا كون أن لها درجة ما من السقف التراثى يحول بينها وبين الخوض العميق فى
مجاهيل المستقبل . الفارق بين هاتين الطبقتين هو الذى غاب عن أذهان
الكثيرين بمن فيهم الأميركيون أنفسهم ، ذلك وهم يرون صناعات الصلب
والسيارات تتهاوى فى بلادهم فى الخمسينيات والستينيات لصالح الصناعة
الياپانية ، ولم يهتموا كثيرا أن النخبة الصناعية والعسكرية الأميركية كانت
تنمى فى هذه الفترة تحديدا تقنيات الترانزيستور والحاسوب والليزر
والفضائيات . واليوم يشكو الأميركيون أن حواسيبهم الشخصية وإليكترونياتهم
المنزلية لا تقوى عالميا على منافسة منتجات نمور آسيا مثلا ( بلاد أخرى لها
سقف للتنمية سوف تصله يوما أو وصلته فعلا وسوف تتجمد أو تبدأ فى الهبوط
بعده ) ، ولا يرون ‑إن لم يكن يهاجمون‑ نخبتهم التى تنمى
بلا قيود أخلاقية تذكر تقنيات الهندسة الچيينية التى أنها ستكون كما قلنا مصدر
الثروة الأول فى ربع القرن القادم ، أو لا تزال تجنى أرباحا هائلا من
القطاع الأعلى تقنية فى تقنيات اليوم كالرقاقات الحاسوبية أو كتابة
البرمجيات ، وكلتاهما موجة أحدث وأعلى تقنيا من بقية تقنيات الحاسوب
والرقميات الأخرى ، التى تشتغل بها دول التصنيف الثانى .
على أية حال هذه كما قلنا ليست نبوءات قاطعة ونحن
نرى بالفعل الياپان وهى تولى مثلا الهندسة الچيينية اهتماما كبيرا . ولا
نستبعد قط على بلد قال له إمپراطوره أن يخرج للترحيب ’ بالمنتصرين ‘
عشية الحرب العالمية الثانية ، أن يقهر فى داخله كل ما تبقى من عوائق
التراث وهى قليلة للغاية مقارنة ليس بقرون مضت بل بصبيحة نفس يوم ذلك الخطاب
الإمپراطورى الشهير . نعم ، نحن نسهب هنا فى الكلام عن شعوب
’ المستوى الثانى ‘ هذه لأننا نرى من خلالها الكثير جدا من الدورس
المستفادة لنا نحن ، هذا إن حدث وكان لنا أصلا ‑نحن الذين وصلنا
للحقيقة المطلقة والنهائية فى كل شئون الحياة قبل 14 قرنا من الآن‑ أن
نقرر أن نتعلم من أحد . الياپانيون بكلمة هم شعب المفاجآت وتأكيدا لم ير التاريخ تحولا ديناميا فى حياة شعب مثلما
حدث خلال ساعات قليلة فى الياپان قبل أيام بل ساعات كان الياپانيون أشرس شعب
مقاتل ‑ولحد الانتحارية ( كاميكازى )‑ فى التاريخ ضد
الغرب ، بل كان بعضهم مستعدا للانقلاب على الإمپراطور لو فكر فى
الاستسلام ، لكن بالمساء كانت فتياته تقدمن الورود وكئوس الساكى لجنود
الأسطول الأميركى . لو كان الياپانيون قد قالوا يومها ما أخذ بالقوة لن
يسترد بغير القوة لما أصبحوا ثانى أكبر قدرة اقتصادية فى العالم . كانوا قد
أبيدوا . ما حدث أن بعد عشر سنوات فقط كانت إليكترونياتهم تملأ العالم
وصلبهم يغلق ديترويت ’ بالضبة والمفتاح ‘ ، ولو كانت أميركا تريد
الهيمنة فعلا كما يقول خصومها لضربتهم نوويا من جديد ، فإغارتهم على
ديترويت وحدها أجدر بهذا ألف مرة من إغارتهم على پيرل هاربور .
طبعا بجانب ما فعلوه فى ذلك اليوم الدرامى العاصف يتضاءل شأن ما
فعلوه مثلا إزاء إهانات الآخرين ( فى الأربعينيات وصفهم دووجلاس ماكارثر
بصبى فى الثانية عشرة بينما الحضارة الغربية ناضجة فى الخامسة والأربعين ،
فى الخمسينيات قال نيكيتا خروتشوف إن ليس لديهم ما يقدموه للعالم إلا الزلازل
والبراكين ، وفى الستينيات تهكم ديجول واصفا إياهم بباعة ترانزيستور
جوالون ) ، لم يعلنوا الحرب ولم
يسحبوا السفراء بل حتى لم يصدروا بيان شجب وإدانة ، كل ما فعلوه ببساطة أن
قرروا أن يغيروا ما بأنفسم . ما هذا الذى نقوله ، وفى أى سياق ؟
من العبث أن نتحدث عن التهذيب وآداب السلوك فى سياق أصلى هو الحديث عن
العرب ، أصل كلمة الغطرسة فى كل التاريخ الإنسانى . الأجوف فقط هو
الذى يتغطرس . المملوء حتى لو تغطرس فهو يمارس حقه ، بل فى الحقيقة
امتلاؤه يميل لجعله متواضعا عفا . ببساطة تلك شعوب تتعلم من هزائمها وأخطائها ، أو
بعبارة أخرى : تعرف شيئا لا نقوى عليه نحن اسمه سعادة الاستسلام . حين
تضرب أميركا الياپان بالقنابل النووية لا تزداد كراهية الياپانيين لها ،
إنما يزداد انبهارهم بها . هذا هو الفارق بين الياپانيين والعرب .
وبكل كل تأكيد فإن شعب ترك كل ’ ماضيه ‘ الإنسانى قى ذلك اليوم ،
واستحال بين ضحية وعشاها آلات سيليكونية بلا انفعالات من أى نوع ، لهو شعب
ذو چيينات خاصة مختلفة . ليس مفاجأة أن كان أول من فكر فى مشروع الجيل الخامس فائق الذكاء للحوسبة .
ولن يستغرب المرء قط إن أصبح قائدا لكل العالم فى عصر حضارة
بعد‑الإنسان ، الذى ربما يتطلب ما يتجاوز الخصائص الچيينية
للأنجلو‑يهودية . فأنت حين تجمع الآلية السيليكونية للسلوك مع التراث
الچيينى شديد الدموية الذى وصل من الطموح لدرجة أن شرع بالفعل فى إبادة كامل
الشعب الصينى هائل العدد مستخدما الأسلحة البيولوچية ، سوف تحصل ساعتها على
مزيج مذهل غير مسبوق . نقول هذا دون أن نقصد الإيحاء بإن شيئا قد استجد على
الخصائص الچيينية للأمة الياپانية حين هزمت فى الحرب الثانية ، فبالتأكيد
كلا الشقين موجود منذ أزل الدهر ، وأقصى ما فى الأمر أن كنا نرى واحدا فقط
وها نحن نكتشف الوجه الآخر ، أى السيليكونى صارم العقلانية المذكور .
بالتأكيد إن لذلك التراث الچيينى الذى لا يعرف الرحمة وجهه الإيجابى الكبير على
المجرى البعيد ، ولعلنا سنغامر بمد هذه النبوءة على استقامتها فى تذييل هذه
الدراسة ، وندفع أنها ، أى الأمة الياپانية ، ربما تكون الوحيدة
الأكثر قاطبة من أمة الأنجلى فى اتساقها مع قوانين أمنا الطبيعة مطلقة
التنافسية ، والمؤهلة من ثم لوراثة الإمپراطورية الأميركية فى حال انهيار
هذه الأخيرة . وأن ساعتها ستبدو الاعتبارات التقنية شيئا سهل المنال بل
وشديد الوقتية إذا ما قورن بما يمكن تسميته معادن الشعوب أو أعماقها الچيينية
هذه التى لا تتغير بسرعة أو بسهولة بل يكاد يستحيل محوها ، وقطعا يستحيل
للغير اكتسابها ما لم تكن قد ورثتها فى دمائك بالفعل .
الدرس الأكبر ، أو بالأحرى الأصغر الأبسط
والأكثر بديهية ، المستفاد هنا أن
الحروب لم تصنع من أجل التطاحن حتى الموت . الحروب لم تصنع من أجل التطاحن
حتى الموت . الحروب احتكام ، بل احتكام شبه ودى إن جاز القول ،
بين طرفين اختلفت رؤاهما للعالم . حين تفشل كل وسائل الاتفاق ، يبعثان
بجيوشهما لساحة خاوية ذات صباح مشرق ، وفى المساء يوقعان وثيقة يقر فيها
أحدهما بأنه كان يرى الأمور خطأ ويواصلان التعايش والتعاون على هذا الأساس
الجديد . هذه هى الحرب ، وهذا هو شرفها ونبلها ، وسر انتحار
القائد المهزوم فيها هو اعترافه بأن خطأ نظرته للعالم هو الذى أدى لموت جنوده
ومعاناة شعبه . عندنا الحرب هى فقط حرب إبادة ، لا أحد يستسلم ولا أحد
ينتحر ولا حتى ’ يتنحى ‘ . إما أن نقضى على إسرائيل أو أن تقضى
هى علينا ، أقصد إما أن نقضى على إسرائيل أو أن نقضى على إسرائيل .
نستخدم كل الوسائل عدا تلك الحرب الشريفة ، بدءا من أن نخطف الطائرات
والرهائن ، حتى الإرهاب والمحاربة ’ بفدائيين ‘ يحتمون بالمدنيين
فى غزة ولبنان وكل مكان كى نولول للعالم حين يقتل بعض هؤلاء المدنيين .
وحتى فى المرات النادرة جدا التى حاربناها فيها بجيوش ترتدى زيا عسكريا فإننا
اخترنا أن نهاجمها خلسة فى يوم العيد . المشكلة ليست فقط أن العرب ليس فقط يهزمون ولا
يستسلمون ، بل إنهم لا يتخيلون أن للهزيمة ثمن أصلا . يتصورون بعد كل
هزيمة أن من الممكن إعادة الوضع إلى ما هو عليه . تقول sorry وكل شىء يرجع لسابق عهده . الأرض تعود ، حتى المعونات
الغربية تعوض الدمار . ينسون أنهم كبدوا الخصم خسائر اقتصادية وفى
الأرواح ، وكل ما عليه أن ينسى هو أيضا . لهذا السبب لا تكون شروط
الخصم هى عينها بعد كل حرب ، وهذا ما يسمى فى أدبياتنا المصرية عن السلام
الفلسطينى ، أنه تاريخ الفرص الضائعة !
الدرس الأكبر ، أو بالأحرى الأصغر الأبسط
والأكثر بديهية ، المستفاد هنا أنك حين تهزم عليك أن تقول إن لديك مشكلة . مشكلة فى
علمك ، مشكلة فى تقنيتك ، مشكلة فى اقتصادك ، أو بالأولى مشكلة
فى عقلك ، مشكلة فى ’ هويتك ‘ ، مشكلة فى
’ ثوابتك ‘ ، ولو كنت متدينا لقلت أيضا إن لديك مشكلة فى
دينك . نعم ، حتى منطق الدين الذى نتشدق به طوال الوقت ننساه فى خضم
شهوة الانتقام هذه . أنا شخصيا لو كنت متدينا وتلقيت الهزيمة تلو الأخرى
كهذه ، لآمنت على الفور أن الله إله الإسلام إله مزيف وأن يهوه إله التوراة
القديم هو الإله الصحيح ، أو بالأحرى طبعا علمانية الصهيونية هى الإله
الأصح . مبدأ الحرب كاحتكام للوصول للحقيقة آخر ما يمكن أن نعرفه ،
نحن لا نعرف الحرب كما يعرفها بقية البشر ، بل اخترعنا لها قواعدا من عندنا
( أو للدقة استقيناها من الهنود الحمر ) . نحن نهزم ونهزم ولا
نستسلم أبدا . وأنت حين تهزم ولا تستسلم تكون ببساطة قد اخترت
الإبادة ، خيارا اخترته لنفسك بنفسك ، ولم يختره لك أحد . [ فى أپريل 2001 وصل الكاتب
لتثمين جديد لمعدن وقماشة الشعب الياپانى عندما رأى شبابه المحتفل بفوز الزعيم
اليمينى چونيتشيرو كوئيزومى برئاسة الحزب ومن ثم الوزارة ، يرقص ويغنى
بحماس وشبابية لا تذكرنا إلا بالأحداث الشبابية الكبرى التى غيرت التاريخ ،
ولنقل مثلا مايو 1986 أو الوودستوك . فقط ثم فارق واحد أنه هنا لا ينادى
بالسلام أو المساواة أو كبح الشركات الكبرى ، بل فقط العكس مائة وثمانون
درجة ! يتظاهر مطالبا بحرية الاقتصاد وتحرير المنافسة ، وتفكيك
الشركات المتعثرة وعدم محاولة انقاذها أو الإبقاء على شغيلتها ، شباب
يتظاهر مناديا بإطلاق نسب البطالة ، وليس محاربتها ! شباب يأتى بما لا
يقل صعقا بحال عما فعلته أمهاته ذات يوم حين سمعن الإمپراطور يقول ’ أهلا
بالمنتصرين ! ‘ . شباب يخطو خطوة كبرى جديدة نحو أن يصبح الشعب
بعد‑الإنسانى الأول لهذا الكوكب . اقرأ هذا المدخل الذى هو جزء من صفحة الجلوبة
الحالية ، مردفا بتحليل شخصى مطول من الكاتب عن كيف هزه هذا الحدث ،
وجعل كل حياته تتداعى أمامه من جديد بكاملها مساء ذلك اليوم 23 أپريل
2001 . … عاود الكاتب الحديث عن الشباب
الياپانى فى صفحة بعد‑الإنسان
حين رأى العصابة اليسارية‑العروبية‑الإسلامية العالمية تشعل الأرض
نارا فى كل مكان من كوكب الأرض قبيل حرب تحرير العراق ، ولم يكن ليتجاهل
ساعتها مقارنة أى شباب هنا وهناك بشباب المستقبل الحقيقى فى الياپان
العظيمة . … أيضا بمناسبة فضيحة رئيس وزراء
ماليزيا مهاتير محمد بالهجوم على اليهود قبيل تقاعده فى أكتوبر 2003 ، عقد
الكاتب مقارنة فى صفحة الحضارة
بين تجربة التحديث كما جربتها ماليزيا ويبدو أنها وصلت لطريق مسدود ، وبين
تجربة الياپان لا نهائية التجدد ، والتى تلخصها أفضل تلخيص فى كل زمان
وأوان كلمة ’ أهلا بالمنتصرين ‘ هذه ، والتى على العكس لم تتمسك
بأية هوية ولا تراث ولا مقدسات لا ’ ثوابت ‘ يمكن أن تعوقها عن عناق
المستقبل . فى هذه القصة الكثير من الأمثلة لما أسميناه أعلاه أن يغيروا ما
بأنفسهم ] . وبعد ، هكذا تحدثنا عن المستويين الأول والثانى ،
وأخيرا يأتى بالطبع المستوى الطبقى الثالث فى عالم اليوم وهو صناع تقنيات الأمس أى تقنيات
الثورة الصناعية التى لم يعد يوجد عليها اليوم سوى تحفظ أخلاقى وتراثى واحد هو
تلويث البيئة ، ويمكن أن تقبله ‑أو بالعكس تتجاوز عنه‑ هذه
الدول بسهولة . ويمكنك لو شئت أن تبحث هنا أو هناك عن تصنيف رابع لدول
تقنيات أمس الأول والتى تكاد تقتصر على الاشتغال بالزراعة والحرف القائمة
عليها .
باختصار ،
ومما يحلم المرء بتنفيذه يوما هو تأسيس مؤشر يعتمد على قياسات علمية محكمة ربما
نسميه ’ مؤشر قبول
المستقبل ‘ Future
Acceptance Indicator . المعايير التى نتخيلها ربما تشمل أشياء كثيرة تتراوح ما
بين قبول بل الحماس لمبدأ الاقتصاد الحر بما يعنيه من موت غير رحيم للضعفاء فى
خضم سعير المنافسة ، وما بين قبول بل الحماس لمبادئ الحريات الشخصية وإلى
القلب منها بالطبع الحرية الجنسية فحرية تناول العقاقير . وأن ربما على
الأرجح سوف نجد هولاندا أو إسرائيل
أو ربما تايلاند ( التى جعلت من تجارة الجنس
صناعتها القومية رقم 1 وتألقت فيها ) ، فى طليعة الشعوب المتنافسة على
المركز رقم 1 على رأس هذه القائمة ! [ فى صفحة العلمانية حانت لاحقا فرصة للمزيد
من المناقشة عن الخلفيات التى كانت وراء التفكير فى مثل هذا المؤشر ، مما
تحرجنا ربما من ذكره فى حينه هنا فى صفحة الثقافة ، رغم أنه كان مكونا
أساسا لدى كتابة هذا الكلام الذى قرأته للتو . وكان ذلك إنطلاقا من فكرة
نمو أديان معينة لدى شعوب بعينها ، مما يربط الاثنان معا ‑قبول
المستقبل ونوع العقيدة‑ بالجذور الچيينية لتلك الشعوب كل على
حدة ] . [ بمرور الوقت وبعد 11 سپتمبر
ومن ثم احتلال العراق ، أصبح كلامنا يتخذ منحيا سياسيا أكثر ، وأسسنا
بالفعل نواة لمؤشر آخر عكسى أسميناه مؤشر النشاز Roguery Indicator . إلى هذا الحد ساءت الأمور ، وكله تأكيد لتوقعاتنا
المبكرة فى صفحة الثقافة هذه ( بالأسفل )
أن المحك الحقيقى فى قبول أو رفض المستقبل ‑ناهيك عن اختراعه‑ هو
البنية الچيينية للشعوب أو ما أسماه كيسينچر لاحقا
بالطبقات الچيولوچية للأمم ( اقتباس وضعناه أعلى صفحة العلمانية ) . كما توصلنا لأن
التحالفات لا يجب أن يعقدها معسكر الحضارة أبدا بناء على قوة هذا الحاكم المحلى
أو ذاك ، أو حتى بناء على اعتبارات المصلحة ، إنما فقط على المعايير
الچيينية للشعوب ، هذا كى تدوم وتأتى بنتائجها على المجرى الطويل .
فتلك وحدها التى تحدد مدى استعداد هذا الشعب أو ذاك للسعى للتغيير أم التمسك
بالمكون ’ التيمايوسى ‘ timaeus بالمصطلح
الأفلاطونى ، أى المكون الانفعالى غير العقلانى فيه . وهذه كلها
أكدتها شواهد انتكاسة تركيا
للإسلام رغم عقود التحديث الصارم الذى تبناه كمال أتاتورك وبضعة أجيال
بعده ، وهى مفاجأة أفدح بكثير بكل ما يمكن قوله مثلا عن الفشل شبه المتوقع لتجربة التحديث الماليزية
العابرة أو لأن پاكستان
من تحت أنف رمز حداثتها پيرڤيز مشرف راحت توزع سرا خبرتها التقنية النووية
على كل من يطلبها من المارقين من العرب والمسلمين ، كلها بما يثبت أن
المكون الثقافى‑الچيينى هو أقوى من أى شىء دنيوى عند تلك الشعوب عالية
المكون التيمايوسى . لكن ربما فى المقابل لا تكون الانتكاسة التركية
الدرامية أقل فدحا من انتكاسة روسيا
للشمولية اليسارية بعد أن تخيل الجميع إمكانة تحولها لليبرالية بعد سقوط
الشيوعية ، حيث اتضح أن مدى قبولها للمستقبل يمكن أن يتوقف عند بعض الحريات
الجنسية هنا أو هناك ، بما يتماشى مع أفضل الحالات التى ترتقى فيها
الچيينات الأرثوذوكسية لتقارب الچيينات الكاثوليكية ، لكن ليس أكثر من ذلك
أبدا . اقرأ أيضا عن هذه الهيراكية الچيينية فى صفحة العلمانية ] .
إذن ، الطبيعة الأنجلو‑يهودية للتقدم
هى مكمن الأس الثالث لإشكالية الثقافة العربية ، الذى يجعل وضعيتها أصعب
كثيرا من تلك الشعوب التى تعانى من التخلف أحادى الأس ، أو ثنائى
الأس ، إن جازت هذه الأوصاف الرياضياتية . ذلك أنها ‑أى الثقافة
العربية‑ نصبت لقرون تلك الفئة من البشر تحديدا كعدو تاريخى عقائديا
وأيديولوچيا لها ، وآخر ما تبغيه اليوم أن يقال لها إن هؤلاء هم
الصواب ، فما بالك أن تطالبها بإدارة المفتاح القلاب للثقافة نحوهم .
لكننا رغم كل شىء لا يجب أن يملى علينا الصدق الأخلاقى والعلمى سوى القول بأن لا
أمل ولا مكان لنا فى عالم الغد سريع التحرك هذا إن لم نفجر وبأسرع إيقاع ممكن كل
ما نسميه تراثا وقيما إلى آخره ، ونستقبل بلا تحفظات قيم ومنجزات التقدم
حتى لو كان ذلك التقدم هو ما أسميناه اصطلاحا الحضارة الأنجلو‑يهودية .
ويجب فى كل الأحوال أن لا ننسى أن كل ما ندعوه قيمنا وتراثنا الأصيل ، ليس
بالشىء المختلف كثيرا عن قيم وتراث الغرب قبل خمسة أو عشرة قرون فى عصر الحروب
الدينية وما قبلها ، وهو تأكيدا ليس بالشىء الجديد أو الغائب عنهم ،
بل أنهم عاشوه بالفعل ويرون فينا أنفسهم لكن فقط من خلال آلة زمن يودون أن لا
يركبونها ثانية أبدا . لا يجب أن تحدونا أية رحمة ونحن نحيل قيمنا وتراثنا
وثقافتنا إلى المتاحف وجمعيات حفظ التراث ، فليس بتلك القيم أو التراث شىء
جيد واحد لا يوجد بالفعل فى الحضارات الأحدث . علينا إذن أن نكف عن محاولات
التهجين الثقافى المستحيلة بيننا وبين ما يعجبنا فى هذا
’ الآخر ‘ ، وأبسط نتائج هذا ما نراه اليوم من نفاق دينى كاسح فى
أوساط الشباب والشابات بأن يرتدى ويقول شيئا ويفعل أشياء أخرى . إن علينا
أن نعلم أن دعوة التهجين هى أخبث فكرة ممكنة طالما أدت ببساطة وبلا مجهود يذكر
من أصحابها إلى تمييع عملية التغيير بل إجهاضها برمتها . وعلينا بإيجاز أن
نسارع لفصل الثقافة ( والتراث ) عن الدولة ( والحياة
اليومية ) ، ولنرحب ببساطة بكل ما نسميه حاليا غزوا ثقافيا ، فأن
نقبله بفهم ووعى بجدواه سيجعلنا نستفيد منه ، وقبوله قهرا لن يكون بالشىء
المفيد بالذات بعد فوات الأوان ، وإن كان فى كل الأحوال قادما لا
محالة . إن السؤال
ببساطة : إما تقدم أو لا تقدم !
القدرة حق ، أنت لا تجدها
على عتبة منزلك فى الصباح ، بل تكافح عقودا من العلم والتقنية
لاكتسابها . هى العدل الذى يعطى كل ذى حق حقه ، وقبل كل شىء هى قانون
الطبيعة الأسمى ، ومحاولة الالتفاف عليها تعنى تغليب الضعف والكسل
والتخلف . أيضا علاقات القوة ليست اختراعا
أميركيا أو إسرائيليا ، هى موجودة منذ فجر الكون ، منذ لحظة الانفجار
الكبير . هى موجودة فى القوى التى تربط المجرات معا كما فى القوى التى تسبب
ترابط مكونات الذرة . إن الكون
لا يحكمه سوى قانون أكثر قاعدية واحد منذ لحظة ما يسمى بالانفجار الكبير هو
قانون القوة ( أو للدقة هى أربعة أشكال من القوة
تلك التى تحكم كل الكون بدءا من المجرات حتى الجسيمات ) ، وقد ساعدنا
داروين على اكتشاف ذات القانون على الصعيد البيولوچى لكوكب الأرض ، لكننا
مع ذلك نملك من العواطف القديمة ما يعمينا عن هذا القانون ، ونفضل نعته
بقانون الأدغال ، أو نتحدث عن الكيل
بمكيالين ( ما يسمى عالميا المعايير المزدوجة Double Standards ) ، بيننا وبين من نعتبرهم أعداءنا . بينما
الحقيقة أنه يوجد ألف مكيال إذا كنا أمام ألف حالة ، أو بالأحرى لا يوجد
سوى مكيال واحد فى كل العالم هو مكيال القوة . ومن المثير للشفقة حقا أن
يتوقع الضعيف المتخلف ذات المعاملة كالقوى المتطور لدى تطبيق هذا المكيال .
منذ قديم الزمن اعتاد البشر اللجوء إلى الملاكمة لحسم أى صراع بين فردين
منهم . ويسمون الأسوأ هنا أن الپارانويا المتمثلة فى مقولة الكيل
بمكيالين المتواصلة ، أنها مجرد تظاهرة أخرى لپارانويا التمحور حول الذات
المركبة لدينا ( الأم عندنا تقول لطفلها كل صباح وهو ذاهب للمدرسة فى
الصباح ’ اوعى تضيع حقك ‘ ’ اوعى حد يضحك عليك ‘
’ اضرب إللى يقرب منك ‘ ، لكنها لا تقول له أبدا ’ واجبك
كذا ‘ ’ لا تأخذ دون أن تعطى ‘ ’ كن مهذبا مع الجميع الأفضل
منك والأقل ‘ ! ) . تلك مقولة الكيل بمكيالين هى أيضا مجرد
تظاهرة أخرى لعاطفيتنا فى الحكم على الأمور ، والتى هى المقوم الأساس
لفشلنا الحضارى ، كما سبق وذكرنا ، بينما لأن الغرب يحكم بصرامة باردة
بمكيال واحد هو القوة ، لذا هو موضوعى وعادل …إلخ . نكتفى هنا بواحد
من الأمثلة البسيطة على هذا ، هو الطريقة التى نتحدث بها عن
’ المذابح ‘ الإسرائيلية . دائما ما ننسى المقدمات التى أجبرتها
عليها ، وننسى عشرات التحذيرات التى وجهت لنا ، وطبعا قبل وبعد كل شىء
ننسى قوانين القوة وحقائقها القائمة على الأرض . تأمل مثلا واقعة قريبة من
هذا ما يسمى مذبحة صابرا
وشاتيلا ، لم يكن لإسرائيل دخل مباشر بها ،
إنما الكتائبيون اللبنانيون . نتذكر الحادث ونملأ الدنيا دنيا صياحا ونحيبا
حوله ، وننسى سيناريو الأيام السابقة عليه . ذلك كان أقل ما يمكن أن
تفعله عندما يحتل شعب آخر سريع التوالد لبلادك . وتتحالف منظمته المسلحة مع
المسلحين من أبناء بلدك من ذات دينهم ممن كانوا أقلية فقيرة تافهة لكنهم سريعو
التوالد أيضا . ويتحالف الاثنان مع دولة توسعية مجاورة من ذات دينهم متخلفة
اقتصاديا ونهمة لالتهام ما بنيته من رخاء ونجاح فى بلدك . ماذا تفعل عندما
يفضى كل هذا فى لحظة إلى أن ترى رئيس جمهوريتك المنتخب [ تحديث : مثال آخر على كوننا نحن
لا العالم ، هو الذى يكيل بمكيالين ، الضجة الهائلة التى ملأت سوريا
بها العالم طيلة سنة 2001 عن عضو الكنيسيت عزمى بشارة الذى تحاكمه إسرائيل بتهمة
الاتصال مع سوريا . لم يسأل أحد نفسه قط ، ماذا كان سيفعل بشار الأسد
لو ذهب عضو برلمان من عنده ليزور إسرائيل ، لا حتى ليحرض على الحرب ضد بلده
الذى يحمل جنسيته كما فعل عزمى بشارة ، إنما فقط ليدعو للسلام .
المؤكد أن هذا الشخص لم يكن ليرى نور صباح اليوم التالى . أيضا لم يسأل أحد
عزمى بشارة نفسه الذى يضع هذه الخيانة كمحك للديموقراطية فى إسرائيل : ألم
يسمع عن شىء اسمه الخيانة العظمى فى البلاد التى يدافع عنها وأن عقوبتها هى
الموت ، وأنها تطبق لأشياء أهون بكثير مما يفعل هو ؟ العالم يكيل
بمكيال واحد هو مكيال القدرة ، وحين نقول القدرة أو القوة فنقصد الحداثة
والتقنية والثروة والعلمانية وأشياء كثيرة هى التى تأتيك بتلك القدرة
والقوة . وما يهمنا قوله ثانية هنا إن المشكلة فى الكلام الكثير عن الكيل
بمكيالين أنه مؤشر للپارانويا وللضعف والهزيمة ، أكثر منه يؤشر أو يؤسس لأى
حق ] . [ تحديث آخر : 3 أپريل
2002 : مظاهر لا حصر لها للكيل بمكيالين فى السلوك العربى خلال الحرب ضد
الانتفاضة . التفاصيل هنا فى صفحة الإبادة ] . …
إن هذه الصفحة التى
تقتبس كلاما كثيرا فى صدرها من طه حسين وزكى نجيب محمود ونجيب محفوظ ( كما
ستتحدث كثيرا بالضرورة عن الخديوى إسماعيل ) ، إنما تفعل ذلك عامة
لتقديرها للشق التنويرى الانفتاحى العام الذى ناضلوا من أجله ، وليس
بالضرورة تبنيا لمواقفهم السياسية . منها مثلا كون التعليم كالماء والهواء
حقا لكل من يولد أيا كانت ظروف هذه الولادة ! الواقع أننا نرى الأمر أعمق بعدا من مجرد ميول تنويرية إنسانية لبعض
الأفراد . إن مصر فى ذروة جبروتها الفرعونى نكصت عن إفعال قوانين القوة فلم
تحتل أحدا قط ، وهذا لم يحدث قط إلا أيام حكم الألبانى محمد على باشا
لها ، ونفذه ‑وليس هذا بمستغرب بعد كل ذلك التاريخ المصرى المستفز
لأى أحد‑ بقدر غير قليل من التهور ! للأسف حتى لحظة كتابة هذا ،
لا يزال الساسة المصريون يجلبون لنا سخرية العالم حين يتحدثون عن دور مصر
الستراتيچى بينما الكل يعلم أن مصر صفر تاريخى كبير ، فجوة ستراتيچية
يتوالى عليها المحتلون لا أكثر ( المغتصبون لو كنت تفضل المدلول الجنسى
لكلمة فجوة . ولا نريد أن نذهب أبعد من هذا ونذكرك بكيف اعتاد عموم
المصريين تمثل خريطة النيل امرأة ترفع ساقيها لأعلى ، وأنهم اختاروا وضع
العاصمة فى المكان الأكثر إغراء للقادمين . هذه الصورة الإدراكية الرمزية
بالغة الذيوع ، التى لم نخترعها نحن ولم يخترعها أى أحد محدد ، إنما
فقط ترسخت لقرون فى الوجدان الفلكلورى للمصريين تترجم بجلاء تصورهم
الإداركى لأنفسهم ولبلدهم ولتاريخهم كمجرد خنوع خالص لا أكثر . أقصى ما فى
الأمر أن يقولوا لك إن مصر ، الفجوة ، قد ابتلعت أو استوعبت كل الغزاة
وطبعتهم بطبعها ، وتأكيدا ما هذه إلا بأكذوبة لحفظ ماء الوجه ولمداراة
تاريخ كامل من استمراء الهزيمة والاستعباد ! ) . عامة وبالذات الآن
أنت لا تستطيع أن تلعب دورا إقليميا أو غير إقليمى دون أن تنتج تقنية .
وباستثناء براعتنا فى تحنيط الجثث وبناء المقابر لها ، ذلك ما لم نفعله
أبدا . الطبيعى بعد ذلك أن المرة الوحيدة التى لعبت فيها
مصر دورا إقليميا بالفعل كان دور زعيمة قطاع الطرق فى المنطقة وكل العالم .
وهذا الذى حدث بعد 1952 كان بالتحديد قطع طريق فى ذات الوقت على إرهاصات وليدة
لنهضة اقتصادية ومن ثم دور إقليمى إيجابى تنويرى وحقيقى ، هو الإشعاع
الثقافى لتجربة الليبرالية المصرية ، الذى نشر الحداثة والفنون المصرية
لدرجة أن كاد يجعل العامية المصرية لغة لكل العرب ، لكنها التجربة التى
وأدها هؤلاء أنفسهم بالشعارات السوداوية لما أسموه بثورتى 1919 و1952 .
والحقيقة الأبعد والواضحة تماما أن تجربة الليبرالية المصرية برمتها لم تكن
لتوجد أبدا لولا احتلال الإنجليز لمصر ، فكانت ‑وهذا مما لا يقلل من
شأنها بالمرة‑ مجرد المرآة التى تعكس حضارة المستعمر ونور
الاستعمار . مع ذلك نقول إن
ربما يوجد بالفعل ما يبرر لدى ساستنا الحاليين توهمهم بأن لمصر دورا
إقليميا . فمصر تقوم بتوصيل خمس أو ست رسائل سنويا من أميركا لخصومها فى
المنطقة ، مقابل أجر قدره 3 بلايين دولار . أما مجموعة الرسائل التى
وجهت لصدام حسين قبيل حرب تحرير الكويت ، فهى مهمة خاصة خارج نطاق المرتب
السنوى الثابت ، وحصلت فى مقابلها على إلغاء ديون بأربعين بليون
دولار . المؤكد شيئان : أن مصر المعاصرة هى أغلى بوسطجى فى
التاريخ ، وأن أميركا طيبة القلب وفيرة الموارد راضية جدا عن
خدماتها !
إن التاريخ
الثقافى والفكرى وحتى السياسى ، المصرى ‑وربما أيضا العربى كله‑
هو تاريخ يتراوح ما بين اليسار المتطرف واليسار المتطرف جدا ، ونادرا ما بزغت فيه فكرة القوة ناهيك عن فكرة القوة المستنيرة
التطورية أو مفهوم الانتخاب الطبيعى ، وذاكرتى تحاول هنا تمثل مسيرة أناس
بالغى البأس مثل رمسيس الثانى ومحمد على . أليست مهزلة تثير الشفقة أن ينظر
فى مصر لحزب الوفد الجمهورى الدهمائى صاحب هوجة 1919 على أنه حزب ’ اليمين ‘
و’ الليبرالية ‘ ؟ ( وأتحداك أن تأتى فى أية قضية ،
حتى لو كانت الخصخصة نفسها ، باختلاف واضح ، جذرى أو حتى ثانوى ،
بين مواقف جريدته وبين مواقف جريدة حزب التجمع اليسارى ! ) . المؤكد فى
عالمنا العربى ‑مثله تقريبا مثل معظم العالم الثالث البائس‑ أنه لا يوجد
شىء على يمين الحكومات [ التى أصبحت قناة الجعيرة تسميها لاحقا
’ النظم ‘ ] ، تلك التى تحاول ‑رغما
عنها على الأرجح‑ تبنى قدر ما من أچندة التحديث والانفتاح على العالم
ومنافساته الإجبارية الشرسة . والمعارضة ‑كل المعارضة ، وهنا
تأتى المقارنة الشهيرة بين من يده فى النار ومن يده فى الماء ، أو من يتكلم
’ من وسع ‘‑ معارضة يسارية تتمسح بالشعب ( حتى ‑وهى
مفارقة‑ لو كانت باسم الدين الذى يصنف تقليديا ‑وإن دون أى سند
موضوعى فى الحقيقة‑ كيمين ) ، ومن ثم لا يعنيها سوى تحجيم ذلك
التحديث لأدنى درجة ممكنة ، باعتباره رجسا من عمل الشيطان ، الذى هو
عادة الخارج المسمى الغرب أو القدرة العظمى أو الغزو أو الإملاءات أو التبعية
…إلى آخر هذا القاموس ! سياسيا هناك شعوب يمينها نفسه
يسار ، كالشعب الفرنسى الذى يكاد يصعب تخيل أن ينصلح حاله يوما ،
وهناك شعوب مهما تغلغلت فيها الشيوعية وأفكار المساواة تعود يمينية دارونية أقوى
مما كانت مثل ألمانيا وإيطاليا وربما روسيا . إنها ككل شىء آخر فى الدنيا
أمور ترجع للبنية التحتية الچيينية .
والسؤال الذى يطرح نفسه ويحتاج
لوقفة ما فى هذا السياق : إذا كنا نعيش فى محيط يسارى متغلغل هكذا حتى
الچيينات منا ، فماذا عن نموذج مثل نجيب محفوظ ذو الولاء للتحديث والعلم
بما لا يحتمل التفاوض . هل يحتمل اليسارية كما يشاع دوما ، أم هو
’ الليبرالى الذى لا يرحم ‘ حسب وصفنا الشخصى الأثير والدائم له ؟ بالطبع لا يمكن القبول باختطاف
غوغاء اليسار والناصرية لاسمه فى صفوفهم لعقود طويلة زورا وعلى نحو غبى ومضحك
معا . هؤلاء لم يلحظوا مثلا أن ’ بداية ونهاية ‘ كانت العمل
الأدبى والسينمائى الوحيد أثناء حقبة ثورة يوليو ، بل وبالضبط المدهش فى
أوج عنفوانها ، الذى هجا الضباط ، وتحديدا عندما يأتون من الطبقات
الدنيا . يتعامون عن هذا ، وكأنه لم يكن يتحدث عن ناصر وعامر وكل طغمة
يوليو ( دع جانبا ما هو أكثر مباشرة وفى رأيى أقل ضربا فى الصميم ،
مثل ’ ميرامار ‘ و’ ثرثرة … ‘ …إلخ ) . وبعد
ذهاب عبد الناصر ومجئ السادات أصبح هجاء نجيب محفوظ للثورة أكثر علنية ووضوحا
( الكرنك ) ، بل وتبرأ هو منهم بصراحة لعلها تنشز عن كل أدبه
الجم التقليدى . مع ذلك لم يوجد قط من يمكن أن يراجع فكرة نجيب محفوظ
اليسارى الدارجة . لا أتخيل مثلا كيف يجدونها متسقة مع قصص الفتوات التى تعتبر أحد أعظم التجسيدات فى كل
التاريخ الأدبى لمفهوم القدرة حق ، بأرقى معنى
ممكن لكلمتى قدرة وحق . ربما أغوت سذاجتهم وسطحيتهم كلمة
’ الحرافيش ‘ دونما أدنى تأمل للمحتوى الذى يقال ، والذى يجهض
فكرة الاشتراكية من جذورها ! الحقيقة أن حتى فيما يتعلق ببعض المواقف
والآراء المثيرة للبس مثل رثائه الإجبارى لعبد الناصر بأمر من محمد حسنين
هيكل ، يقول جمال الغيطانى فى تصريح متكرر جدا له أنا شخصيا واجهت معركة موسعة فى
المنتديات السينمائية ، عندما كتبت فى كتاب ’ دليل أفلام الڤيديو ‘ 1987 أمتدح
نسخة حسن الإمام من ثلاثية القاهرة . نظر لى الجميع كغر طيب ، كان أول
من تسامح فى التاريخ مع جريمة سينمائية كبرى ارتكبت فى حق المناضل اليسارى
العظيم نجيب محفوظ . هذا إلى أن مال على الكاتب السينمائى أحمد عبد الله
وكان صديقا لحسن الإمام ليهمس فى أذنى : هل تعلم ماذا يضع حسن الإمام تحت
زجاج مكتبه ، إنه يضع ورقة بخط يد نجيب محفوظ تقول إنه لم يكن ليحلم بظهور
الثلاثية بمثل هذا المستوى الرائع أبدا ! ( لاحظ السنة !
1987 ، فهى حديثة جدا من ناحية ، وفعلا حتى ذلك الوقت كانت مثل تلك الآراء
تثير الجدل الشديد . إلا أنها فى ذات الوقت السنة السابقة مباشرة على فوزه
بنوبل التى هاج وماج ضدها مثقفو اليسار بقيادة الحنجورى الكبير يوسف
إدريس ، والتى لم تطل لحسن الحظ لأنه مات من فوره كمدا بسبب تلك
الجائزة ) . السؤال هل نجيب محفوظ يمينى كبير أم مجرد شخص مهذب ،
كما بدأت تجرى الآن النظرية البديلة لنظرية نجيب محفوظ اليسارى . أحيانا يقال عنه
إنه كان وطنيا متحمسا ، لكن ما يجب أن نعرفه عنه أنه استقى كل ما فى عقله
من قراءة الأجانب . أحيانا يقال عنه إنه كان وفديا ، والحقيقة أنه آخر
من يعتقد أنه ينحاز لسعد زغلول ضد عدلى يكن مثلا ، أو لا يقرأون أعماله
التى تجعل من ’ زعيم الأمة ‘ و’ ثورة 1919 ‘ مرادفات ثابتة
لكلمتى وجدان وانفعال ، ويربطها دوما بفورة الشباب عنده . أو لعله
بالأحرى يقصد الطفولة ، فهذه لم تكن أكثر من انفعالات طفل كان فى الثامنة
من عمره عندما ملأ دهماء 1919 الشوارع باستعراضهم المثير الصاخب . أيضا لا
تفوتك ملاحظة قدر الارتباك والتشويش الذهنى الذى يمكن أن يسببه حدث كهذا لأغلب
مثقفى تلك الفترة . فالليبرالية والتحديث ، كما نظرت لها كتابات أحمد
لطفى السيد مثلا ( ’ الجريدة ‘ 06-1914 ) ، أو كتاب طلعت
حرب من العام 1910 ’ علاج مصر الاقتصادى ‘ ، وتبناها سياسيون من
أمثال حسين رشدى وعدلى يكن وعبد الخالق ثروت ، وبالطبع اقتصاديون من أمثال
طلعت حرب نفسه ، كانت شىء من صميم مهام واختصاص الطبقات الراقية والثرية من
أعيان أراضى وأرباب صناعة وتجارة ، الكبار منهم تحديدا ، وإن لم
يكونوا موجودين فقد دعت لإيجادهم . لكن الشىء الذى لم يخطر ببال أحد قط أن
يلجأ شخص ما لإقحام الشعب الجاهل فى الأمر ، على الأقل فى مرحلة مبكرة جدا
كتلك لم يكن لديه فيها أدنى قدر من التعليم أو النضج . هذا ما فعله المحامى
الانتهازى الأزهرى سعد زغلول حين خان عهد الوفد الذى اختير عضوا فيه أو ناطقا
باسمه أو أيا ما كان ، فإذا به يطالب فجأة بالاستقلال فى كل لحظة يتحين له
فيها ابتزاز زملاءه بشتى الطرق ، بدءا من اقتحام اجتماعات الجمعيات العلمية
القانونية بالقاهرة حتى تصريحات مطار لندن . وبالأخص يوم أشعل تحريضه
الممنهج وشبه السرى فى 9 مارس 1919 ’ الكارعة ‘ ( هكذا كان
ينطقها ) التى طالما خطط لها . هذه كانت بالضبط اللحظة التى أجهضت
فيها تجربة الليبرالية والتحديث المصرية وهى تقريبا بعد فى مهدها . ربما
تسمع اليوم كلاما كثيرا عن أن فترة ما بين 1919 و1952 كانت فترة ذهبية للحرية
والحراك السياسيين ، الصحافة كانت حرة ، الأحزاب كانت حرة ،
الانتخابات كانت حرة ، الجماهير والحياة السياسية كانت تتمتع بالحيوية
والنشاط وتملأ الشوارع والمدارس بالمظاهرات كل الأيام . هذا صحيح لكنه
هراء ، والسبب أن أحدا لم يسأل سؤال المحتوى . ليس المهم أن تكتب أو
تنتخب أو تتظاهر ، إنما بماذا تحديدا كانت تطالب تلك الصحف والأحزاب
والجماهير ’ شديدة الحيوية ‘ التى أخرجتها 1919 من القمقم .
الإجابة أنها كانت تطالب بطرد الإنجليز وبسلب الأغنياء ثرواتهم إلى آخر أچندة
الكراهية المعهودة ، أو بكلمة كانت تطالب بـ 1952 . هذا ببساطة هو ما
جناه السيد زعيم الأمة على أجنة الليبرالية الحقة هذه التى ولدت على يد محمد على
ووصلت ذروة ازدهارها فى العقد الثانى من القرن ، لكن قطعا ليس بعد ذلك بيوم
واحد ! فى نهاية رواية
محفوظ ’ ميرامار ‘ سنة 1967 ، قال الإقطاعى السابق إن الحل
الوحيد هو أن تحكم مصر حكما يمينيا بواسطة أميركا مباشرة . صحيح من يطرح
هذا هو الشخص الأكثر يأسا وتعرضا لبطش الثورة فى الرواية ، لكن إنهاء
الرواية بمثل تلك الجملة يشبه إلقاء قنبلة نووية لم تنفجر بين يدى القارئ ،
أو بالأحرى داخل مخه ، الذى لم يتخيل قط أن يأتى خاطر كهذا أصلا فى ذهن أى
أحد كما مر فى ذهن نجيب محفوظ . قنبلة تتركه يردد نفس كلمة قائلها :
ما المانع ؟ على الأقل هذا هو الخيار الوحيد الذى ترك بلا نقد ، بينما
جزم محفوظ بأن جميع الخيارات الثلاث الأخرى ، الناصرية والشيوعية
والإسلام ، هى الجحيم عينه ، لم تنتشل الشعب من فقره وتخلفه بل
فاقمته . فقط لاحظ أننا فى أوائل سنة 1967 ، وهذه الدعابة ذات الوزن
الثقيل جدا من نجيب محفوظ ، لا تتنبأ فقط بما سيحدث فى يونيو منه ،
إنما ربما تتنبأ بنصف قرن أو قرن كامل تال ، سيعود العالم فيه حتما للنظام
الإمپراطورى من جديد ، لا سيما بعد تفشى هول كارثة حكم العالم الثالث لنفسه
للعيان يوما بعد يوم ! [ على نحو أكثر تحديدا اقترحنا يوم 28 مايو
2004 فى صفحة الإبادة أن
إياد علاوى الذى تولى فى ذاك اليوم حكم العراق تحت إمرة القوات الأميركية هو أول
تجسد لحلم مفكرنا العظيم على أرض الواقع ! ] . نعم ، ليس
لدينا شك أن نجيب محفوظ قصد ذلك التأثير تحديدا . على أنه رغم كل
شىء ، لا يمكن لأحد أن يعتبره ببساطة منظرا سياسيا لليمين ، والسبب فى
هذا بسيط ، وهو أنه لا توجد حركة يمينية أصلا . افتراض أن الوفد هو اليمين ليس إلا هراء ما بعده هراء . فالوفد
هو مؤجج الثورة البلشڤية المصرية سنة 1919 ( إن لم نقل من المعطيات
السابقة أنها كانت ثورة إسلامية سلفية بشعارات پلشڤية ، بالذات
بملاحظة خلفية مدبرها ودور الأزهرى والمشايخ المباشر فى تأجيجها عبر كل
مصر ) ، والتى كانت صراعا نمطيا حاسما فى التاريخ المصرى قضى على
النواة الأخيرة المحتملة لليبرالية والتقدم ، وجعلت الدهماء الورقة العليا
فى سياسة البلاد ، يتهافت الساسة الفاسدون على الاستحواذ عليها قبل أى شىء
آخر . هذا التحليل ليس من عندنا ، إنما هو فى صميم الرواية المذكورة نفسها ،
على لسان الراوى الخارجى المحايد الصحفى عامر وجدى ، بل لعله أكثر شخص
تشترك نسبة كبيرة من ملامح مسيرته السياسية والفكرية مع المؤلف نفسه فى جميع
رواياته ، أو ربما كل شىء باستثناء جرعة التصوف الزائدة ( حتى هذه رغم
عدم التطابق بالطبع مع نجيب محفوظ نفسه ، تبدو منسجمة مع ميل نجيب محفوظ
الدائم ‑بالذات بعد أولاد حارتنا‑
للإيحاء بعدم الحسم الدينى عنده ) . وعامة محفوظ لم يتردد أبدا فى
التناول التهكمى لهوجة سعد ‑أو هوجة عرابى الجزء الثانى ، سواء فى
ثلاثيته الشهيرة أو فى غيرها كثير . ذلك التهكم الذى يمكن فهمه على أنه نوع
من الندم عن حماسة طفولته وشبابه نحو الوفد وسعد زغلول ، والتى أزعم أنها
ظلت تؤنبه طيلة عمره وأراد التكفير عنها بينه وبين نفسه بكل الوسائل ،
تماما كما عامر وجدى بعد تنويره الفجائى ‑وربما المتأخر نسبيا‑ لمدى
انتهازية الوفد فى 4 فبراير 1942 . ما ترتكن إليه
قناعتنا الشخصية ، أن نجيب محفوظ فى الحقيقة أرقى حتى من أن يكون يمينيا
بالمعنى التقليدى عالميا للكلمة . مبدئيا هو ذلك المزيج المفقود للإيمان
بكلا من الليبرالية الاجتماعية والليبرالية الاقتصادية . دافعت رواياته عن
العاهرات ، قدر فرحته بزوال الحكم الناصرى وتأييده لجوهر التحول الاقتصادى
الليبرالى التالى ، وإن انتقد بالطبع كأى مفكر ناضج كيفية تطبيقه على
الطريقة المصرية ( الفاسدة واليسارية بطبعها وفى جوهرها ) . أيد
السلام مع إسرائيل ، لكنه لم يلجأ أبدا للخطاب اليسارى الساذج عن الحب والتآخى ،
إنما رأى فيه معركة دارونية من الطراز الأول ، سيقف فيها إلى جانب المنتصر
أيا من كان ، وأشهرها كلمته للمثقفين الوجلين من السلام
’ موتوا ! ‘ . على أن الأهم من هذا وذاك فى تمثلنا
له ، هو اعتقادنا أنه يريد لنفسه أن يكون مفكرا بعد‑إنسانى
أرقى من كل الولاءات السياسية ، ومن كل البشر وصراعاتهم ، فهذا ما
تشتغل عليه فى الواقع كل رواياته التى لا تفعل أكثر من أن تسخر منهم
جميعا . أنا شخصيا أتمثل دماثته الزائدة ( التى يختطفه بسببها الجميع
لمعسكره ) ، أتمثلها نوعا من ذلك الترفع القاسى على الجميع .
فتواضع المفكر الحقيقى هو تواضع العالم بين وبين نفسه لمعرفته بحدود العلم
البعيدة ، ذلك بغض النظر إذا ما اختار المظهر المتواضع فى تعامله مع
الناس ، أو تغطرس عليهم . وكلا الحالتين وارد ولا يمس التواضع الداخلى
الذى هو سمة تلقائية يفرضها العلم والبحث عن الحقيقة . المهم ، أنه
سواء صح تصنيف نجيب محفوظ كأيديولوچى سياسى يمينى ملتزم من خلال تصريحاته
ومواقفه وهى ليست قليلة ، أو كمجرد فيلسوف مراقب يمينى أرقى من الالتزام
المباشر من خلال كتاباته الأدبية الرفيعة المحايدة ظاهريا ، فسيظل فى كل
الأحوال استثناءا فريدا بالكامل من نوعه فى بحر الثقافة العربية العطن ، لا
ينفى القاعدة التى نحاول إثباتها هنا ، من أنها ثقافة يسارية للغاية
قاعديا . [ لاحقا هدد اتحاد الكتاب
المصرى بفصله ، بسبب موقفه من إسرائيل . ولا ندرى من كان سيشطب من
الوجود ويذهب لمزبلة التاريخ ساعتها نجيب محفوظ أم اتحاد الكتاب عديم الجدوى
أصلا . بالعودة لدعابة ميرامار المذكورة عن حكم أميركا لمصر ، التى
تقزم فى الواقع أية دعابة أخرى ، نقول إن هذه الدعابة الأخرى التى جاءت بعد
دعابة ميرامار بخمس سنوات ، لم تمر مثلها بسهولة بل أقامت الدنيا
وأقعدتها . بعد سنوات طويلة منها ( وتحديدا من خلال كتاب غالى شكرى
’ نجيب محفوظ —من الجمالية إلى نوبل ‘ 1988 ) ، فجر نجيب
محفوظ مفاجأة كبيرة حين قال إنه كان أول من طرح فكرة السلام مع إسرائيل .
كان ذلك فى سنة 1972 وخلال لقاء لكتاب الأهرام مع معمر القذافى . قال
’ إذا لم تكن لدينا القدرة على
الحرب فلنتفاوض ونصطلح ، وننهى هذه المسألة التى لا تحتمل حالة اللا سلم
واللا حرب لفترة أطول . وقد أيدنى حسين فوزى وتوفيق الحكيم . وكان
كلامى مفاجئا ، فلم يكن يخطر ببال أحد التفكير ، مجرد التفكير ،
فى هذا الحل ، ذلك أننا كنا نعيش فى عصر لاءات الخرطوم الشهيرة ‘ ( يقصد لا صلح لا اعتراف لا تفاوض فى القمة العربية للمزيد عن محفوظ ككل اقرأ التحقيق
الجميل للنيو
يورك تايمز معه فى سپتمبر 2002 . فى هذا التحقيق ممتع الأسلوب والمحتوى
معا ، نأمل أن لا يفسد استمتاعك بحكمة الفيلسوف العظيم رأى إنسانى عابر عن
الفلسطينيين الانتحاريين ، من الواضح أنه بنى على معلومات منقوصة ،
سببها كما هو معروف وعلى الطريقة المصرية الفهلوية جدا ، محاولات الاحتواء
والسيطرة التى يقوم بها عليه التيار الذى يجاهر بعدائه للساموية بأشد معانى
الكلمة بداءة وتخلفا ، بينما هو وحده الذى لا تزال تجرى فى دمائه لعنة
الساموية واليهود الذين يهاجمهم قد برأوا منها من قرون . من هذا مثلا إحاطة
أمثال الكاتب محمد سلماوى وغيره بنجيب محفوظ الذى لم يعد يقرأ أو يشاهد بنفسه للأسباب الصحية
المعروفة ، وطبعا لرحيل معظم شلته الأصلية . ربما تدهش وأنت تقرأ ما
يكتب سلماوى هذا ، كيف يمكن أن تربطه بنجيب محفوظ علاقة أخرى غير طعنه
بسكين فى رقبته ، لكن كما تعلم جيل الهزيمة ( واسم الدلع
النكسة ! ) ، هذا لا ينتحر ولا ينسحب ولا ييأس أبدا . وإذا
كان الطعن فى الرقبة قد فشل ، فلا بأس من تجربة الطعن فى الظهر ! يكفى
أن تعلم أن سلماوى هذا ، وكان بعد موظف الأهرام الشاب الذى توسم فيه نجيب
محفوظ أن يقرأ كلمته أمام احتفالية نوبل بإنجليزية مقبولة لا أكثر ، كاد أن
يحدث كارثة بپارانويته مفرطة المرضية تجاه اليهود باختصار : ما قاله نجيب محفوظ عن التحديث وعن الحضارة
الغربية بما فيها إسرائيل ، كثير ولا يحتمل التأويل ، وهذا يرضينا
ويكفينا حتى آخر الزمان .
باختصار أيضا : كلنا يعلم أن المصريين ليسوا عربا ، وأنهم
أفارقة بالعرق ، لكن مورست عليهم عملية إلحاق وتعريب قسرية طيلة 1400
سنة ، وربما نجعل محور دراستنا التالية استكشاف حقيقة موقع مصر الفعلى
حاليا بين المصرية والعروبة ، وما هى المحددات السلوكية لهذين العرقين إذا
كان التمييز بينهما ممكنا . … مبدئيا ،
قد استجلب خبرتى الشخصية حيث كنت أشتغل فى أحد مصانع القطاع العمومى الكبيرة يوم
أعلنت اتفاقية كامپ ديفيد ، وذهلت بالفرحة الهائلة لدى الكل ، من حارب
ومن يحلم بإلغاء التجنيد الإجبارى . من هذه الخبرة قد أقول إن هوية مصر
وميلها الحضارى لا تزال حية ومتميزة ، وأعتقد أن أحد محدداتها السهلة والواضحة
( ربما انتظار ليوم يأتينا فيه خبراء الچيينات بالقول الفصل ) هو
الموقف من إسرائيل . هذا الأمر أثار فضولى ‑وربما حيرتى وتساؤلاتى‑
منذ يوم رأينا الملايين تخرج لاستقبال نيكسون أضعاف من خرجوا لوداع عبد الناصر
( وكأنه نوع آخر من قلاب ‘ أهلا بالمنتصرين ’ الياپانى يوم
هزمتهم أميركا ) . العرب خارج مصر زائد ذوو الأصول العربية داخل مصر
( شديدو السلفية والولع بثقافة العرب وبكتب الإسلام وتراهم مرتاحين كثيرا
لزيارة دول الخليج والتفاعل مع أهلها ) ، هؤلاء وأولئك لديهم عداء
لليهود أصيل يجرى فى الدم ، ولا يمكن أن يختفى فى غمضة عين كما رأيت فى
شغيلة ذلك المصنع ! … مبدئيا
أيضا ، أنا أطبق هذا منذ سنوات طويلة على معارفى من المثقفين : موقفهم
من إسرائيل هو خط أحمر بالنسبة لى يميز ما بين الحداثى الحقيقى ، وما بين
‘ العربى ’ أو أيا ما كانت الصفة السلبية التى سأستقر عليها ! … اقرأ أيضا : ما سمى
بثورة يوليو 1952 ، ومنه بالضرورة المزيد عن موقف نجيب محفوظ منها ،
كان مادة لمدخل موسع بمناسبة مرور 50
عاما على هذه الكارثة العظمى . … كذلك تابع بتوسع كبير
المزيد عن السيكيولوچية المصرية ، لا سيما علاقتها بالفيضان والاتكال
والچيينات والفهلوة ، فى صفحة الحضارة .
والطريف ‑وهى مصادفة غير مقصودة ، لكن غير خالية من الدلالة‑
أن المدخل الذى ورد به هذا كان عن فائز آخر بنوبل للآداب مثله مثل محفوظ ،
وأيضا علمانى ويمينى للغاية مثله ، لكن مع فارق أنه غير متواضع وغير مهذب
بالمرة ، ألا وهو بالطبع ڤى . إس . نايپول ! … أيضا ثم معالجة لاحقة أخرى
فى صفحة الثقافة هذه ،
لمستقبل مصر ذات هذه الشخصية المستعصية على الإصلاح ، بمناسبة تلويح أميركا
باحتلال العراق وتنصيب حاكم عسكرى له على غرار الچنرال ماكآرثر ، وهو أسلوب
الحكم الذى قد يمتد ليفرض نفسه منطقيا على كل شعوب المنطقة الفاشلة
اقتصاديا . … بعد فترة لاحقة أخرى
وبإعادة احتلال العراق ،
لم تعد بعد سطور ميرامار الأخيرة مجرد دعابة ! … أخيرا ، انتظر هنا
تحديثات أخرى وأخرى حول نجيب محفوظ نبع الليبرالية ( الحقيقية ، أو
سمها اليمنية لو شئت ) ، الذى لا ينضب ] . …
إن لكل شعب أسطورته كما
يقولون . وبينما أساطير اليونان تتمحور حول بشر يتحدون الآلهة
ويقهرونها ، وأساطير ألمانيا تتحدث عن بطولات سيجفرييد الملحمية ،
وأسطورة أميركا كل ملاكم يطرح خصمه أرضا وكل لاعب بيسبول يقذف الكرة لمسافة أبعد
( طبقا لمقدمة برنامج عن رموز ومشاهير أميركا أو ربما عن القصص القصيرة
الأميركية ، من أسف لا أذكر اسمه وأذكر فقط هذه المقدمة وأنى كنت أسمعه
أسبوعيا فى طفولتى فى إذاعة صوت
أميركا العربية ) ، فإن أيزيس وأوزوريس أسطورة انسحاقية
بالكامل . وهى حية بعد ليس فقط فى طقوس الحزن المرعبة فى صعيد مصر ،
بل فى كل أركان الحياة اليومية لكل المصريين ، ناهيك بالطبع عن حياتهم
الثقافية والسياسية . خذ مثالا من الأحداث الكبرى ما يخص استجابة شعبنا
المصرى لهزيمة يونيو . بعد أيام من صراخه الهادر بعودة جمال عبد
الناصر ، راح يطلق النكت الساخرة من نفسه كشعب ( ‑أحا أحا لا
تتنحى ! ‑أحى أحى واتنحى ليه ؟ عفوا للبذاءة لكنها كانت أشهر من
أن يخجل منها أحد ، وأكثر دلالة من أن نتغاضى عنها ! ) ، ثم
بعد قليل نسى الموضوع برمته . أهم ما فى الأمر أن يظل السؤال معلقا
للأبد : أيهما كان على حق خطب عبد الناصر فى صوت العرب أم حكاوى عم حمدان
فى صوت إسرائيل .
إذن ، الانفعال المفرط -
السخرية من الموضوع - نسيان كل شىء ، هى الاستجابة الانسحاقية مثلثة
الأضلاع الدائمة من الشعب المصرى لكل الكوارث ، بدءا من الهزائم العسكرية
مرورا بالزلازل حتى سقوط طفل اسمه سيد فى بالوعة مفتوحة واختفاؤه للأبد . والهدف الوحيد لها هو فقط أن يتفادى التعلم من أخطائه . هذا
أحد نتائج الفهلوة الكامنة فيه حتى النخاع ، يريد المضى فى الحياة دون
تشغيل عقله على وجه الإطلاق ، ( من الطريف أو ذو الدلالة أنك لو بحثت
فى وكما أن ثم كسل للأبدان فرضته
دورة الفيضان ، ثم كسل للعقول فرضته دورة الفيضان وكسل الأبدان معا .
كسل لا يختلف بالمرة عن كسل انتظار الفيضان وانتظار رحيله ، إذ كما أن
الشغل البدنى يؤلم العضلات غير المجبولة چيينيا عليه فتشغيل العقل يؤلم بالمثل
الدماغ غير المجبولة چيينيا عليه . وليس غريبا قط بعد ذلك أن يظهر ما سمى
بالتوحيد فى مثل هذه التربة ، حيث إله كلى القدرة يملك جميع المصائر ،
يعطى الأمان العقلى والنفسى من كل نواكب الزمن ، ومن ثم يمنح إحساسا عظيما
بالاتكالية والاستلقاء الآمن ، أو بالاستسلام لغدر الطبيعة القادم .
إنها قاعدة عامة أن ينمو الإيمان بالخرافة فى البيئة العرضة vulnerable ، فما بالك إذا كانت
هذه عبارة عن فيضان درامى إما شحيح مشظف وإما هائل مدمر ، وإن لم يكن هذا
أو ذاك فهو هاجس يأكل الروح طوال السنة وطوال العمر وطوال الأجيال . إذن لا
غرابة بالمرة أن كل حضارتنا المعاصرة مبنية على اليونان لا على مصر .
اليونان أعطت العالم العلم والتقنية أو على الأقل الأساس الفلسفى المادى
لإنطلاقتها التالية فى روما وبريطانيا وأميركا ، فماذا أعطتنا مصر ؟
الإجابة أعطتنا الدين ، أعطتنا دوامة من الخرافة والتعصب والظلمات الأبدية
لا تنتهى أبدا . بعبارة أخرى الحضارة هى السيطرة على الطبيعة ، على
الدنيا ، وللأسف السيطرة على الدنيا شىء والسيطرة على الآخرة شىء
آخر . هذه الأخيرة لا تصنع حضارة ، بل بالتحديد تهدم ما هو قائم من
حضارات . ’ كله
تمام ‘ ، أو ما يسمى عقلية الإجماع هى هاجس كل المصريين ( ناهيك
عن كل العرب ) . من تلك مثلا أن متعة
الانتخابات عنده هى ’ تجديد البيعة ‘ لا حيرة الاختيار .
الأميركيون لا يفهمون الحكمة السيكولوچية وراء الـ 99.9 0/0
التى ابتدعها جمال عبد الناصر ، وحاكته فيها بقية الريچيمات الجمهورية
العربية . يسمونها حكما بالحديد والنار وانتهاكا لحقوق الإنسان …إلى آخر
مصطلحات عصر كلينتون [ كلينتون‑أولبرايت بدءا من يناير التالى
1997 ] الأثيرة . يهددونا بالويل والثبور وعظائم الأمور ، بينما
لا يعلمون أنها خصيصة چيينية أصيلة
فينا ، ولا حيلة لنا تجاهها . إنهم معتادون على التمايز والشخصيات
المستقلة والتحزب واضح المعالم ، هم لديهم حزبان ولو ساروا على هدينا وكان
هاجسهم هو وحدة كل الأمة لانتهى بهم الأمر بـ 280 مليون حزب . على الأقل هم
توحدوا فى نصفين ، بينما نحن مولعون طوال الوقت بشىء اسمه الاتفاق المطلق
فقط كى لا نحصد منه سوى الاختلاف المطلق . والنتيجة النهائية معروفة :
أننا أدمنا السيحان وربع النغمة وعشر النغمة ، ويسعدنا أن ليس من فراغ
القول كون كله عند العرب صابون . الرد عليهم ليس
حتى أن الشعب جاهل لم يتأهل للديموقراطية بعد ، ناهيك بالطبع عن محاولة
إقناعهم أن الديموقراطية نظام غير كفء حتى فى الغرب نفسه .
وأخشى ما نخشاه أن يتحول قريبا ذلك المثل القائل
كله عند العرب صابون ، إلى كل
العرب صومال . مع ملاحظة الصوملة غير
اللبننة ، ففى الأخيرة هناك على الأقل أسباب طائفية ودينية للتناحر ،
أما هنا فلا توجد حتى أسباب اقتصادية ، فقط كل واحد له ’ دماغ
صعيدى ‘ قائم بذاته يأبى إلا أن يتزحزح قيد أنملة عن رأيه . ففى
الصومال ليس الأمر مجرد بلطجة ونهب قطاع طرق لأثرياء ، فلا أحد ثرى ،
وسيستمر الصراع للأبد فيما هو بادى حتى اللحظة ، لهدف واحد فقط ،
الصراع نفسه ، أقصد الوصول للإجماع ! مع كل الظلم الذى يتعرض له أهل
الصعيد بوصمهم بعبارة ’ دماغ صعيدى ‘ ، وكأن بقية المصريين أو
العرب بدماغ آدم سميث ، فإن المعنى واضح : تيمايوس هائل تهون من أجله
الحياة نفسها ، وهذا لن يفضى إلا إلى صومال كبير من المحيط إلى
الخليج . كلما تعرض العرب للجلوبة وللانفتاح على العالم الذى تقريبا لا
يعرفون عنه أى شىء ، كلما زادت صيحات الوحدة ، وزاد معها التفتت
والتقاتل . ولا تتخيل أننا نستثنى من أى من كل هذا التجربة الرائعة الحالية
لمجلس التعاون الخليجى ، فالقدر الچيينى أكبر من كل تجربة ، وتجربة
تحديث الخليج على أسس اقتصادية بالأساس شىء رائع وثورى ، لكنها ليست أول
التجارب ولن تكون آخر التجارب ، وقطعا ليست أروع التجارب . نعرف أن
هناك تنظيم القاعدة يستقطب الشعب السعودى معه يوما بعد يوم ، ونعلم أن هناك
صراع سنى‑شيعى ، لكن ما نعرفه أكثر ، أن ما خفى كان أعظم ،
وسيفاجئك فى لحظة ما بخلافات لم تكن تتخيلها قط ! سنعود تفصيلا لخصيصة العرب
التاريخية كقطاع طرق ، لكن نود أن ننهى الحديث هنا عن مصر بالقول ، إن
ثمة تمايزا نسبيا لها وسط المحيط العربى . هؤلاء رعاة وظيفتهم القاعدية هى
قطع الطريق ، بمعنى الرعى فى أرض الغير ( أرض الله فى قول
آخر ) ، والإغارة على كل من يسمعون عن كونه صاحب ثروة ( فالمال
مال الله وذهب لك عن طريق الخطأ ) ، وقرصنة البحار متى استطاعوا إليها
سبيلا … إلخ ، ثم لو حدث وامتهنوا شيئا آخر من الأشياء
’ المحترمة ‘ التى يمتهنها الغير ، لنقل التجارة مثلا ،
فأغلب بضاعتهم فى هذه الحالة هى البضائع المسروقة ، العبيد على وجه
خاص . لكن فى المقابل مصر بلد زراعى عريق ، كذا لم يحدث أبدا أن غزا
جيرانه . الفهلوة وليس قطع الطريق هو تكيف المصريين البيولوچى القاعدى تجاه
كسلهم الچيينى . لهذا يقال عنهم عادة أنهم أذكياء ، لكن لسوء الحظ لأن
الاختبارات القياسية لحصيلة الذكاء لا تضم الفهلوة و’ النصاحة ‘
والنصب ، إنما مهارات معرفية محددة أخرى ، فهم لا يحققون أرقاما كبيرة
فيها . لكن لا بد هنا من السؤال ، لماذا عانق المصريون الإسلام بتلك
السهولة النسبية حين غزتهم جيوشه ، فى الوقت الذى رفضته فرنسا وإيطاليا
وروسيا مثلا ، وردته إسپانيا على أعقابه بعد احتلال دام قرونا ؟ لماذا
عانقت مصر العروبة بسهولة نسبيا أيضا على يد عبد الناصر . ثم لماذا تعانق
الإسلام من جديد بعد عقود خالها البعض فيها وقد تحولت للعلمانية . الإجابة
أن الفارق بين الفارق بين الفهلوة المصرية والعنف البدوى العربى ، ليس
فارقا نوعيا ، بل فارق فى الدرجة أو الأسلوب لا أكثر . كلاهما مص
لدماء للغير ، فقط واحد ناعم والآخر عنيف ! ونصوص الإسلام التى تستحل
كل ما يملك الآخرين أو تقتلهم ، هى الصيغة الأكثر مثالية إطلاقا فى كل
التاريخ الإنسانى لتبرير كسل الأبدان ، وهى التكيف الچيينى الأمثل مع خصائصنا
البيولوچية ، ولعل لنا عودة أكثر تفصيلا حول الدين قد نختم
بها هذه الدراسة . فقط ننهى هذه المرحلة بالقول باختصار : لا يبدو إن تركيبة العرب الچيينية كسامويين تسمح لهم أبدا بسقف غير
مجتمع الرعى العشائرى ، ويكاد يكون من المستحيل أن ننتقل ‑كعرب أو
كشعوب غير عربية لكن يسيطر عليها العرب وقيم العرب‑ أبدا لعصر الإقطاع
ناهيك عن عصر الصناعة ! [ طبعا ما حدث تدريجيا بعد
غزو أميركا للعراق ، هو صومال بكل المعايير ، أكبر وأفدح ، الكل
فيه يصمم على وحدة العراق وعلى الإجماع الوطنى … إلخ ، والنتيجة
ميليشيات من كل صنف ولون تجوب الشوارع تقتل بعضها البعض ، فالمقصود عند كل
واحد هو وحدة العراق والإجماع الوطنى تحت رايته هو تحديدا ، يعنى تخلصنا من
صدام فظهر لنا 25 مليون صدام ، ألم نقل لك إنها مسألة چيينية . ما
يسمى الانتخابات الحرة سنة 2005 أتى بالأحزاب الدينية للسلطة ووصل التناحر
لمداه . نفس الشىء فى المناطق الفلسطينية ’ الانتخابات الحرة
والنزيهة ‘ فى 2006 أتت بحماس للسلطة وتحولت كل المناطق لميليشيات صومالية
متقاتلة . مصر نفسها انتخاباتها ربع الحرة ربع النزيهة فى أواخر 2005 أتت
بالأخوان المسلمين لربع مقاعد الپرلمان ، وباتت الشوارع ملكا لميليشيات
الأخوان لا سلطة حقيقية للشرطة عليها ، ومسرحا لقتل المسيحيين علنا أو
لخطفهم وإجبارهم على الإسلام ، أو لترويع الكتاب العلمانيين أو لإلقاء ماء
النار فى وجه الفتيات السافرات ، أو لألف قصة وقصة من هذا القبيل .
وككل شبح الصومال لم يعد بعيدا كما قد يبدو للوهلة الأولى . رغم ذلك لا
تزال الدنيا كلها تلوم أميركا لأنها قضت على صدام ومن ثم خلقت كل تلك
الفوضى . والمذهل أن أميركا الغرة المخدوعة لا تزال تجارى بملائكية مضحكة
مطالب المعارضة الخبيثة المجرمة فى البلاد التى تحكمها نظم تسعى بدرجة ما
للحداثة كمصر وفلسطين محمود عباس وتونس وكدول الخليج عامة ، ذلك بما يسمى
بالديموقراطية وحقوق الإنسان . كل ذلك بينما لم يفكر أحد أن المطلوب هو
الحداثة ، وأن الديموقراطية لم تكن يوما ولا فى أى مكان إلا وسيلة وليست
هدفا فى حد ذاتها ، وطبعا لم تفكر أميركا جديا بعد فى أن الموقف الصحيح فى
حال لم يجد القضاء على صدام فى خلق دولة حداثية هو القضاء على كل الصدامات حتى
لو كان عددهم بالملايين ! للمزيد من هذا اقرأ صفحة الليبرالية ، التى تناقش أفضل سبل الوصول
للحداثة . وتطرح سؤال ما فائدة الديموقراطية إذا كان كل المطروح فى البازار
هو ديكتاتوريات . وترصد حقيقة أن كل تجارب النهضات فى القرن العشرين بدءا
من دول ساحل جنوب أوروپا مرورا بنمور آسيا وانتهاء بأحدثها وأعظمها جميعا تشيلى
پينوتشيت ، تدلنا على أن السبيل الوحيد ‑وعلى سبيل الحصر المطلق‑
لتحديث دولة متخلفة هو ديكتاتورية عسكرية يمينية ، تعتبر أن الدور الوحيد
للحكومة هو السهر على حماية الحريات الثلاث الكبرى التى هى وحدها الحريات
الحقيقية أو ’ الطبيعية ‘ : حرية الاقتصاد ، وحرية الحراك
الاجتماعى ، والحرية الفردية كالحرية الجنسية وحرية تناول العقاقير وما
إليها من طيف الحريات الشخصية الواسع . وتشدد ‑أى تلك الصفحة‑
على أن هذه الحرية المطلقة المنشودة تستلزم بالضرورة قتل واجتثثاث كل صاحب
برنامج يسعى لمصادرتها ، سواء باسم الاشتراكية أو القومية أو الدين ،
أو حتى باسم الديموقراطية ] . …
المفجع أن المشكلة ليست فى أن الشعب جاهل ، بل فى أنه سعيد
بجهله . يزعجه جدا الجدل والخلاف ، يقوض حياة
الغفوة المتواصلة انتظارا للفيضان وانتظارا لرحيله . لماذا لا يحترم
الأميركيون رغبة شعب ما فى ألا يخوض فيما لا يفهم فيه . إنه شعب خاوى
الدماغ ، وفكرة الإجماع هى وسيلته التكيفية الوحيدة تجاه جهله ،
وسيلته التكيفية الوحيدة للهرب من الاضطراب الوجدانى العنيف الذى يسببه وجود
خلاف فى الرأى . نظامه التربوى الريفى والحضرى ، بل قل كل أساطيره الفلكلورية
تبدأ بخروج على الإجماع وتنتهى بفاجعة مخيفة ( تأمل كل قصص الحب الفلكلورية
الشهيرة أيا كان اسم البطل ، عواد - متولى أو أيا من كان ، أو أيا ما
كان اسم البطلة ضحية النداهة الطرف الثانى للقصة . لاحظ دوما الاضطراب
الهائل الذى يسببه الخروج على الإجماع . ولاحظ دوما أيضا أن كلمة التقاليد
تلعب فقط وظيفة الخارج الظاهرى لفكرة الإجماع . فالمدهش أن الحب نفسه غير
مدان فى أغلب هذه القصص ، وهو نفاق وازدواجية غريبة ! ) . عامة الحكام إفرازات لشعوبهم حتى
لو قمعوها . جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافى وحسن
الترابى لم يستوردوا من المريخ ، بل هم انعكاس مباشر لعقلية السمع والطاعة
القهرية العربية المسلمة . سؤال بسيط نوجهه لكل عربى يطالب
بالديموقراطية : هل أنت ديموقراطى فى بيتك قبل أن تطالب أميركا أو إسرائيل
أو حتى حكومتك بأن تكون ديموقراطية معك ؟ الشعوب المتعلمة
والمتمكنة اقتصاديا لا يمكن أن تفرز حكاما كهؤلاء ، لأنها أصلا لا يمكن أن
تفرز تلك العقلية ، أو بالأحرى لم تكن چييناتها لتفرز لها تلك
العقلية . أما بعض الحكام الجيدين عندنا ممن هم أفضل بالفعل من
شعوبهم ، ويقودونها للحداثة ، فهم إما مستوردون چيينيا من الخارج
كأسرة محمد على فى مصر ، وإما أبناء للشعوب لكن يبدون نشازا أو كتطفرات
چيينية وتصبح تجاربهم الحداثية فى مهب الريح بعد رحيلهم ، وكم نتمنى أن
نكون مخطئين فى تشاؤمنا على المجرى البعيد لتجارب أناس مثل أتاتورك أو بورقيبة
أو الحسين بن طلال أو أنور السادات أو كذا حكام دول الخليج عموما .
خذ مثالا لعقلية الإجماع وهى قاسم مشترك لدى كل
العرب ( وعامة لدى كل الشعوب عالية المكون الثقافى ‑كنقيض للمادية أو
الدنيوية‑ كما سنرى فى حالة فرنسا ) . خذ مثالا لها استجابة
الشعب المصرى أو غيره من الشعوب العربية لظهور الإسلاميين . كان ظهورا عنيفا
يريد تقويض كل شىء . بقية الشعب لم يفكروا ولم يناقشوا . انحنوا
له . تحجبت النساء وواظب الرجال على الصلاة . فقط كى يصبح كل شىء على
ما يرام من جديد ، وقد كان . بعد قليل اتضح أن الإسلاميين وحوشا ذوى
أچندة خفية يقتلون الأطفال والمسيحيين والسياح . هذا مزعج بدوره . لا
بد من تصنيف هؤلاء كقلة مارقة خرجت على ’ الإجماع ‘ . على أن
هناك شرط واحد خالد دائما أبدا هو عدم المواجهة . فلننزلق لمزيد من
التدين ، كحل وسط جديد . يمكنك تسمية هذا النوع من اليسار ،
بغثاء الوسطية الذى لا ينتهى .
أية انتخابات حرة ستأتى بالأخوان المسلمين .
لماذا ؟ ليس لمشروعهم التنموى الفذ ، ولا حتى لشبكتهم العنكبوتية
التنظيمية الممسكة بخناق الشعب . فقط لأن الشعب لا يريد من أحد أن يوجع له دماغه بهذه
الديموقراطية ، وسوف يهدى هذه الديموقراطية للأخوان عند أول ناصية لأنهم
الوحيدون الذين يعدونه بإراحته منها . هذه أيضا
كسل عقلى وفهلوة ، سواء من الأخوان أو سواء من كل الشعب . الأوائل
يقولون لك نحن مع الاستقرار وضد الإرهاب ، لكنكم لن تتخلصوا من إرهاب من هم
أشد منا تطرفا ، ولن تنعموا بذلك الاستقرار قط ( وبطريقتنا الخاصة لن
نسمح بحدوث هذا قط ) ، قبل تعطونا الحكم ، والثانى يقول لك
فلتعطهم الحكم ، انت واجع دماغك ليه ؟ مرة أخرى ، إنه شعب يزعجه
أيما إزعاج ويقوض نعيمه النفسى أيما تقويض ، أن لا يوجد إجماع حول موضوع
البحث . العرب لا يريدون الحرية ، العرب يحلمون بعمر
بن الخطاب ، بالحاكم العادل ، بطاغية يسارى يعنى ، ببساطة ،
المشكلة فى وجود الرأى والرأى
الآخر ، أنه محنة سيكولوچية ! أما لماذا يصبح العدل هاجسا مرضيا للعقل
العربى والمسلم فالسبب بسيط ولا يثير أى استغراب : الثروة والعشب والنسل لا
تأتى بالكد والابتكار والعرق ، إنما كلها موجودة سلفا ، كلها
’ رزق ‘ من صنع الخالق ، والمشكلة فقط هى التقسيم !
فى هذا نفسه يكمن تفسير
المقولة الدارجة أن العرب اتفقوا على
ألا يتفقوا ، وتفسير لماذا يلجأون دوما للحروب
القطرية أو الأهلية لحل أتفه النزاعات ، ولماذا اتفاقية الدفاع العربى المشترك هى الوحيدة فى التاريخ التى
يتقاتل أعضاؤها دون أن يفكروا أبدا فى الانسحاب منها ،
ولماذا دوما الجامعة العربية كيان مشلول ومجرد ساحة لممارسة الحروب
الكلامية ، فقط لأن ميثاقه الخيالى ‑أو قل بالأحرى المستقى من أعماق
سيكولوچيتنا غير السوية تلك‑ ينص على أن تتخذ القرارات بالإجماع . فالبشر الذين لا يعرفون كيف يختلفون لا يعرفون كيف
يتفقون ، ومن ثم تترجم عقلية الإجماع الوهمية إلى
صراعات غير قابلة للحل ولا تأتى إلا بالخراب . الحقيقة الأبعد من هذه وتلك أن الفهلوة تجعل الأمور
أعمق من هذا بكثير . فى بلادنا الارتزاق سهل لو كنت فى الحكومة ،
وأسهل لو كنت فى المعارضة . إنك لو عرضت الحكم فعلا على الأخوان أو على أى
حزب معارض لرفضه ، وفعلا رأينا أن لم يتقدم له أحد عشية اغتيال
السادات . إنها ميزة مزدوجة ، فساد دون مساءلة بل زائد ثالثا الحق فى
مساءلة الفاسدين الآخرين على فسادهم . ’ ديموقراطيتنا ‘ انطبعت
على هذا ، المعارضة الفاسدة المبتزة جزء أصيل من النظام الذى لا يستغنى
أجزاؤه عن بعضها البعض ، وتظهر المشكلات فقط حين تنكمش كعكة الفساد .
جذور هذا أن عقليتنا هى بالأصل عقلية المعارضة لا القيادة ، عقلية الابتزاز
لا المسئولية ، عقلية الهدم لا البناء . وإذا كان ثمة بناء فيما نرى
فالفضل فيه لفرمانات وإملاءات صندوق النقد الدولى والبنك العالمى ، وليس
نابعا منا بأية درجة من الدرجات . حين كنت أشتغل فى أحد المصانع الحربية
كانت الكلمة التى أتندر بها …
نعود لسياقنا
الأصلى ، لنقول إن هنا يكمن الجزء الأهم فى إشكالية التحديث عندنا ومسيرتها
بالغة العسر والتعثر .
لو نحينا جانبا الكلام السابق عن أخلاقيات
القوة ، وأنها قد تكون فى حالات استثنائية معينة ومؤقتة قوة رجعية ،
فسوف نكتشف أن العرب يرفضون أصلا مفهوم القوة ، أو بالأحرى لا
يفهمونه . إنها تهمة إسرائيلية ظالمة تلك التى تقول العرب لا يفهمون سوى
لغة القوة . فى الواقع هم أغبى من أن يفهمونها . هم يفهمون نصفها
فقط . حين يسفكون دماء العالم هم يؤمنون بالقوة ويفهمونها أفضل فهم ،
لكن حين يهزمون لا يستسلمون ويصبحون أغبى الكائنات جميعا . إنهم لو
يفهمونها كأى شعب آخر فى الدنيا يتعامل بلغة القوة ، وكلها كذلك ،
لاستسلموا عند كل هزيمة ، وبدأوا حياة مختلفة ( كما سنرى بنيامين
نيتانياهو أول من فهم هذا ، وخرج بنظرية أن تترك العرب تماما حتى يأتون
راكعين من تلقاء أنفسهم ) . هذا الشىء غير المفهوم لدى العقل العربى ،
العقل الپارانويى ، العقل اليسارى سمه ماشئت ، هو للأسف أهم الأشياء
إطلاقا : حكمة الطبيعة من وراء تبنيها لقوانين القوة .
إن القوة
هى الحق وهى أعلى معيار ممكن للعدل لأنها أفضل شىء يعبر عن الاجتهاد والكدح
واستشراف المستقبل ، وتسيد وانتصار الأقوى كان وسيظل الضمانة الأساسية التى
جعلت الكوكب والبشرية يسيران باضطراد نحو التقدم .
ومحاولة البحث عن معايير أخرى للحق والعدل لن يكون بأقل من فتح صندوق پاندورا
حيث تنطلق كل الشرور ويغرق العالم فى مماحكات سفسطائية لا تنتهى عن معايير العدل
والحق . إن أفضل شىء كان وسيكون وسواء أبينا أم شئنا هو اللجوء للمعيار
الذى استنته الطبيعة وضمنت به تطورها المتواصل منذ الانفجار الكبير مرورا
بماراثون النشوء والارتقاء وانتهاء بمنظمة التداول العالمية ( طبعا بفرض أن
لن تستولى عليها يوما الدول الدهماء وباسم الديموقراطية تفرغها من محتواها
وتجعلنا نبحث من جديد عن مؤسسة جديدة ليس للجميع فيها حق التصويت أو يكون
التصويت بنسبة المشاركة فى الناتج العالمى ) . باختصار كل شىء إنسانى ‑بالذات
ما يناقض منه قوانين الطبيعة‑ هو قابل للمراجعة والإصلاح ، أما قوانين الطبيعة فلا تستشير أحدا !
العرب كانوا يوما فى موقف الأقوى هذا حتى لو
اختلفنا عن أن ذلك جاء فى حقبة عصور الظلام فى ظلام يساوى ظلام ، وكانوا
قادة الظلام وكان من السهل فيه تسيد العالم بأقل قدر من التقنية والعلوم ،
أو حتى بدونها على الإطلاق . فإمپراطورية روما التى أكلت المسيحية روحها
وطفأت نورها ونخرت بنيانها الحضارى وحولت جبابرتها لعبيد خانعين لإله واحد قهار
خفى ، وخلقت لحظة فراغ حضارى عالمية كبرى يمكن بالتالى أن يخترقها الإسلام
أو غيره حتى لو كان أدنى منها تقنيا بمراحل . أى بعبارة أخرى فى عصور
الظلام عادة ما يقهر الظلام المتأصل فى الظلمة الظلام الأقل ظلمة ، أو
ظلاما كان نورا وانطفأ . المهم فى كل الأحوال أن هؤلاء العرب لم يتحدثوا عن
الشرعية أو يأخذوا إذنا إنما ببساطة غزوا . أيضا ‑وبالأحرى‑
الحضارات بمعناها الحق التى هى فتح جبهة frontier جديدة للتقنية ، ما هى
إلا غزو دائما أبدا . بل التاريخ
الطبيعى برمته ما هو إلا هو تاريخ غزو ، لا أكثر
ولا أقل .
الدفع العكسى صحيح أيضا ، فالعرب لم يخرجوا من إسپانيا بقرارات دولية إنما
بقوة السلاح ، ولم يخرجوا من أرض إسرائيل بقرارات دولية إنما مرغوا بها
كلها الأرض ، ولن يخرجوا مما يسمى المغرب العربى إلا بالكفاح المسلح
للأمازيغ ، ولن يخرجوا مما يسمى بالمشرق العربى إلا بالكفاح المسلح
للأكراد ، ولن يخرجوا مما يسمى الجنوب العربى إلا بالكفاح المسلح لشعب جنوب
السودان ، وهكذا . ومهما استصدر هؤلاء من قرارات من الشرعية الدولية
لن يقبل العرب العودة ليثرب طوعا أبدا ، ولن يقبلوا أبدا الاعتراف بأنهم
سادة المعايير المزدوجة فى هذه الدنيا . هكذا تسير الأمور ، يوم لك
ويوم عليك ، والذكى هو الذى يفهم لماذا هو متخلف ، ويبدأ فى تبنى
أفكار المنتصرين ويسير فى ركابهم بحب وطواعية واحترام .
مع ذلك لا بد من وقفة توضيحية
وإن كانت مؤلمة . فليس كل غزو أو احتلال مثل كل غزو أو احتلال . هل
هذا الغزو خير أم شر ؟ أعتقد المعايير واضحة والإجابة ليست صعبة .
مواصفات التقدم والتخلف أمور لا يختلف عليها اثنان ، المستوى التقنى وناتج
الفرد وما إلى ذلك . حين تغزو روما أو بريطانيا أو إسرائيل مصر ،
وناتج الفرد فيها 30 أو 40 ضعف مثيله المصرى ، وفارق المستوى التقنى لا
نهائى من المرات ، هذا تحديث وتنمية وإعمار وتقدم وتنوير . حين يغزوها
بدو الجزيرة العربية البدائيين الذين لا يعرفون حتى الزراعة وطبعا بذريعة واحدة
هى الدين هذا نهب ونهش ومص دماء وتخليف وإظلام . الأول استعمار والثانى
استخراب . الأول يفتح عينك على ثرواتك الطبيعية يعلمك التقنية وفقط
يقاسمك العوائد ، الثانى يأخذ الماعز والشعير والنساء وفقط يعطيك ورقا اسمه
القرآن . الأول عصرى صاحب علم وثورة تقنية يأتى كى يزرع ويصنع ،
والثانى راعى بدوى أمى كل وظيفته فى الحياة أن يأتى كل يأكل ما زرع غيره . حين يغزو السوريون أو
الفلسطينيون لبنان الثرى الحضارى المتحرر وشبه المنتمى للغرب المسيحى هذا نهب
ونهش ومص دماء وتخليف وإظلام ، لكن حين تغزوه إسرائيل أو أميركا ، أو
حين يغزو هو أولئك الأجلاف ، يكون الأمر العكس مائة وثمانون درجة . يقولون
إن الجيش السورى كان ضروريا لإنهاء الحرب الأهلية فى لبنان ، خطأ !
أين سؤال المحتوى ؟ أنت لا تستدعى القط لحماية الكرار كما يقول المثل
الشائع . لو كان المستدعى هو الجيش الأميركى أو الإسرائيلى أو حتى التركى
أو المصرى لما اعترض أحد لأن سلاما حداثيا هو الذى كان سيتحقق وليس سلام الظلام
وحافظ الأسد وحزب الله . أما طبعا لو كان لبنان هو الذى احتل سوريا لما
وجدتنا إلا مهللين أن ذهبت الاشتراكية والعروبة وجاء اقتصاد السوق والحريات
الفردية . حين غزت روما أو لندن بقية العالم لم تكن ثمة بقعة واحدة فيه
أكثر رقيا من المركز بتقنياته واقتصاده وثروته ومنتجاته وتشريعاته . العكس
هو الصحيح حين غزا العرب المسلمون الممالك المجاورة الأكثر حضارة وثروة وعراقة
وتقدما ، أو حين شنت فرنسا حروبها فى كل مكان على أم الثورة الصناعية
إنجلترا ، أو حين راح السوڤييت ينشرون رءوس حرابهم الشيوعية فى
الغرب . هناك فارق بين أن تغزو لأنك صاحب تقنيات مستحدثة ومن ثم بصيرة
ورؤية ، مشروع متكامل ، لنشر الرخاء فى كل الجلوب ، وبين أن تغزو
لأنك اكتشفت وجود هذه الأشياء فى مكان آخر وتريد أن تنهب إبداع وعرق وتقدم الغير
على الجاهز . السؤال فقط هو سؤال المحتوى ، فى أية ضفة من الضفتين
أنت ؟ دائما هناك نموذج القرية وقطاع الطرق ، نموذج المدينة
والإرهاب ، نموذج الإمپراطورية والتمرد ، نموذج السيد واللص ،
نموذج الربان والقرصان ، أو باختصار نموذج البناء والناهب ، نموذج
الإنسان والجراثيم ، نموذج صاحب الرؤية الكبيرة الشاملة والمستقبلية
والصغير المتمحور حول ذاته ورعبه الشخصى من جوع بطنه اللحظى . تاريخيا
العرب لم يكونوا النموذج الأول أبدا ، بل حتى حين احتلوا كثيرا من العالم
كانوا مجرد قطاع الطرق الذين جاءوا من مجاهل الصحراء كى يغيروا على الأمم
الآمنة . والأكثر سوءا أن قادتنا من نوعية ناصر وشركاه ومثقفينا من نوعية
هيكل وشركاه لا يزالون حتى اليوم ينظرون تحديدا للبلطجة والقرصنة والإجرام
والطفيلية وقطع الطريق ، بل ويصمون كبار العالم وصناع تقدمه وحضارته
وتقنيته بأفحش المثالب ويحاولون تصوير جهودهم لتحديثنا على أنها هى اللصوصية
والإغارة على بلاد الغير . وكما ترى شىء واحد يحرصون تماما ودوما على
تغييبه ألا وهو سؤال المحتوى . مرة أخرى : ثمة غزو هو استعمار وثمة
غزو هو استخراب . ونعم الأمور بسيطة وواضحة للغاية ، فقط لو سأل
الجميع سؤال المحتوى . مبدأ عدم جواز احتلال الأراضى بالقوة مبدأ جميل بشرط
أن تضاف إليه كلمتان : عدم جواز احتلال الأراضى بالقوة بواسطة
المتخلفين !
إذن نخلص لأن القدرة يجب أن
تعززها الأخلاق ، وإلا باتت قوة غاشمة . فقط المطلوب أولا تحديد ماهية
هذه الأخلاق حتى لا تصبح كلمة مطاطة هى الأخرى . ربما على غرار قول كارل سيجان عن الرب God إن الافتراضات الجسيمة تحتاج لبراهين جسيمة ، نقول إن
الأسئلة القاعدية تحتاج لإجابات قاعدية . الإجابة تكمن أيضا فى القوانين
القاعدية للكون ، ما تسير عليه وما تفضله المادة ، هو الشىء الذى يجب
أن يكون الأخلاق بالنسبة لنا ، أما الدخيل أو الوقتى فهو غير
الأخلاقى . فيما يمكن رصده بسهولة فإن أحد أكثر
قوانين الكون والحياة قاعدية ورسوخا هو قانون الاستعقاد sophistication ، أى ميل الأجسام
والكائنات الدائم إلى مزيد من التعقيد complication مع مرور الزمن .
هذا شىء يبدو جدا أنه خصيصى من طبيعة المادة نفسها . لهذا السبب تتطور مثلا
التقنية دونما توقف . صحيح أحيانا يحدث العكس وتستطيع قوى اليسار وما
شابهها تأميم قواعد اللعبة الدارونية لصالح الطرف الضعيف المهزوم ، لكن هذا
لا يدوم حتما سوى لفترة مؤقتة لأنه يلعب ضد الحكمة الجوهرية الأصلية من وراء
الصراع الدارونى ، وهو أن له هدفا يفضى له بالضرورة . هذا الهدف اسمه
التطور evolution ، وهو بدوره يبدو قانونا قاعديا آخر
للمادة . إذن القوى الواعية نوعان . القوة التى تعزز
الاستعقاد وتؤدى للنمو التقنى هى قوة أخلاقية ، وهى تماثل من حيث الهدف
والنبل قوى الطبيعة غير الواعية التى أفضت فى التاريخ الطبيعى إلى ما سمى
بالتطور . والقوة التى تكبح الحضارة ( تعريفها كما قلنا هو فتح جبهة
جديدة للتقنية ) هى قوة غير أخلاقية . المسيحية والإسلام كانتا
قوة ، لكنها قوة همجية هادمة للحضارات كابحة للتقنية ، أى غير حضارية ومن
ثم غير أخلاقية . إبادة الإنسان الأبيض للهنود الحمر دفع الحضارة والتقنية
للأمام وأعطانا معظم ما تحت أيدينا الآن من مخترعات ، ومن ثم فهو قوة
أخلاقية . الكلام كثر مؤخرا عن امتلاك دول كالعراق وإيران وليبيا لأسلحة
دمار كتلى تهدد بها الحضارة العالمية ، هنا أقصى استخدام للقوة لا يعد فقط
مسألة أخلاقية ، بل أن الاسراف فيها حتى آخر مدى ممكن هو أكثر الأشياء
كفاءة واقتصادية . إنها مسألة نفسية وتنبع من إشكالية القدرة المحدودة
للبشر على الفهم ، والميل للعناد والتعلق بالأمال ، وما إلى
ذلك . باختصار : 1- التقنية هى
الحل ، وإذا فشلت التقنية فإن الحل هو المزيد من التقنية . ولا يجب قط
على روما المعاصرة عبيدا بقيم متخلفة يهدمونها فى نهاية المطاف ، ذلك لمجرد
أنهم أرخص ، ولمجرد أن تعفى نفسها من واجب اختراع تقنيات جديدة تغنى عن
الحاجة للبشر كلما أمكن . 2- فى حقول السياسة والستراتيچية
تقرأ القاعدة رقم 1 على النحو التالى : القوة هى الحل ، وإذا ما فشلت
القوة ، فالحل المزيد من القوة . وحين تستخدم ضد البشر وبالأخص
المتخلفين منهم ، فإن أكثر الأشياء كفاءة واقتصادية هو الإسراف فيها حتى
آخر مدى ممكن . إنها مسألة نفسية وتنبع من إشكالية القدرة المحدودة للبشر
على الفهم ، والميل للعناد والتعلق بالأمال ، وما إلى ذلك . ملحوظة : هذه المقابلة فى الساطرتين rules السابقتين بين التقنية تارة وبين القوة
تارة أخرى ، تعنى فى حد ذاتها أن المقصود بالقوة القوة الحضارية ، أو
أن القوة حضارية بطبعها ، هذا بالطبع باعتبار أن التعريف القاعدى للحضارة
هو فتح جبهة جديدة للتقنية . صحيح قد تكون هناك حالات نادرة جدا ،
غالبا ما تكون فى غفلة من الزمن أو بسبب افتقاد من قادة الحضارة للبوصلة
الحضارية ، فيها يتملك المتخلفون أو الدهماء أو الرجعيون قدرة ما ،
ولعل أشهر أمثلتها بالطبع لحظات الثورات الدينية . لكن هذا لا ينفى حقيقة
أن القوة حق على نحو قاعدى ، لأنها لا تتأتى إلا من تمثل المستقبل والعكوف
الجاد على الكشف العلمى وتنمية التقنيات القادمة . فقط لو حدث ووقع
استثناء ، سيكون القول الصحيح ساعتها إن القوة لا يجب أن تنفصل بأية حال عن
غرضها النبيل السامى وبالغ التقدمية . [ للمزيد من مناقشة فكرة
أخلاقيات القدرة وضرورة وكيفية استخدامها بلا هوادة فى مكافحة التخلف
والمتخلفين ، بالذات عندما تفجرت هذه القضية وباتت مسألة حياة أو موت بعد
11 سپتمبر 2001 على نحو أفدح بكثير من إشاراتنا خفيضة النبرة هذه ، انظر
صفحتى الإبادة وسپتمبر
بمجملهما ] . [ أيضا لاحقا كثر الحديث عن
أخلاقيات القدرة من خلال ربطه بالمبحث الفلسفى الجديد المسمى الأخلاقيات العصبية
neuroethics . الشىء الجيد أنه بسبب تطورات وآفاق الهندسة الچيينية
المحدقة ، أصبح الأمر يحظى باهتمام إعلامى واسع . الشىء الأجود هو
التفتح العقلى الملموس فى تناول القضية . وإليك المثال هذا العمود
من كاتب محافظ شهير هو ويلليام سافاير ، يثبت فيه أن كلمة تحرر اجتماعى لا
يجب ، ولم يكن ليجب ، أن تختطف بواسطة اليسار ولو للحظة واحدة .
الشىء المحورى الملفت هو العودة لاستلهام القوانين الطبيعية والدارونية ،
حتى فيما يخص تاريخ الأخلاق . الأبحاث الجديدة كشفت أن الغربان والخفافيش
المصاصة تعاقب أفرادها الذين يحاولون اختلاس الطعام حين يعهد لهم بحراسته ،
والقردة ترفض شد السلسلة إذا كانت ستسقط لهم طعاما ، لكن تعطى فى نفس الوقت
صدمة كهربية مؤلمة لقرد آخر ، وهلم جرا . كل هذه الأفكار وتلك تأتى فى إطار
ما تبنته مختلف صفحات هذا الموقع بدءا من صفحة الثقافة هذه ، مرورا بصفحة الليبرالية ، وانتهاء بمشروع الناوسيا . بصراحة لا قيمة لأخلاق
الإنسان إن لم تكن منسجمة مع أخلاق التاريخ الطبيعى . وبدون استلهام خبرة
التاريخين الكونى والبيولوچى ساحقى الطول مديدى التجربة ، استلهامها فى
معرفة كيف تفكر المادة ، لن يتأتى لنا أبدا توجيه بوصلة المستقبل بعد‑الإنسانى فى الاتجاه الصحيح . وسنظل
ندور فى دوامة محورة وإسقاط كل شىء من الإنسان على نفسه ، تلك التى أغرقت الفلسفة
فى غثاء إنسانى غير المسبوق طيلة القرن الأخير فى أقل تقدير . أيضا للمزيد
فى الشأن الفلسفى ككل راجع مدخلا شخصيا أقدم نسبيا فى صفحة الجلوبة ] . … المهم أن اليوم إذن اختلفت العقلية وبات العرب
عديمى الحول موفورى الزعيق مجرد ’ ظاهرة صوتية ‘ طبقا لتهكمات
مثقفيهم أنفسهم ، بل ومادة للسخرية والهزل من كل نوع . باتوا فى فى
قاع القاع لدرجة أن حتى نظرة العطف الصامتة المهذبة من الغرب نحونا باتت هى
نفسها شيئا مضرا وربما من الأفضل أن يصدمنا ويفيقنا أن يشرح لنا صراحة كيف يفكر
وطبيعة ذلك المكيال ’ الظالم ‘ الذى يكيل به والذى استقر عليه حتى بات
كما البديهيات فى دمه وچييناته . علينا أن نعلم أن توازنات القوى بيننا
وبين أى أحد تختلف من يوم للتالى بل من ساعة لأخرى . نحن الذين نتشدق والأدق نتمسح بالشرعية الدولية
كنا نحن أنفسنا الذين رفضناها منذ وعد بلفور –وهو
الشرعية الدولية لوقتها ، أليس كذلك ؟ !– مرورا بالمذابح التى
قمنا بها طوال الوقت ليهود فلسطين وانتهاء برفضنا لقرار التقسيم وتجييش الجيوش
لاكتساح الدولة الوليدة ثم مرة كل عشر سنوات بعد ذلك ، ولم ينته كل هذا إلا
بالجلوس إلى طاولة مدريد بعد أكثر من سبعة عقود ، ساعتها فقط استخدمنا كلمة
الشرعية الدولية لأول مرة . لماذا هذا ؟ السبب ببساطة أننا كنا نعتقد أن
ميزان القوة فى صالحنا وصالح جيوشنا ، أو كما يقول الإسرائيليون أن أحدا لم
يطرد الفلسطينيين من أرضهم إلا دعوة الجيوش العربية لهم للخروج تمهيدا لإعادتهم
لها . ولا مانع طبعا من بيع الأرض من أجل نيل ربح مزدوج !
الحقيقة أن لا نهاية للأساطير المؤسسة للسياسة العربية . اليهود ومن
خلفهم كل
العالم أو على الأقل كل أصحاب الرؤى الموضوعية يرون الأمور على نحو
مختلف : 600 ألف فلسطينى معدم نزحوا بإرادتهم جشعا ، فى مقابل 600 ألف
يهودى ثرى صودرت ونهبت أموالهم فى البلاد العربية وطردوا قسرا لإسرائيل .
تنظيم ستيرن أو الهاجاناه أو أحداث قرية دير ياسين ليست إلا قلامة ظفر مما قام
به العرب من مذابح لليهود فى فلسطين فى العقود السابقة عليها حيث الإجراء
المألوف فيما وثق بالصوت والصورة هو ربط أطراف اليهودى لأربعة خيول تنطلق لتمزق
جسده إربا ، زائد فارق أن بن جوريون كان هو الذى بطش بالعنف اليهودى
( قصف مثلا فى يونيو 1948 سفينة الأسلحة ألتاليتا هذه هى ما يسمى بالقضية
الفلسطينية وهذا هو ما حدث سنة 1948 ، فقط كلاهما بدون أساطير . أو
لعل روچيه جارودى الذى خط طريق التأسلم لكل شيوعيى العالم والذى يملأ الدنيا
صخبا هذا الشهر ( مايو 1996 ) حيث يحاكم باعتبار ما كتب جريمة ضد
قوانين الجمهورية الفرنسية المحددة جدا وليس كجريمة عامة أو معنوية ضد الإنسانية
مثلا ، لعله يؤلف لنا كتابا جديدا عن الأساطير ! المدهش أن العرب هم آخر من يمكن
أن يتهم إسرائيل بالدموية أو الوحشية . تاريخ أولئك مدعى البؤس اليوم هو
التاريخ الأكثر دموية ووحشية بين تواريخ كل شعوب الأرض . ليس نيرون ليس
هولاكو خان ليس هتلر ليس أحد ، فقط هم بلا منازع . قصص ما يسمى بالفتح
الإسلامى تملأ مئات المجلدات بدءا من غزوة بدر . وهى دموية لا تحدها
حدود ، ومتواصلة حاليا رغم كل الأوضاع الاقتصادية والحضارية المذرية ،
ببشائع الفلسطينيين الإرهابية فى خطف الطائرات والسفن وقتل نزلاء القرى
الأوليمپية ، وبالمذابح الجماعية لصدام حسين ، وبجرائم معمر القذافى
فى تفجير المنشئات المدنية وإسقاط طائرات الركاب ، ودع جانبا طبعا جرائم
الإرهابيين الإسلاميين بالقتل الجماعى الممتدة من أسيوط إلى نيو يورك .
إجمالا وحشية العرب ، والمسلمين عامة كالأتراك مثلا ، هى وحشية نوعية
لا ينافسهم فيها أحد فى كل التاريخ الإنسانى . أما لماذا الـ 600 ألفا الأوائل
أصبحوا الآن عدة ملايين من أفقر أناس الأرض وأشدهم بؤسا ، ولماذا عاد
الآخرون من جديد وجهاء أثرياء ، ومن أكثر أناس الأرض احتراما ونجاحا ،
فهذا سؤال آخر ، لعل كل هذه الدراسة إجابة عليه ! فقط فى هذه المرحلة
نقول لهؤلاء الذين روجوا لأيديولوچية الكراهية : مع كل التقدير لقدراتكم
المدهشة فى اختطاف شعوبكم بتحريضاتكم البليغة ، أو على الأقل
إخراسها ، فأنتم لا تسمعون أنينها الخافت الذى يقول لكم صباح مساء والإملاق
يأكل بطونها ، ولم تغنها شعاراتكم أو تسمنها من جوع ، بل زادتها ألما
على ألم : لنبع القضية أفضل من أن نبيع أنفسنا ! فما بالك إذا كانت
هذه القضية المزعومة نفسها أكذوبة وهمية كبرى صنعتها حماقاتكم وغباواتكم
وأطماعكم فى البداية ، ثم راح يدفعها بالقصور الذاتى فشلكم وهزائمكم
المتوالية ، ثم رحتم من ثم تورثون الأحقاد للجيل تلو الجيل تلقون به لآتون
مزيد من الهزائم والموت والجوع ، لمجرد وهم جديد لديكم هو إثبات أن الوهم
الأصلى لم يكن وهما . وانظر ما أصبح لدينا الآن . أصبحنا بصدد حاجز
نفسى رهيب أرهبتم به كل العقول والألسنة ، وسيظل الخراب لا يجلب إلا المزيد
من الخراب !
للدقة الرقم المذكور يؤشر فقط
لمن فروا لإسرائيل ، ولا يشمل 300 ألف آخرين فروا للغرب [ للمزيد اقرأ هنا ما كتبه
الپروفيسور ساميول چى . فرييدمان من جامعة كولومبيا عن شتات اليهود العرب
بعد 1948 ، والذى يقزم تماما بجانبه كل ما فعله الفلسطينيون بأنفسهم أو
فعله اليهود بهم إن كانوا قد فعلوا شيئا يستحق الذكر ] . أما قصة
الستمائة ألف الذين فروا فى الاتجاه المعاكس فأنت تعلم قصة تآمر الأمم المتحدة
مع العرب على تجميد مشكلة هؤلاء فى أماكنهم كلاجئين بدلا من إرسالهم مثلا لجمال
عبد الناصر عوضا عما طرده من يهود ، ذلك باعتبارها فكرتهم العبقرية للضغط
لإبقاء القضية حية من وجهة نظرهم . هذا بينما كان واجب منظمة الأمم المعدمة
اليالتية الاشتراكية المتحدة ( كما سنسميها لاحقا ) كما تفعل فى كل
الحالات المشابهة إنهاء لجوئهم بالتهجير أو التوطين ، هذا فيما لا يزيد عن
خمس سنوات مثلا . والآن كما تعلم أيضا أصبحوا ، يتكلمون عن ملايين
وملايين من اللاجئين الفلسطينيين ، لم يكن لهم وجود أصلا وجاءوا فقط
بالتكاثر الفاحش . من الأساطير أيضا ، وربما إضافة أيضا لحديثنا
السابق أعلاه عن المعايير المزدوجة التى يعج بها
العقل العربى بينما لا يكف عن توجيه هذه التهمة للغير ، ناهيك كما سنأتى لاحقا عن أن يتحاشى دوما سؤال المحتوى ويتحدث عن
نفسه وعن الغير كأنداد رغم الهوة الحضارية وفجوة الأهداف ما بين البناء والتخلف
الهدام ، أننا نتهم إسرائيل
العلمانية متعددة الأعراق والأديان بأنها دولة دينية ، وننسى أن الدولة
الوحيدة فى كل التاريخ التى تحرم المواطنة أو حتى التعبد ، على غير معتنقى
دينها الرسمى ، هى المملكة العربية السعودية ! ( المسيحية رغم كل جبروتها الإمپراطورى لم تحرم المواطنة أو
إقامة دور العبادة على غير المسيحيين ، وحين أرادت إنشاء عاصمة دينية
لنفسها اختارت بلدة صغيرة رمزية اسمها الڤاتيكان ، وليس قارة كشبه
جزيرة العرب ! ) .
المهم فيما أردنا قوله ، إننا ساعة تملكنا
القدرة ‑أو بالأحرى وهم القدرة‑ مرغنا بالشرعية الدولية وغير
الدولية التراب دونما أى تردد . فى كل هذا لم نخطئ فى المبدأ إنما فقط
أخطأنا فى الحسابات ، تماما كما كان غزو صدام حسين للكويت صحيحا من حيث
المبدأ خطأ من حيث الحسابات ، لكن على العكس كان تجريد أميركا وبريطانيا له
من سيادته على ثلثى أراضيه صحيحا من حيث المبدأ صحيحا أيضا من حيث
الحسابات ، إلى آخر مئات القصص التى ظهر فيها العنف العربى بدمويته التى لا
مثيل لها فى كل التاريخ جليا أقدمه بدأ قبل 14 قرنا وأشهره ما فعله الأتراك فى
أوروپا ، وأوسعه ما فعله العرب فى كل القارات ، وليس أقله شأنا العنف
الفلسطينى–الفلسطينى أو العربى–الفلسطينى . وأسماء مثل جسر الباشا وتل الزعتر
وأيلول الآسود ...إلخ تجزم بأننا لم نكن فى أى وقت أقل دموية من أى أحد على وجه
الأرض وإن لا تجزم بالضرورة إذا ما كان ضحايا العنف يستحقونه فى كل الحالات أم
لا ) . بل العكس بالضبط هو الصحيح . باختصار لو أن الشعوب الأخرى
فعلت بالعرب والمسلمين حين دحرتهم ، نفس ما فعلوه هم بها من قبل ، لما
بات لدى عالمنا المعاصر مشكلة وجود عربى أو إسلامى أصلا اليوم . هذه ليست
دعوة للإبادة ، إنما شىء بالشىء ذكر بمناسبة الكلام عن المعايير
المزدوجة !
من هنا ليس بمدمر لنا أكثر من التمسك بذات المقولات
بينما موازين القوة لا تكف عن الإنسحاب من تحت أقدامنا ( المضحك المبكى أننا
لا نتمسك بمقولات غابرة جدا إنما فقط بمقولات الأمس القريب التى رفضناها قبل
قليل فى ظل توازن قوى آخر مختلف قليلا ، أى أننا فقط متأخرون بخطوة واحدة
لكنها كافية لضياع جميع الفرص ، وبالمناسبة فتعريف التخلف هو التأخر بخطوة
أو أكثر عن طليعة العالم ، وليس له تعريف أو مواصفات محددة أكثر من
هذا . أما عن الموقف التاريخى الصحيح بالنسبة للفلسطينيين ، فهو فى
رأينا المتواضع قبول الاحتلال الذى سيجعل منهم مواطنين ولو حتى من الدرجة
الثانية فى واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها تقدما ، بدلا من استقلال لن يجلب
إلا الفقر والمهانة والتخلف ) . أن العاطفية وحدها هى التى جعلت
حياتنا سلسلة من الأسئلة التراچيدية المحزنة ، على غرار ماذا لو ناصرنا
عقلانية عدلى ضد غوغائية سعد ، ماذا لو قبلنا قرار التقسيم ، ماذا لو
قبلنا شروط الصلح بعد حرب 1967 ، ماذا لو قبل العرب كامپ ديڤيد ،
ماذا لو ساندنا رابين أيام كان فى السلطة ، ماذا لو كنا طرفا فى [ فى الحقيقة هذا الموقع لا
يؤمن كثيرا بفكرة توازن القوى ، إنما لأسباب كثيرة يؤمن فقط بسيادة قوة
واحدة ، انظر هذه اللمحة الأولية بالأسفل ثم
أتيح لنا فى وقت لاحق مناقشة هذا تفصيلا فى صفحة الجلوبة ] . ويبدو أننا سنظل فى هذه الدوامة أبدا ، وليس
مستبعدا أن نقول يوما : ماذا لو ساندنا نيتانياهو أيام كان فى
السلطة ، أو ماذا لو قبلنا مدريد 2 …إلخ …إلخ . إننا نجيد الرفض وزعيق
الاحتجاج ولا نجيد فعل أى شىء ملموس دع جانبا أن يكون هذا الشىء عقلانيا ،
وأمثلة الأفعال الهوجاء من التاريخ الحديث وحده لا تنتهى بدءا من هوجة الدهماء المتعصبين
دينيا ضد ناپليون ( هذه أوصاف الجبرتى وليس أى أحد آخر لها ) مرورا
بهوجة عرابى ( هذه تسمية الشعب المصرى وليس أى أحد آخر لها ) وحتى
هوجة الصبية المبشرين بالجنة ( هذه ليست تسمية أحد إذ أسموها الانتفاضة
الفلسطينية ، وهذا مؤشر طيب لمسار الانحطاط المتفاقم ! ) .
هذه وتلك كلها هى العاطفية عينها ، إذ يبدو أننا فى عقليتنا العربية نعتبر
الكلام هو الفعل ( بمجرد أن يسمى صدام هزيمته المنكرة ’ أم
المعارك ‘ يصبح منتصرا . العامية العربية لا تعدم أيضا السخرية من هذا
بكلمات مثل فشخرة وشمخرة …إلخ ، لكن الجميع يفعلون هذا ولا يشعرون به إلا
عندما يفعله الغير ! ) . باختصار ، لم يفوت الفلسطينيون
والعرب عامة ، فرصة لإهدار الفرص إلا واغتنموها ! وهذه الورقة تكتب
لأنها لا تزال ترفض قبول الانفعالية أو عقلية الصراخ كقدر چيينى لا فكاك منه
( ولا نعلم إن كنا على حق فى هذه الفرضية أم لا ، لكننا ببساطة لا
نملك فى هذه اللحظة بدائل أخرى ) .
تملأ الصحف والأدبيات العربية اليوم مصطلحات جامحة
الرنين مثل خروج العرب من
التاريخ ، وأن الخطوة المنطقية التالية ، وهى أن يأتى من يطردهم من
الجغرافيا ، وهذه مسألة وقت وليس إلا …إلخ .
بل أن بعض كبار المفكرين العرب من المشهود لهم تقليديا بالرصانة بل وقومية
التوجه ، بدأ يفتح بالفعل أحاديث الزوال وانقراض الأمم وآليات الانقراض …إلخ .
كل هؤلاء محقون فى أمر جوهرى حتى وإن لم يشيروا إليه صراحة ، وهو أن خيار
السلام سالف الذكر –لا نقصد الشامل الپيريسى فهو مستحيل أصلا ، إنما الجزئى
أى مع الجناح العربى المعتدل وضد الجناح المتطرف– سوف يفلت سريعا من أيدى العرب
ككل ولن يكون مسموحا لهم به بعد قليل ( نيتانياهو لا يريد أى علاقة من أى
نوع مع العرب ) . وحتى لا نستخدم كلمة الاستسلام المقيتة على
النفوس ، نقول إننا كجناح عربى معتدل يجب أن نتجاوز مستوى التمنع الحالى
بالذات المصرى–الخليجى وأن نعيد جذريا وعلى الصعيد السيكولوچى النظر فى علاقتنا
بالمنتصرين . ( الذين وصلت درجة انتصارهم مثلا أنهم لا يعبأون حتى
باقتراح بمنحهم مقعدا دائما فيما يسمى بمجلس الأمن ، مؤكدين ربما أنهم
الدولة الوحيدة على ظهر الجلوب ‑بما فيه الولايات المتحدة‑ ذات
الموقف المبدئى الذى لا يعترف بمثل هذه المنظمات باعتبار أن لا هدف لها إلا كبح
عملية الانتخاب الطبيعى على الكوكب باسم تقنينها أو منع الحروب
…إلخ ) . كجناح عربى ينشد المستقبل علينا ببساطة مؤلمة أن نحول
علاقتنا بهم إلى علاقة من التتلمذ
النجيب أو prolific
apprenticeship ذلك بقدر ما يسمح به
هؤلاء وتسمح به معادلاتهم ومصالحهم الاقتصادية ( لغة أخرى يفهمونها كما لغة
السلاح ) ، فتلك هى الخطوة الأولى التى لا مفر منها لاكتساب التقنية
وتنمية البشر ، ومن ثم بناء القوة الذاتية . أو بمعنى أصح الخطوة
الأول للانتقال من الجانب الخطأ لمعركة الحضارة إلى الجانب الصحيح منها .
إن ما نراه الآن أن المشهد الثقافى والسياسى العربى واقع بالكامل تحت إمرة جيل المهزومين ( حتى
وإن انحسر هؤلاء نسبيا عن المسرح الاقتصادى فى عدد غير قليل من
الدول ) . والجزء المخيف فى المشكلة أن هذا الجيل عُجنت عقوله
بالهزيمة ( التى صنعتها أساسا طريقته فى التفكير ) بدرجة وسواسية لا
يمكن إصلاحها ، وثبت أنه من المستحيل لهؤلاء المهزومين تجاوز هزيمتهم أو
حتى التخفيف من الموقف الپارانويى لهم تجاه الآخر ، وتحديدا تجاه كل ناجح
أو منتصر فى هذا الآخر ، فما بالك إن كان هذا الآخر هو الأنجلو‑يهودى . بفضل جيل الهزيمة هؤلاء ، سيكولوچيتنا باتت مركبة مما يلى : 1- من سيكولوچية العبد الذى أكل
روحه الحقد على من هم أفضل منه ، أعماه عن رؤية أى شىء آخر طيب أو ردئ فى
الحياة حوله ، وجعل بصره لا يحيد للحظة إلا عن النعم التى يتمتع بها سيده
ويرى أنه الأجدر بها منه ( مؤخرا كتاب لباحث مجهول الهوية اسمه ع .
ع . بعنوان ’ تراث العبيد ‘ 1995 عن المكتب العربى للمعارف حلل
هذا مطولا ) . 2- ومن سيكولوچية القنفذ الذى
يرى الكل متآمرا عليه ، وتعميه پارانويته ونسخته العدوانية من
الجيتوية ، عن رؤية أى مستقبل لنفسه قبل لأى أحد آخر ( القنفذ
أعمى : أولا يرجع نجاح الغير كالصهيونية أو الغرب مثلا لكونهم
أشرارا ، لديهم لوبى وإعلام ومؤامرات سرية …إلخ . ثانيا يخسر حتى
أصدقاءه فلا يرى مثلا أن كل هذا الإعلام الغربى إعلام يسارى يقف فى الواقع فى
صفه هو وصف تخلفه . ثالثا ينتهى لعداء الجميع ، حيث بما أن المنتصرين
انتصروا لأنهم أشرار ‑وليس لأنهم متقدمون أو متحضرون أو جادون أو أى شىء
من هذا القبيل ، فالحل هو أن يصبح هو أكثر شرا وقتلا وإيذاء ووحشية من
الجميع . ورابعا حين يهزم ‑ولا بد أنه سيهزم بالضرورة كما الحال
دائما مع الفريق المصرى لكرة القدم ، يقول سأجرب مرة أخرى وسأكون فيها أكثر
شرا ووحشية ، وطبعا كالعادة يكون واثقا من النصر فى هذه المرة التالية ذلك
كما كان يفعل فى كل مرة . والأسوأ من هذا وذاك أن يكون كله فى أغلب الأحيان
بالصراخ فقط لا أكثر ، ولا يأتى ذاك العقل العربى المغوار بشىء يذكر من ذلك
الانتقام الجبار الذى يتوعد به مجانا أعداءه الموهومين طوال الوقت ،
والنتيجة أن أصبح ذلك القنفذ يأخذنا فى فيلم سيريالى رخيص لا ينتهى أبدا عنوانه 3- ومن سيكولوچية الشحاذ الذى
تنحصر علاقته مع الكبار فى المطالبة بالـ ’ حقوق ‘ ، ويعميه مبدأ
خذ وطالب هذا الذى لا ينتهى أبدا عن حقيقة أنه هو نفسه لا يشتغل شيئا ( خذ وطالب
هى الجوهر من سيكولوچية الشحاذ المميزة للعقل العربى الطفيلى المتوحش ،
وعكسها سيكولوچية البيزنس ، خذ وهات ) .
4- ثم أخيرا ، ولعله الأكثر جوهرية وأصالة ، من
سيكولوچية قاطع الطريق ، حيث سرقة موسى ( المرخص له من السماء بأن
يملك كل أرض تطأها قدمه ) لذهب المصريين أو قطع محمد ( المرخص له من
السماء بكل شىء ) لطريق قوافل أثرياء مكة فى غزوة بدر هى مجرد لحظات رمزية
فى تاريخ المنطقة وتاريخ عقلية أهلها البدوية تبين أن الكدح والبناء ليسا مطلقا
من الأچندة إن لم يكنا محرمين أو يجلبا العار لصاحبها ، وأن قطع الطريق
وحده هو الفعل الذى يرقى لمستوى القداسة . هذا شىء متأصل فى الچيينات
البدوية للمنطقة ، من قدامى اليهود حتى العرب المعاصرين . البدوى لا
يفعل أكثر من أن يأخذ غنمه ليرعى فى منطقة ما ، وحين تأكل أغنامه العشب
وتصبح جرداء ، يأخذها لمنطقة أخرى وهكذا . أما هو فلا يفعل فى كل
حياته شيئا سوى الاستلقاء على ظهره أو معاشرة النساء ، وحين يحدث ويتصدى له
صاحب الأرض يقتله بدعوى أن الأرض أرض الله والمال مال الله ، وقد ذهبت إلى
هذا عن طريق الخطأ ( وربما نعود تفصيلا لفكرة كيف ولماذا مجدت التوراة
الراعى على حساب الزارع ، وجعلت الأول رمزا للنقاء والورع والثانى رمزا
للشر وأسحار الشيطان ، ذلك منذ قصة هابيل ضد قابيل ويعقوب ضد عيسو وهلم
جرا ) . باختصار : للأسف نحن مصممون چيينيا كقطاع طرق وليس كبنائين .
وظيفة البنائين أن ينبوا المدن ووظيفتنا نحن أن ننهبها ( ع
الجاهز ! ) . وهذه على الأقل هى عينها سيكولوچية اللص
الصغير ، التنويعة أو التفريعة المتواصلة مثلا حتى عبد الناصر فى سرقة قناة
السويس من ملاكها وكذا تأميم بقية أموال المصريين والمتمصرين وغير المصريين ثم
محاولة خنق إسرائيل بإغلاق المضايق سنة 1967 ، كلها فى غفلة من الزمن وفقط
اعتقادا أنها سرقة ستمر بسلام ولن يعاقبه أحد عليها . هذه ‑ولعلها
مسلك مصرى خالص أكثر منه عربى أو لعلها تنبع مما ما يسمى فى الشخصية المصرية
بالفهلوة‑ ليست حتى سيكولوچية اللص الكبير المحترف ، بل هى أسوأ
الأشياء إطلاقا ، لأنه يدرب شخصياتنا على أن تكون فى منتهى الوضاعة غير
مستعدة لمواجهة نتائج أفعالها ، أو مواجهة أى أحد أقوى كان أو حتى
أضعف ، ناهيك عن تربية السلوك المستقيم مع النفس قبل مع الآخرين ، أو
باختصار إنه مرة أخرى حديث الاستعمار والاستخراب ! [ حللنا لاحقا فكرة اللصوصية الصغيرة هذه تفصيلا فى مدخل مطول بمناسبة الذكرى الخمسين لما
يسمى بثورة يوليو . أما فكرة تحريم دين كالإسلام للبناء والكدح صراحة وشرعا
فأصبحت اقتباسا عن ابن العباس تصدر صفحة الحضارة
التى صارت كلها معنية بالشأن الإسلامى ( انظر تفاصيل ذلك
’ الاكتشاف ‘ فى صفحة سپتمبر ) ،
ثم تمددت لصفحة أخرى كاملة هى العلمانية تختص
بمزيد من الأضواء على الدين عامة ] .
الأسوأ من كل هذا ، أننا لا نكاد نرى بوادر
لانسحاب هذا الجيل ‑الجيل الذى يجدر تسميته بجيل الهزيمة ، هذا إن
كان لأحد عندنا أن يحب تسمية الأشياء بأسمائها ، انسحابه فى هدوء
كريم ، وتخليه عن مكانه لجيل آخر لم يهزم وليس لديه نفس المرارات والأحقاد
والعقد ، يقبل على عالم المستقبل بفهم واقعى لمعطياته ومعادلاته الطبقية
والثقافية والسلوكية ، بل العكس بالضبط هو الصحيح إذ لم يعد لذلك الجيل من
رسالة مقدسة اليوم سوى توريث تلك الأحقاد ومشاعر الهزيمة بمنتهى القوة والقسوة
لكل الأبناء والبنات ( الشق المضحك فى الأمر أن بعض هؤلاء المهزومين يدعى
التقدمية ، بينما المستحيل على المرء أن يفهم كيف يقول إنسان عن نفسه أنه
تقدمى ويكرة دولة أو دولتين هما الأكثر تقدما على مستوى العالم ) .
ببساطة إن خيارنا الإستراتيچى لا هو السلام ولا هو الحرب إنما لدينا خيار
استراتيچى دائم وثابت ووحيد هو اللا سلم واللا حرب . ففى السلم تصبح
هزيمتنا صريحة اقتصاديا وتقنيا وحضاريا وفى الحرب تصبح هزيمتنا صريحة
عسكريا ، أما فى اللا سلم واللا حرب فتكون الهزيمة ذات شماعات وحجج جاهزة مسبقة
( هذا هو مثلا تفسير سياسة حافة الهاوية التى يتبعها الفلسطينيون مع
إسرائيل سواء من خلال المفاوضين أو من خلال غوغاء الشوارع ، فالواجب أن
تعرف أولا من هو عدوك بدلا من أن تظل تهز ذيله مراهنا أنه لن يبطش بك فى لحظة
ما ، لكنك فى الواقع لا تريد حربا أو سلاما إنما مناوشات إلى الأبد فقط
تشبع الكرامة المزعومة ، ناسيا كالعادة أن لا مهانة أشد من الفقر والتخلف .
ثم قل لى بحق عروبتك إذا ما حل السلام ماذا ستكون وظائف الآلاف الذين لا رزق لهم
حاليا إلا النضال بدءا من رئيس جمهورية سوريا حتى
إن علينا أن نعيد صياغة علاقتنا بالدول الأكثر
تقدما ( بما فيها تلك التى دخلنا فى حروب مباشرة معها يوم رفضنا قبل خمسين
عاما ذات ’ الشرعية الدولية ‘ التى وضعتها وسطنا ثم عدنا لنتمسح فى
هذه الشرعية عينها بعد قليل ) . والعلاقة بين المهزوم والمنتصر لم
يحصرها التاريخ يوما إلا فى ثلاث خيارات لا رابع لها ، هى بترتيبها المرحلى
السلام أو الاستسلام أو الزوال ( أو بالأحرى الإزالة ) . ولا
يختلف عربيان اليوم على أن المرحلة الأولى قد طويت صفحتها بلا رجعة فى مطلع عام
1996 يوم اختار هؤلاء الأعداء حكومة جديدة قوية ووصموا حكومتهم السابقة اليسارية
بالتفريط والتخاذل ، وربما كان رأيهم هنا أن بنيامين نيتانياهو هو أعظم رئيس وزراء فى تاريخ إسرائيل ‑ربما أعظم من بن جوريون نفسه‑ إذا كان رأس جدول أعماله
فتح أبواب الصين والياپان والهند أمام إسرائيل أسواقا وتقنية ...إلخ وهو طموح لا
يقارن مثلا بطموحات سابقيه رابين‑پيريس فى التواجد العسكرى فى القوقاز ذو
الخلفية الإسلامية لملء الفراغ الناشىء عن انهيار الاتحاد السوڤييتى .
هذا التوسع الذى كان الأول من نوعه بالنسبة لإسرائيل التى تعتبر توسعها فى
المحيط العرب مجرد دفاع عن النفس ، ليس بالطموح ذى الشأن مقارنا بالرؤية
النيتانياهوية لمستقبل الدولة اليهودية . ببساطة وصراحة وبكل
الأسف : فى عهد رابين‑پيريس أرادت إسرائيل مقايضة التخلى عن بعض أرض
1967 سياديا ، مقابل احتلال كل أرض العرب اقتصاديا . لكن حتى هذا لم
يعد معروضا ، ببساطة لأن من الواضح أن الاتفاقية المسماة أوسلو ‑التى
هى من بنات أفكار اليسار الإسرائيلى عقدها مع اليسار الفلسطينى تحت رعاية اليسار
الأميركى‑ لن تنجح أبدا . يوم 5 يونيو 1967 كان كل الفلسطينيين كمن
دخلوا الجنة فجأة . كمن حصلوا من حيث لم يحتسبوا على بطاقة خضراء جماعية
للهجرة لبلد تعادل أميركا فى تقدمها وازدهارها . تحركوا بكل الحرية ونالوا
كل الخيرات الممكنة من العيش فى بلد أجنبى مرفه مزدهر . بعد عشرين سنة من
هذا ظهر من بينهم المتطرفون الإسلاميون يقولون ليس المهم الرفاهية المهم إلقاء
إسرائيل فى البحر ، ليس المهم جنة الأرض المهم جنة ما بعد الموت .
قامت الانتفاضة وورثها اليسار الأوسلوى . عاد المحرض عرفات بأچندة اسمها
الاستقلال . وككل من حصل على الاستقلال سيحصلون معه حتما على الجوع والفساد
أيضا . أوسلو كارثية ليس من منظور فلسطينى فقط ، بل إسرائيلى
أيضا . إنها تعطى الفلسطينيين أكثر مما يجب ، ورفع سقف الآمال
الفلسطينية من منظور ذوى الحناجر الفلسطينيين يخلق وضعا مثاليا لتشجيع
الإرهاب ، يسمح لمجرد عملية تفجيرية واحدة بتغيير نتيجة الانتخابات فى
إسرائيل . النتيجة أن ها هو بنيامين نيتانياهو على قمة السلطة ، ولا
يريد شيئا من العرب طيبا كان أم سيئا ، ويبنى سياسته العربية على حكمة
بسيطة يقول إنه تعلمها من خلال اشتغاله كرئيس لوفد إسرائيل فى الأمم
المتحدة ، وهى أن لا تذهب للعرب قط ، بل دعهم هم يأتون إليك ،
وبما أن العرب هم المستفيدون من السلام فدعهم هم الذين يسعون إليه ، أما
إسرائيل التى فتحت الياپان والهند والصين فلن يفيدها السلام العربى فى
شىء ! إن المرء ليشفق حقا على العرب
حين يحاربون ما يسمونه مؤامرة إسرائيل الكبرى من النيل للفرات ، بينما
نيتانياهو يتحرك فى دولة إسرائيلية تمتد من طوكيو للوس أنچليس ، وموقع
العرب فى طاولة أشغال هذا الزعيم الجديد فهو جديد مثله بل ومبتكر حقا : أن
يتجاهل وجودهم كلية ! يتركهم يحاربون مثلا طاحون الهواء المسمى التطبيع
الذى لم يعد هو يريده أو يهمه فى شىء . [ تكرر أن غيرت عملية تفجيرية أخرى نتيجة
الانتخابات ، وأتت باليسار من جديد ، فما كان من تهادن باراك المقيت
إلا أن زاد الطين بلة . بعدها أصبح المجتمع الإسرائيلى فى اندفاع هائل نحو
اليمين بحيث لم يعد للعمليات الإرهابية إلا أن تزيده عزما . بحلول القرن
الجديد أصبح الليكود تحت زعامة آرييل شارون هو الوسط السلامى المتخاذل ،
متحالفا فى الحكم مع بعض يمين الوسط ويسار الوسط ، بينما اليمين الحقيقى
الذى لم يدخل الحكم قط موقنا أكثر من أى وقت مضى أن السلطة تزحف إليه تستجديه
استجداء كى يفرض رؤيته الحضارية ماضية العزم على المنطقة
فرضا ! ] .
من هنا يشفق المرء كثيرا على من
يسمون فى المقابل دعاة السلام العرب . هم يراهنون على اليسار الإسرائيلى
الفاشل المعدم والمفلس تاريخيا . صحيح أنا ممن يدعون للواقعية ، لكن هؤلاء
يخطئون الحسابات لا أكثر ، هذا إن لم يكن بعضهم يبنيها على نظرية عربية
تولع بالحلول طويلة المجرى الأبعد ما تكون عن الواقعية ، تقول خذ وطالب
( يقال صحيح أيضا أنا ممن قالوا يوما إننا لا يجب أن نهرول نحو السلام بل يجب أن نعدو عدوا ، لكن هذا كان بشرط سأذكره حالا ، لكن الجديد أن السلام
نفسه أنه لم يعد معروضا أصلا اليوم . فببساطة ومنذ تغير السلطة فى إسرائيل
لليمين لم يعد العرض قائما وبات ما يسمى التطبيع مجرد حلم تاريخى من أيام رابين‑بيريس وليس إلا ، تجاوزته حركة التاريخ إذ كان يعبر عن لحظة ما من
لحظات النمو الاقتصادى الإسرائيلى ولم يعد لها حاليا ما يبررها . بعد ذلك
ربما لا خلاف يذكر على أنهم لن يعيدوا اليسار للحكم أبدا إلا فى لحظة يحدث وتصبح
فيها أكثر يمينية من اليمين ( على غرار تجربة حزب العمال البريطانى ،
علما بأن مصطلحات يمين ويسار هى فى التحليل النهائى تعبير عن موقف من قانون
الانتخاب الطبيعى إما بإطلاقه وتحريره بين كل أفراد المجتمع ‑بالمناسبة لم
يعد الصراع بين طبقة وطبقة‑ وإما بمحاولة مصادرته وتكبيله ، وهذا هو
سبب أن كل التيارات اليسارية التى شهدها العالم بدءا من كرومويل والثورة
الفرنسية وحتى الاتحاد السوڤييتى هو مآلها التلاشى بعد برهة قصيرة ،
ذلك أنها ببساطة تناطح أكثر القوانين قاعدية على وجه الكون ) . لكن أنا أيضا ممن اعتقدوا فى نفس الوقت أن ما يسمى السلام الشامل ليس الخيار الصحيح للمنطقة ، إنما قبل كل شىء ضرورة تكاتف الجهود إقليميا ودوليا لإسقاط
بؤر التخلف التى تشد المنطقة للوراء ، ونقصد بها تحديدا فلول التطرف القومى الناصرى–البعثى ممثلة فى
ريچيمى حافظ الأسد وصدام حسين ، زائد طبعا ريچيم خومينى وتلاميذه الإسلامى
المتطرف فى إيران ، أى القمم الثلاث لما يسمى جبهة الرفض ( المعروفة
دلالا أو تدليلا باسم جبهة الصمود والتصدى ) ، تلك التى طالما غررت
بمصر وكل العرب لدخول الحرب تلو الحرب والهزيمة تلو الهزيمة بمزايداتها
الغوغائية ، وهى التى ناهضت وقتلت أنور السادات وصنعت النصب لتكريم
قتلته ، وهى التى غزت الكويت إلى ما قبل خمس سنوات فقط مضت . ولا يزال
هؤلاء الثلاثة بالذات لم يتزحزحوا قيد أنملة عن أچندتهم الخرابية الشاملة .
هذا هو الشرط الذى قصدته لسلام على أسس قويمة ومفيدة مع
إسرائيل .
إن السلام
مع استمرار هذه الريچيمات الثلاثة هو كارثة أسوأ من كل حرب ، وسوف تعوق مثلها تماما آمال المنطقة فى التحضر والتنمية
الحديثة والاندماج فى المنظومة الجلوبية العصرية . الواضح أن هذه الفكرة
بدت بكرا فى نظر الكثيرين ولم تبد هناك أى إرادة لتنفيذها سواء فى أميركا أو حتى
فى إسرائيل ، ناهيك عن العرب . الآن باتت الأمور أكثر نضجا : عاد
اليمين القوى للسلطة فى إسرائيل ومن الممكن أن يتبنى دونما التميع السياسى
التقليدى مثل هذه التغييرات الطموح للأفضل فى خريطة المنطقة ، عربيا وقع
الأردن اتفاقية سلام نشطة وناجحة مع إسرائيل ، ومسيرة السلام الفلسطينى
تسير باضطراد وتفهم متبادل وفى نهاية المطاف غالبا ما يتم تذليل أى عقبات
تعترضها ، تركيا جاهزة من خلال إرادتها السياسية الماضية دائما أبدا ومن
خلال مصالحها الواضحة ضد الريچيمات الثلاث البالية وأخيرا من خلال حلفها العسكرى
رهيب الجانب مع إسرائيل . أخيرا نعتقد أن دول الخليج بعد تجربة حرب الخليج
باتت أكثر انفتاحا على فكرة تجييش الجيوش ضد ريچيمات الرفض العربية ، أما
مصر فسجلها رائع لا يبز ولا يمكن المزايدة عليه إذ قد دخلت مثل هذه الحرب ثلاث
مرات كاملة وفى ثلاث جبهات مختلفة حتى الآن ( إن أضفنا لحرب تحرير الكويت
صدامها مع ريچيمى ليبيا والسودان المتطرفين فى وقت لم تفكر فيه حتى أميركا نفسها
فى اتخاذ أى إجراء ضدهما –لا يزال هذان ريچيمان متطرفان وإن كانا أضعف من أن
يؤثرا فى مصير المنطقة ، ناهيك بالطبع أصلا عن أن علاقاتنا بإسرائيل أقدم من علاقاتنا بمعظم البلاد
العربية ، والتى لم تبدأ إلا سنة 1989 مع عودة الجامعة
العربية للقاهرة ) ، ليبق فقط بعد ذلك أن تتبنى أميركا الفكرة ويبدا
بعدها حشد الجهود من أجل مستقبل عربى جديد بمعنى الكلمة ، ومن أجل شرق أوسط
حقيقى وليس مرقعا على طريقة شيمون بيريس المعيبة وشبه الوهمية .
على أنه من المضحك فى هذا السياق أن مثقفينا
يمارسون ذلك المسمى ’ التطبيع ‘ بنفس طريقتنا الركيكة المعتادة كأن
بدأنا نسمع مثلا عن منظمات مصرية للسلام مؤسسة عادة من مهزومين مخضرمين ،
هدفها إقامة التحالفات مع جناح المعارضة الخاسر وشبه الهامشى حاليا فى
إسرائيل ، بينما لا نرى قط من يحاول إقامة جسور الصداقة مع رجلها القوى
الذى تبوأ السلطة فى 1996 ، إن لم نقل مع رجلها الأقوى الذى يجب أن يخلفه
وهكذا . ونيتانياهو يتنبأ ببساطة أن الناتج الداجن الإجمالى GDP لإسرائيل سيفوق الناتج الداجن لكل العرب بما فيه الدول
الپترولية بحلول عام 2007 أو 2008 . والمعادلة هنا
بسيطة وسهلة لكنها شبه غائبة عن الجميع ، فطالما أرقام الناتج الداجن تشهق
وتشهق فلن يجد الضعفاء سبيلا إلى عجلة السلطة فى إسرائيل أبدا . إننا لا نرى الجانب المستقبلى الأشمل للصورة :
اليهود تاريخيا وتقليديا هم يساريون ، من ثم فهم يقفون وراء الحزب
الديموقراطى فى أميركا ، وكذا يمدون بتأييدهم ونفوذهم بقية قوى اليسار فى
العالم . الآن هم أكثر ثراء وجبروتا ويتحولون لليمين . هذا سيؤدى على
مجرى غير بعيد إلى تغيير فى موازين القوى الحزبية داخل أميركا ، وببساطة لن
يكون لليسار أى مستقبل كما فى الاتحاد السوڤييتى سابقا ، كما فى
إسرائيل حاليا ، كما فى أميركا قريبا ، كما فى بقية العالم ليس بعد
وقت طويل . …
كل هذا يقود لمصطلح
آخر هو التبعية . التبعية شىء
طبيعى ، فنحن فى عالم واحد مجلوب ، أو قل كائن حيوى أو متعضية living organism واحد ، نشأت الأسس الموضوعية له من خلال ثورة
الاتصالات والمعلومات وقنوات الساتيلايت وشبكة الإنترنيت والهواتف الخليوية التى
ستصبح رخيصة وفى كل يد وتحملها معك لأى مكان فى العالم حرفيا ، هذه ستصبح
شبكة الأعصاب لجهاز عصبى مركزى واحد لتلك المتعضية . وأيضا من خلال التداخل
والتكامل الشديدين للعملية الإنتاجية فى الاقتصاد العالمى ، الدورة الدموية
التى تضخ وتوزع مصادر الغذاء والأوكسچين والثروة من الأماكن المتخصصة فى إنتاجها
بكفاءة وتخصص إلى الأماكن المحتاجة لاستهلاكها . كما اجتاح التخصص النظام
الاقتصادى ، يجب أن يصبح النظام السياسى متخصصا أيضا . نعم سيكون هناك
تخصص ، وسيكون هناك مخ وسيكون هناك عضلات ( وأيضا سيكون هناك
فضلات ! ) . نموذج الأمم المتحدة ، أو بالأحرى نموذج
الجمعية التعاونية ، أو النموذج الطحلبى البدائى ، الذى يروج له
بشراسة ، لا يصلح نهائيا هنا ، بل هو تحديدا الذى لم يؤد تاريخيا لأى
مكان إلا لاضمحلال وانهيار الحضارات . هو يرى ويريد العالم كيانا متساوى
الخلايا وظيفيا وقيمة ، بينما الثورة التقنية والاقتصادية ثورة تتضرع طالبة
قيادة عليا ، مركز وظيفته الرؤية الشاملة والتوجيه ، ثورة تستصرخ أن
لن يكتب لها البقاء ‑ناهيك عن الازدهار والنماء‑ دون نموذج
إمپراطورية كوكبية ، نموذج البيزنس الذى تدار به أية مؤسسة أو شركة أو جيش
أو أى شىء بأدنى قدر من الاستعقاد على ظهر الأرض ، متعضية متخصصة بمخ
وعضلات شديدى التمايز عن بعضهما البعض . سنعود تفصيلا للكلام عن نموذج الأمم المتحدة ونموذج
الإمپراطورية ، لكن ما يهمنا قوله فى هذه المرحلة إن قطعا سيكون هناك قائد ومنقاد ، وما سيحدد
كونك قائدا أم تابعا هو فقط مستواك التقنى . نعم وبصراحة تامة ، طالما
هناك فجوة تقنية فالتبعية ليست إجبارية فقط ، بل هى شىء جيد . بعبارة
أخرى : إذا كان من ثمة تعريف لما يسمونه بالأمن القومى ، وإن كنت أشك
أن لا زال للكلمة معنى أصلا فى عصر الجلوبة ، فهو ينحصر فى كلمة
واحدة : التبعية ! علينا أن نعلن بوضوح تعريفنا لهذا ’ الأمن
القومى ‘ . إنه البناء الاقتصادى . إنه ربط عجلتنا بالعالم المتقدم .
هنا يكمن أمننا القومى الحقيقى . أن نكون جزءا من العالم المنتج
الفاعل . جزءا صغيرا أو كبيرا ، بقدر إنتاجنا وقدرتنا على
الفعل ، بقدر اقتصادنا ، وليس أى شىء آخر . لا عيب فى الارتباط
بالمتقدم . العيب فى زعامة التخلف والمروق أو ما يسمونه ’ الصمود
والتصدى ‘ . صمود وتصدى من أجل ماذا ؟ ولأين سيصل بنا الصمود
والتصدى فى آخر المطاف ؟ لن تذهب بنا لأى مكان . للخراب
والدمار . كل يوم الهوة التقنية تزداد وتتسارع ، والشعارات تفاقم
الفجوة ، ولا حل إلا ’ التتلمذ النجيب ‘ . نعم ، كل ما
نفضله ونتمناه أن تكون تلك تبعية خلاقة ومنتجة ، ومن هنا نكرر أن كلمتى
التتلمذ النجيب هما بالضبط التعبير الدقيق عن الصيغة التى يجب أن ندافع عنها فى
علاقتنا بمن هو أكثر منا تقدما أيا من كان وأيا كان ماضينا السئ معه . وهذا
ما سنحاول الآن الدخول فى تفصيلاته بعض الشىء ، تحت عنوان نود له اسما هو الحلف
الحضارى .
إن حلفنا الحقيقى يجب أن يكون
مع اليمين الإسرائيلى . هو عمقنا الستراتيچى ونحن عمقه الستراتيچى ، فى معركة المنطقة ضد التخلف وذوى
الشعارات . والسلاح النووى الإسرائيلى هو صمام الأمان الأكبر للمنطقة
لتخليصها مرة واحدة وللأبد من التحريض القومى واليسارى والإسلامى ،
والتركيز على التنمية بلا منغصات . مصر هى المؤهلة تاريخيا
لقيادة مثل هذه المبادرة ، بحكم أنها لم ولن تكون عربية عرقيا ، وكانت
بحكم ثقلها الديموجرافى وعمقها التاريخى هى أقل شعوب المنطقة تأثرا بالغزو
العربى ، هذا الذى لم يفلح كثيرا فى إحداث تغيير كبير فى طبائع أهلها
وميولهم أو حتى معتقداتهم الدينية ، وأهم ما فيها جميعا ‑وفيما يخص
موضوع هذه الدراسة‑ استعدادهم لمعانقة الغير المتقدم والترحيب به والتآخى
معه طالما هو بالقوة الكافية ليحمى هذا الشعب من تهديدات الجيران المتخلفين
اللصوص أو من استوطن من هؤلاء الأعراب أرضه أو صحاريه .
اليسار الإسرائيلى يتمنع تجاه طرح كهذا ويتمسك كما
رأينا بمفهوم عقيم اسمه السلام الشامل ، ناهيك أصلا عن أنه ككل يسار العالم
شىء عفا عليه الزمن . بينما اليمين الإسرائيلى فهو الوحيد القادر والمستعد
معا ، لاستخدام كل شىء بما فيه القوة العسكرية ( إن لم يكن النووية
ربما ) من أجل الهدف الحضارى الأسمى لمنطقة تنموية مزدهرة خالية من
الشعارات وحكم التحريضيين قوميين أو شيوعيين أو إسلاميين أو أيا ما كانوا .
ربما لم يكن اليمين الإسرائيلى كذلك حتى وقت كبير . كان اقصى مات يصل أليه
من جرأة ، هو أطروحة توازن القدرة Balance of Power ، ورغم النظرة
اليسارية لها كسياسة تسلحية عدوانية ، هى فى الحقيقة أطروحة سلامية فى
جوهرها ، كل ما تعنيه أن لا تتفاوض إسرائيل من موقف الضعف ، لأن هذا
لن يأتى بالسلام أبدا . بهذا المنطق أعاد اليمين الإسرائيلى كامل سيناء
لمصر ، وكان أقصى ما طمح له من توسع هو بعض المستوطنات هنا وهناك .
اليوم ومع عودته تحت راية بنيامين نيتانياهو اختلف الأمر . نحن أمام يمين
قوى إيجابى توسعى ( وقطعا علمانى ) ، لن يوفقه شىء فى رسالته
لنشر الحضارة ولو بالقوة ، فى هذه المنطقة المنكوبة حضاريا منذ ظهور
إخناتون ، وحتى تأسيس إسرائيل المعاصرة ، وبسبب هذا التخلف والبداءة
تشكل ، بلغة الچيو‑پوليتيكا ، فجوة ستراتيچية دائمة فى الخريطة
( الواقع أنها فجوة لم ‑وربما لن‑ تردم أبدا ! هل يمكنك
على سبيل المثال إحصاء عدد من احتلوا مصر ؟ ) . نعم ، نحن الآن على نحو أعم وأهم ، اليمين
الإسرائيلى صعد الآن للسلطة بإجماع داخلى مذهل ، وتحديدا من خلال شخصية
متخصصة فى التقنية العالية كالمهندس بنيامين نيتانياهو [ أول ما فعله رحلة
للياپان والصين ، ’ ضمهما ‘ فيها لإسرائيل إن جاز القول ،
وكان كل طموح اليسار قبله ضم الهند شبه الشيوعية ! ] . هذا
اليمين بصورته المشرقة الجديدة هو حليفنا الطبيعى بل والحقيقى ، فى معركتنا
مع التخلف ككل ، وليس فقط بكسر شوكة الريچيمات والتنظيمات المتطرفة .
إنه أعظم حليف ممكن يساعدنا فى تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الجدية المؤلمة ،
ضامنين معه أن يفلح فى إقناع أميركا بما يعنيه حقا الخطر الإسلامى إذا ما حدث
وواصلت مطالباتها الساذجة بالديموقراطية وحقوق الإنسان ، وضامنين معه أن لن
ترفع فى وجهنا فزاعاتها الهبلاء هذه إذا ما حدث وأدى تحرير الاقتصاد لتوترات
داخلية ، أو إذا ما تم البطش الواجب بأحزاب وقوى المعارضة القومية
والدينية . لاحظ أن هذا وضع خاص جدا لا شك سوف تحسدنا عليه أى دولة فقيرة
تسعى للنهضة بعد أن أجهضت أميركا التسعينيات اليسارية باسم تلك الفزاعات ،
مرحلة طموحات النهضات الكبرى فى العالم الثالث على غرار التجربة التشيلية العظيمة للچنرال پينوتشيت
وشبيهاتها ، والتى مررتها أميركا أيام كان ذعرها من الخطر الشيوعى على
أشده . على أميركا ( صاحبة فزاعة
الديموقراطية وحقوق الإنسان الشهيرة ) أن تفهم أن بالأحرى لنا أن تكرر
تجربة النهضة‑بالقبضة‑الحديدية هذه عندنا اليوم . فالخطر
الإسلامى داهم سواء بقلب نظم الحكم المحلية أو بالهجرة للبلدان المتقدمة ،
ومن ثم فهو أخطر بما لا يقاس من الخطر الشيوعى . إنه لا يسعى للمنافسة أو
شىء من هذا القبيل ، بل لدفن الحضارة الإنسانية برمتها فى عصر ظلام
جديد . بذلك سوف تتحقق لنا منافذ لا
حدود لها إلا اجتهادنا واستحقاقنا ، منافذ لأوفر الاستثمارات وأحدث
التقنيات وأرقى الجامعات ، وسوف تأتينا أعظم الشركات وأفضل السياح وأوسع
الأسواق ، والضمانة الحاسمة لكل هذا أننا جزء من حلف حضارى بالمعنى الحرفى
للكلمة ، علمى علمانى عالمى ، يؤمن حقا بالاقتصاد والتقنية والجلوبة
وبالقيم التقدمية والتطورية كما تمليها قوانين تفوقية القدرة supremacy of power الدارونية القاعدية .
إن ما نريد قوله إن الأمل الوحيد
للعرب فى اللحاق بالعالم تقنيا وجلوبيا وثقافيا هو حلف حضارى إقليمى تقوده
إسرائيل تحت نظام حكم يمينى سافر وجرىء فيها . اقتصاديا لن ننطلق
( ولم ينطلق من قبلنا أو بعدنا أحد ) دون أن نكون جزءا تابعا
لإمپراطورية ما ، والوحيد المرشح عسكريا واقتصاديا لإنشاء إمپراطورية فى
المنطقة هو اليمين الجديد فى إسرائيل . أما اليسار الإسرائيلى فهو آخر شىء
يمكن أن يعول عليه ، بل إن أطروحاته عن شرق أوسط جديد دون إزالة حافظ الأسد
وصدام حسين وآية الله أيا كان اسمه ، هى ضرب من الخيال سيكون شيمون پيريس
هو أول المصدومين فى فشل هذا السلام بل وكونه مضرا للمنطقة حيث ستفرغ هذه
الريچيمات الكلمة من أى محتوى تقدمى حقيقى . المشكلة ليست فى وجود السلام من
عدمه . المشكلة فى ما هو الهدف من هذا السلام . الأطروحة المطالبة
بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الكتلى تجعل المرء يشعر بخجل ما
بعده خجل . ماذا لو أصبحت المنطقة خالية فعلا من أسلحة الدمار
الكتلى ، هل سنطالب بجعلها خالية من الأسلحة التقليدية لأنها أيضا متفوقة
جدا إسرائيليا وهزمونا بها ألف مرة ؟ وهل لو جعلناها خالية من الأسلحة
التقليدية سنعود لنطالب بجعلها خالية من العقول التى تفكر ، ذلك حتى يكون
لنا شىء من مجاراة اليهود ؟ إن علينا استغلال وجود إسرائيل
–وهو أمر واقع على أية حال– نستغلها من خلال توظيفها هى وقوتها العسكرية ‑نووية
وغير نووية‑ كصمام أمام كبير لتخليص المنطقة من قوى الرفض والتخلف ،
إن لم يكن لتحقيق جميع الأحلام القديمة–المتجددة ، منذ الخديوى إسماعيل
وكمال أتاتورك وحتى الحبيب بورقيبة وأنور السادات ( حتى مع التحفظ على تدين
هذا الأخير ) ، فى إضفاء الصبغة الحضارية على منطقتنا وعلى شعوبنا
الوحيدة فى العالم ( ربما باستثناء بعض دول أفريقيا ) التى لا تزال
تعيش فى مرحلة ما قبل التصنيع ، وبالطبع تخليصها من قوى التخلف التى تشدها
إلى الماضى . إن وجود أسلحة الدمار الكتلى وما تمثله من طفرة علمية يعطى
منطقتنا هيبة واحتراما فى أعين العالم أفضل ألف مرة من أسلحة الظلام الكتلى التى
لا نملك سواها كعرب ومسلمين ! باختصار : إنه حلف لكل
المتقدمين والراغبين فى التقدم ضد كل الرافضين للتقدم ( ولا نقول
المتخلفين ، إذ ليسوا جميعا رافضين للتقدم ) .
أو بصراحة أكثر : المشكلة ليست فى وجود
مؤامرة أميركية‑صهيونية ضدنا نحن العرب ، بل فى عدم وجود مثل هذه
المؤامرة أصلا ! لسنا فى أقل من الحاجة لتدخل خارجى لفرض قيم الحداثة
فرضا ، سواء على حكام الرفض الشعاراتيين ، أو على الحكام الفاسدين
المناورين اللاعبين على كل الحبال . والبديهى أن التغيير من الداخل
مستحيل ، وما يسمى الشرعية الدولية ( سنناقشه لاحقا ) أتاح لمثل هؤلاء الحكام إحكام شباكهم وقبضتهم على
شعوبهم إما قهرا وإما تضليلا ، بما لا يمكن لها الفكاك منه . بصراحة أكبر وأكبر ، هى ليست حتى مشكلة
حكام ، إنما مشكلة شعوب ، ومشكلة سيكولوچية نظرية المؤامرة التى تتملك
روح العرب وكيانهم ، والمتأصلة فى چييناتهم منذ أزل الدهر . نعم ، المشكلة ليست فى وجود
مؤامرة أميركية‑صهيونية ضدنا نحن العرب ، بل المشكلة عدم وجود مثل
هذه المؤامرة أصلا ! العرب والمسلمون ليسوا بالأهمية التى تجعل أى أحد فى
هذا العالم يستيقظ فى الصباح ليقول بم نتآمر عليهم اليوم ، ثم يقضى بقية
يومه وكل الأيام مغتاظا يغلى يأكله الحقد وهو يحيك الدسائس ضد ما وصلوا إليه من
تقدم وقدرة تقنية واقتصادية وحضارية وعلمية هائلة . لو كان ثمة أحد يتآمر
على العرب والمسلمين فهو فى أقصى تقدير شخص واحد فقط ، هو تشارلز
داروين . عدا ذلك فكل يد فى العالم ممتدة لهم لانتشالهم من تخلفهم
وفاقتهم ، وهم يعضون تلك الأيادى طوال الوقت . تخيل ماذا سيحدث لو قرر
نيتانياهو صباح الغد أن يحزم كل اليهود متاعهم ويعودون لروسيا وپولندا .
سيخرج علينا من يقول إنها مؤامرة أكبر ، يريد أن يحرمنا من القشة الوحيدة
التى توحدنا كعرب ، وأنها خطة مدبرة لإغراقنا فى مستنقع من الحروب الأهلية
يرثون بعدها كل الأرض وحدهم ! باختصار : أنت حين تتعامل
مع العقل العربى أو المسلم فأنت تتعامل مع عقل مريض ، تملؤه الوساوس
والپارانويا ونزعة تدمير الغير وتدمير الذات ، محدود الأفق وتسيطر عليه
بالكامل الخرافة الدينية ، هذا ناهيك عن الجهل بكل ما يجرى حوله فى الدنيا ،
وأهم كل الأشياء والتى تسد الطريق على أى أمل فى العلاج : الغباء
المطلق ! …
لماذا العودة لحدود 4 يونيو 1967 ؟
هذه نقطة اعتباطية جدا من نقاط
التاريخ ؟ لماذا ليست العودة لحدود مملكة داود أو مملكة سليمان ؟
لماذا ليست العودة لحدود الإمپراطورية الرومانية ؟ لماذا ليست على الأقل
العودة لحدود ما قبل غزوة بدر ؟ مشكلة رؤيتنا للصراع الإسرائيلى‑العربى ،
أننا نتخيل أن الجانبين فيه متساويان كأنهما طرفا مبارزة چنتلمان
إنجليزية ، يمكن أن تفصل بينهما قرارات وقوانين صدرت على إحدى الموائد فى
نيو يورك أو چينيڤ . كل المناقشات تدور حول صيغة الصراع ،
ولا تجد أحدا أبدا يسأل سؤال المحتوى . بينما لو نظرت له على أنه صراع بين
قوى حضارة وتحديث من جهة وقوى ظلام وتخلف من جهة أخرى ، فلعلك تسارع الآن
للصراخ مذعورا هلعا : سارعوا فورا إلى إبادة هؤلاء العرب والمسلمين قبل أن
يهددوا حاضر ومستقبل كوكبنا ويعودوا بكل منجزاتنا العلمية والتقنية والفكرية
قرونا القهقرى ! إلى من يتخيلون العرب والمسلمون
فى مواجهة أميركا وإسرائيل هما طرفان يتحاربان على قدم المساواة ككل الحروب فى
التاريخ ، للمرة الألف السؤال هو سؤال المحتوى .
المعادون لإسرائيل فى منطقتنا يتحدثون كثيرا عن الاحتلال ،
ويقولون إنهم يقاومون الاحتلال كما ديجول ، ويعتقدون أنهم بهذا يكسبون
تعاطف الغرب . المدهش أن الغرب لا يعطى أذنا صاغية بالمرة لكلام
كهذا . السبب ببساطة أن هذه ليست الحالة التى يقاس عليها ، ومن ثم لا
يؤيد تلقائيا من ’ اغتصبت ‘ أرضه . الإجابة كالعادة تكمن فى
التقنية ، وليس فيما يسمى حقوقا . الفارق التقنى بين ألمانيا وفرنسا
ليس نفس الفارق بين إسرائيل وسوريا مثلا ( لا أحد يتعاطف ناهيك أن يحترم
دولة دخلت حربا جوية سنة 1982 كانت نتيجتها 79 / صفر ! ) . الحالة الصالحة للقياس هى حالة البيض والهنود
الحمر . حالة الفارق الشاسع فى التقنية . وهى قضية لها أحد حلين لا
ثالث لهما : إما أن يتخلى المتخلف عن تخلفه ، ويقبل الاحتلال الحضارى
لأرضه ويتفاعل معه تفاعلا إيجابيا ، وإما المواجهة التى تنتهى
بالإبادة ، وليس أى بديل آخر . لا حلول وسط هنا . الأسوأ من هذا
أن كل الحالات المشابهة فى التاريخ تقول إن المتخلف فى هذه الوضعية يكون على
درجة من التخلف والفجوة الحضارية بحيث يصعب عليه تمثل الحل الثانى ، ومن ثم
يرفع راية الجهاد باسم الثقافة والتراث والهوية ضد كل تحديث .
لا بد بمنتهى الحزم إذن التمييز
بين احتلال متخلف تقنيا وحضاريا كاحتلال العرب والتتار للعالم القديم
( ومؤخرا احتلال سوريا للبنان ) الذى يرجع عجلة التاريخ والتقنية
للوراء ، وبين احتلال متقدم تقنيا كاحتلال الإنسان الأبيض لأميركا بقارتيها
واستراليا وجنوب القارة الإفريقية ( ومؤخرا الاحتلال الإسرائيلى للأراضى
العربية ) الذى يدفع التاريخ والتقنية للأمام . التقدم لن يتجمد بقرار ،
وقانون يالتا والمعروف تدليلا باسم القانون الدولى الذى لا يميز بين هذين
النوعين من الإحتلال لن يستمر طويلا فى توقعنا
المتواضع . كل هذا دع جانبا جدلية من يقولون لك إن الاحتلال هو سر كل
البلاء ، لو انقشع الاحتلال الإسرائيلى عن أراضى 1967 لانتهت كل المشاكل
بيننا وبيننا إسرائيل ، بل بيننا وبين أنفسنا . لن نسأل من أتى
بالاحتلال أصلا ، أليس عبد الناصر وإغلاق المضايق ومن قبله ما سمى
بالفدائيين أو حتى رفض قرار التقسيم . سنقول لك ما هو أفدح : نحن لن
نستغنى عن هذا الاحتلال أصلا . لو انزاح لشاكسناهم من جديد حتى
نعيده ، ذلك أننا لا نجيد شيئا آخر غير الشكوى وإلقاء بكاهل فشلنا
الاقتصادى والتنموى على شماعة غير ، عدو ، ما ! مع ذلك هذه ليست دعوة لليأس وإغلاق الباب ، بل
دعوة للفهم والانفتاح ، والأمل سيظل موجودا حتى آخر لحظة سابقة على الإبادة
الخيار الوحيد أمام الحضارة للتعامل مع الشعوب المتخلفة التى تهزم لكن ترفض أن
تستسلم معترفة بالهزيمة والتخلف وخطأ توجهاتها السابقة ، والعاقل هو من لا
يكرر تجارب التاريخ .
إذن لماذا ليست العودة لحدود 4
يونيو 1967 ؟ دعك من أننا أساتذة المعايير
المزدوجة نرفض 1948 و1967 ونتمسك بغزوة بدر ، ودعك من أن كل هذا الذى نخوضه
فى الأمم المتحدة أو فى الإعلام هو حروب كلامية محضة وليس إلا ، فالإجابة
هى : لأن التاريخ يتقدم ، ولأنه يجب أن يتقدم ! إن بناء إسرائيل لا يزيد من حيث الشبه عن بناء أعلى
بنايات القاهرة ( فندق الرمسيس هيلتون ، نحو 45 طابقا ) على
أنقاض عشش حى ماسپيرو . تثور حوله المعارك ثم تنتصر الحضارة فى خاتمة
المطاف ( ما يدعونى دوما لهذا الربط أن السادات أدار هذه المعركة فى نفس
الوقت التى أدار فيه معركة مصر من أجل السلام فى أواخر
السبعينيات ! ) . وفى النهاية لو فهم البدائيون أن التقدم فى
مصلحتهم يصبحون راضين وسعداء فى خاتمة المطاف . هذا ما حدث بالفعل مع حرفيى
ماسپيرو الذين انتزعت أراضيهم ، ولم يعد أحد ممن رفعوا حناجرهم كسياسيين
معارضين أو كمثقفين يريد اليوم هدم الرمسيس هيلتون ، أو إعادة هؤلاء من
مساكنهم وورشهم الجديدة فى مدن السلام والعبور والنهضة أو أيا ما كانت .
بالمثل بالضبط علينا نحن العرب
أن نستشعر أن فى قوة وازدهار إسرائيل منفعة لنا ولمنطقتنا . علينا رعاية
مسيرة بدأت فى 1870 بأول مدرسة للزراعة فى المنطقة بل وفى نصف الكرة الشرقى كله
فى يافا ( كان اسمها مكڤيه
يسرائيل Mikveh Israel School
‑أى معمودية أو بركة مياه أو
أمل إسرائيل ، مسيرة تصاعدت لدرجة أنهم يقولون
فيها تباهيا إنه حين أعلنت دولتهم سنة 1948 كانت البنية العلمية كلها جاهزة سلفا
( ! ) . وطبعا يقصدون أيضا تلك المؤسسة القائمة بالفعل فى رحوبوت
( البلدة الزاهرة التى أنشأها يهود وارسو سنة 1890 باسمها القديم الوارد فى
سفر التكوين 26 : 22 ) ، المؤسسة القائمة منذ 1934 ، تحمل
الاسم ذا السمعة العالمية ، معهد وايزمان . ليس فقط كمعهد هائل
الريادة العلمية عالميا ، وإن لم يكن من قبلها ، فعلى الأقل هى شهرة
مرموقة منذ توسعه بتبرعات هائلة من يهود أميركا منذ 1944 عرفانا شخصيا لصاحبه ،
بل أيضا شهرة أنه اسم أول رئيس لدولتهم ، والأهم منه والأسبق أنه اسم عالم
الكيمياء الذى قيل إن حضارة من هذا النوع شىء لا
يمكن احتواؤه ، ويخطئ العرب
خطأ انتحاريا إن اعتقدوا عكس ذلك . بالعكس نقول إن اكتساب التقنية ناهيك عن
اختراعها هو أهم وأصعب شىء فى كل التاريخ البشرى ، ولا يجب أن نفوت هذه
الفرصة النادرة ، ولعل أقل ما يمكن أن نفعله من أجل هذا أن نقبل استضافة
عرب 1948 بالغى التخلف عندنا ، أو بإبدالهم بسكان بعض المستوطنات فى الضفة
وغزة ، بدلا من تركهم يخنقون من الداخل تلك البؤرة الوليدة بتكاثرهم
الفاحش . ببساطة : إسرائيل هى
أجمل حدث شهدته منطقة الشرق الأوسط فى تاريخها المنكوب إخناتونيا كله .
ودورنا هو الدفاع عن هذه الجذوة الحضارية ورعايتها بأى ثمن ، كما وردة
أنبتت فى مقلب للقمامة فكان لا بد من تنظيف المكان كله حتى يتاح لها
النماء ! [ ذكرى شخصية : هذه العبارة
الأخيرة تحديدا الخاصة بالورد ، أغضبت منى …
لا يجب أن
ننسى للحظة أن هذا هو ما يجب أن تنبنى عليه انحيازاتنا وتحالفاتنا : التقدم
والمصلحة والتنمية والازدهار والسوق وليس الثأر من أعداء الماضى أو بناء
الانحياز على أساس الدين أو القومية إلى آخره من أمور الكرامة والقبلية
والرجعية ، وتلك هى فائدة إسرائيل واليمين الإسرائيلى فى تصورنا
المتواضع .
ومن يدرى فربما يكون هذا الحلف الإقليمى
نواة مستقبلا لحلم أكبر هو حلف حضارى عالمى يقسم العالم لأول مرة بالطريقة
الصحيحة : التقدم ضد التخلف ، الاستعقاد ضد البداءة ، العلم ضد
الدين ، العقل ضد الانفعال ، التقنية ضد الغرور الإنسانى ، أو
بكلمة قبول المستقبل ضد التشبث بالماضى ، ويجعل مهمته بوضوح تخليص الكوكب
من بؤر التخلف ومقاومة النهوض والتطور ، ويرفع لأول مرة الشعار الذى حلم به
كل الفلاسفة لكن لم يجاهروا به قط ، شعار لا ينبع من تحريك الغرائز وجلوبة
الحقد الطبقى والكراهية والتحريض على نطاق العالم ، بل من إعمال العقل وروح
المادة معا والأهم منها استناده الدائم والمتواصل على حقائق العلم وموضوعية
المعارف الچيينية ، شعار النخبوية حين تستند على العلم ، شعار :
يا نخبة العالم اتحدوا ! [ تابع تحديثا لأطروحة الحلف
الحضارى الجديد تاليا لهذا الكلام بخمس سنوات فى صفحة الإبادة . مثلها بعض التوسع
لاحقا فى فكرة
إشكالياتنا فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل لا حصر
لها ، لكن فكرة الجذوة الحضارية تطرح علينا مناقشة واحدة من أبرز
أسوأها . إنها طبيعة فهمنا للعلاقة بين إسرائيل وأميركا ، لا سيما
وأننا نبنى الكثير جدا من الخطط والآمال على كسب أميركا إلى جانبنا ، تارة
بالضغط وتارة بالتلويح بالمصالح ، ودائما بنتيجة تساوى الصفر المطلق .
إن علاقة الأميركيين بإسرائيل أعمق من كل المصالح الآنية ستراتيچية أو بيزنسية
أو أيا ما كانت . الأميركيون صنعوا تاريخهم وبلدهم من خلال المفهوم المسمى
الجبهة frontier . منذ زمن استقرت حدود الدولة
الأميركية ، لكن لم تنضو فكرة الجبهة أبدا ، ولا يزالون يجترونها مثلا
من خلال أفلام الويسترن التى تكاد ترقى لنوع من الأيقونة القومية المقدسة .
ومؤخرا ‑وعلى نحو مفاجئ بالكامل تقريب‑ حقق فيلم ’ الرقص مع
الذئاب ‘ نجاحا جماهيريا ساحقا كما اكتسح جوائز الأوسكار ، ذلك فى وقت
بات معتقدا فيه أن أفلام الويسترن قد ولى عصرها كفن جماهيرى . إذا علمت أن
’ الجبهة ‘ فى هذا الفيلم يفتحها بكاملها رجل واحد بمفردة ،
ستدرك ساعتها كم هو عميق ومتغلغل مفهوم الجبهة فى التراث الفكرى للغرب .
الجبهة هى الصورة الغائية للفتح
الحضارى ، والولاء للتحديث شىء جذرى فى العقلية الأميركية ، وإسرائيل
التى تتوسع فى أرض الهنود الخطرة ، هى ذلك الحلم بالجبهة القابعة هناك فى
العقل الباطن الأميركى ، وهى كفاح الأجداد لإنشاء أميركا وتوسيعها لتصبح
أعظم وأقوى أمة فى تاريخ البشرية . ببساطة وبلا
مواربة ، لن يسمع الأميركيون لنا أبدا إلا لو وجدونا أعلى تقنية وأكثر
حداثة من إسرائيل . بعبارة أخرى : ليس للخبرة ولا النقود ولا النفوذ
ولا الإعلام ولا التعاطف الإنسانى مع اليهود علاقة بالأمر ، باختصار : مفهوم الجبهة الحضارية هو اللوبى الصهيونى الحقيقى الذى
يحاربنا داخل أميركا ! انطلاقا من هذه الحقيقة نفسها ، أى كون المهم
المحتوى ، علينا فى الواقع ما هو أبعد ، علينا أن ننسى شيئا اسمه الشرعية الدولية .
فالأمور لا تحسب بعد أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة أو بعد سكان الدول التى
تمثلها ، إنما تحسب بالناتج الداجن لتلك الأمم . تمثل الولايات
المتحدة ثلث الاقتصاد العالمى مع ذلك فهى مجرد صوت واحد من بين قرابة 200 دولة
عضو فى الأمم المتحدة وواحدة من خمس دول لها جميعا حق الڤيتو سواء
بسواء . أميركا ثلث اقتصاد
العالم ولها صوت واحد ،
بهذه المعايير ذات المائتى عضو كاريكاتورى لما يجب
أن يسمى ’ منظمة الأمم المعدمة
اليالتية الاشتراكية المتحدة ( المعروفة اختصارا باسم الأمم المتحدة ) ‘ ، بينما كاليفورنيا لا صوت لها ، لم تكن الشرعية
الدولية فى صفنا قط . تغالبنى الرغبة فى هذه اللحظة فى تسميتها شرعية
ترانزستورية ( ربما إيحاءا باطنيا لأننا كنا للتو بصدد الحديث عن
الياپان ! ) ، لولا أن ثمة خطأين فى التسمية ، الترانزستور
يقوم بأداء نفس الوظائف التى تقوم بها الأشياء الأكبر وربما بكفاءة أفضل ،
ثانيا نحن لسنا بصغار إنما كيانات ضخمة شديدة الترهل بها بلايين من البشر عديمى
الجدوى . هذه ليست شرعية
دولية ، هذه شرعية الأصفار ، حتى لا يميزون بين الأصفار الكبيرة
والأصفار الصغيرة . هذه التى قد تسمى بالعامية القوالب نامت والأصفار قامت ،
ليست حتى ديموقراطية أصفار ، بل تحديدا : ديكتاتورية الأصفار
الأصغر ، هذا لو لاحظت مثلا أن أحدا لم يتلاعب بكامل هيئات منظمة الأمم
المتحدة قدر تلاعب مندوب فلسطين التى هى ليست حتى دولة من الأصل !
وبعد ، لا يملك المرء
سوى الإعجاب بقدرة شخص مثل السيد
ياسر عرفات على تذكر كل تلك الأرقام التى تحملها تلك
القرارات ، ناهيك بالطبع عن الإعجاب بإصراره على الحصول على المزيد والمزيد
منها رغم أنها لن تنفذ قط ( دع جانبا أن أيا منا لا يكاد يدفع شيئا فى
ميزانية الأمم المتحدة أى أن أميركا تدفع الفاتورة ونحصل نحن على
القرارات ، ناهيك عن أن مشاكل الأمم المتحدة المالية بدأت لأول مرة بسبب
قوات حفظ السلام التى أوجدتها القرارات التالية لحرب أكتوبر 1973 والتى سمحت
لمصر بفك حصار الجيش الثالث وفى نهاية المطاف إعادة فتح قناة السويس وكذلك بعودة
إسرائيل لحدود ما قبل 6 أكتوبر 1973 فى الجولان ! ) . أيضا لا
يجب أن يغيب عن البال هنا أن هذه الشرعية الدولية ( أو : شرعية يالتا فى التسمية الأدق ، وإن كان من
المشكوك فيه أن الكثيرين يعلمون حتى أن يالتا هذه تقع فى أوكرانيا ! ) ، ليست شيئا متسقا مع نفسه ناهيك عن أن تكون قانونا
مقدسا مؤبدا ، فقرار تقسيم فلسطين سنة 1947 يختلف عن قرار تقسيمها سنة
1948 ، والقراران معا اللذان أقرا بوجود دولة يهودية وأخرى عربية يختلفان
عن القرار 194 الذى يعيد اللاجئين ، وهو يعنى ببساطة أن تكون الدولتان
عربيتين ، فقط مع تسمية واحدة إسرائيل والأخرى فلسطين . كل هذا وذاك
كان نتيجة الظروف السياسية الآنية والتى منعت هذا الڤيتو أو ذاك .
أما إسرائيل نفسها ، والحق يقال ، ولها الحق فيما تقول ، فلم
تشعر للحظة واحدة بأى امتتنان لتلك المنظمة اليالتية . فالواقع أن قرارى
التقسيم جاءا ، وبنحو من الإجماع العالمى باستثناء بريطانيا التى تعلم بحكم
المعايشة مدى إيجابية المشروع الصهيونى وحداثة فكر أصحابه ، والاتحاد السوڤييتى
الذى بحكم الأحلام يراهن على تحول إسرائيل لدولة شيوعية ، جاءا أساسا
لمحاصرة الدولة اليهودية ولاسترضاء الأسر المالكة العربية ، وكانت أميركا
على رأس هؤلاء توجسا من خطر الشيوعية ، ويقال إن ترومان لم يعترف بإسرائيل
إلا عندما شحت موارد حملته الانتخابية .
إذن الشرعية
الدولية غالبا ما تكون شيئا لا يمكن أخذه دائما على محمل الجد دائما ، وفى
نهاية المطاف هى قانون كأى قانون ، ما يخصه هو فقط البحث عن التكييف
القانونى للأشياء ، ولا يعنى بالمحتوى أو الحقيقة أو حتى العدالة .
وفى حالة فلسطين مثلا هى مفتوحة لكافة الاحتمالات القانونية ، ويمكن
المحاجة بأى شىء قديم أو جديد ، بدءا من التواريخ التوراتية ورسومات
الآثار ، حتى أن هذه هى أرض اللا أحد ، حين تركت ما بين 1948 و1967
دون أن تتقدم أية دولة لإدعاء السيادة عليها ، ومن ثم يكون احتلال إسرائيل
لها لا غبار عليه بالمرة من الناحية القانونية ، تماما كما احتلال أرض
القطب الجنوبى أو أرض القمر أو المريخ . وواقعيا لا قيمة جدية للدفوع التى
ذكرناها لصالح الاحتلال الإسرائيلى ، تماما كما أن طبعا لا قيمة للدفوع
العكسية السافلة حول الأرض التى يقدمها زعماء العرب والفلسطينيين كل يوم دون أن
تقنع أحدا فى العالم الغربى ، أو حتى العربى . فالمهم ليست هذه ولا
تلك ، ولا قيمة حتى لمفهوم السيادة نفسه ، إنما المهم أرض
الواقع : على الأرض من المتقدم ومن المتخلف . هذا ما يحدد
الحقوق . للأول الحقوق كل الحقوق ، وللثانى الهزيمة والوبال
والانقراض . بعبارة أخرى : لا قيمة من حيث الأصل لأية دفوع قانونية
عندما يكون طرفا الصراع متقدم ومتخلف . لو سألتنى هل القدس عربية أم
إسرائيلية ، سأجيبك فقط بالشق الذى يهمنى شخصيا من الأمر ، أن أجدها
نظيفة منظمة يوم أفكر فى زيارتها . أنت لن تذهب للشهر العقارى لمعرفة أى من
الإسرائيليين أو الفلسطينيين هو الذى على حق . أنت تحكم عليهما بمعايير
التقدم والتخلف والمنفعة العامة للكوكب . هذا إذن من حيث المحتوى ، من
أنت ؟ ، الذى هو بالأساس يترجم لعلاقات قوة ، ومن ثم للعدالة
المطلقة والأسمى تماما ، عدالة القانون الطبيعى . وعامة لا يمكن فيها
تخيل أن قرارا أو وضعا يستمر شرعيا لأكثر من سنوات قليلة ، إن لم يكن شهورا
أو أحيانا أسابيعا ويسقط تلقائيا بالتقادم فى ظل عالمنا سريع التغير . الأمم المتحدة نفسها ‑كنتاج لموازين القوى
لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية‑ شىء تجاوزه التاريخ . هى منظمة للحرب الباردة لا أكثر ، هذه هى بنيتها وذلك هو نظامها ، واحتمالات تفكيكها
قريبا أكبر بمراحل من احتمالات استمرارها . المشكلة فقط أن هذا مما لا يسهل
فهمه لدى العقلية الستاتية التى سبق وأشرنا إليها ، وربما لا يزيد عن كونه
جزءا من سيكولوچية تقديس النصوص القديمة وإعلائها فوق كل حقائق الواقع
والاعتبارات العملية . باختصار ،
الدول نوعان : دول تنادى بتطبيق القانون الدولى ، ودول تعيد كتابته
عندما لا يعجبها . هذا هو مصدر سوء الفهم المزمن بين العرب وإسرائيل ! لذا لعل من حق المرء أن يدهش كيف غابت فكرة وقتية
الشرعية تلك ، عن أستاذ مخضرم فى العلوم السياسية مثل الدكتور بطرس بطرس غالى
أول من تولى منصب السكرتير العام للأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط
المعسكر الاشتراكى . فبدلا من أن يجعل مهمته الأولى محاولة إعادة كتابة
قانون يالتا بآخر جديد كلية ، ينهى عصر الڤيتو الخماسى والعضوية المتساوية
كل من هب ودب ، ويترجم حقائق القطب الواحد الجديدة ( علما بالطبع أن
القواعد الجديدة لن تكون مؤبدة أو مقدسة بدورها ) ، فإنه راح بدلا من
هذا يناضل من أجل تجميد الأوضاع القديمة وتكريسها باعتبارها شيئا مقدسا .
ولا غرابة بالمرة بعد ذلك أن فقد منصبه فى أقرب فرصة ! ببساطة إن الشرعية
الدولية هى شرعية بقدر تعبيرها عن موازين القدرة العالمية عشية الحرب
الثانية ، وغير شرعية بقدر كوننا الآن فى سنة 1996 وليس 1945 .
علينا إذن قبل أى شىء آخر ، أن نكف عن ترديد
المبدأ المضحك القائل بـ ’ عدم
جواز اكتساب الأراضى بالقوة ‘ الذى لا يثير سوى
سخرية العالم منا لا تعاطفه معنا كما نتوهم ، والذى لو طبق بحذافيره لكان
معناه شيئا واحدا هو أن يعود كل كوكب الأرض لسكانه الأصليين : البكتيريا !
( ناهيك عن أنه يثير علامة استفهام كبرى حول الوجود الإسلامى فى العالم
كله ، وليس فى فلسطين فقط . أو بمناسبة المعايير المزدوجة والشهر
العقارى معا لو أنت طبقت أطروحة الشهر العقارى على لبنان لوجدته ملكا
للمسيحيين وعلى الباقين ممن احتلوه بالغزو أو بالهجرة أو بالتكاثر الفاحش أن
يرحلوا عنه أو على الأقل تسلب منهم فيه حقوق المواطنة) . ثم من قال إن من
احتل أرضا يجب أن ينسحب منها لأنها ملك غيره ؟ هذا يكون صحيحا فى حالة
واحدة فقط هو استسلامه لها بلا حرب أو مجهود ، لكنه طالما دخل حربا من
أجلها فيعتبر قد سدد ثمنها بالفعل مالا ودماء ، وعلى من يريد استرجاعها أن
يرد الثمن للمالك الجديد أو أن يدفع مثله من دمه وماله . للأسف فيما يسمى
’ قوانين ‘ دولية أشياء عجيبة أخرى كثيرة كهذه اخترعها الإنسان
( بدعاوى مثل العدالة أو المساواة أو حتى أحيانا باسم التحضر ) ،
ليناقض بها قوانين الطبيعة ( الشىء الوحيد الجدير بكلمة قوانين بمعنى أنها
تسرى على كل زمان وكل مكان ) ، ولا يمكن للمرء تخيل أن ستنجح أبدا على
المجرى الطويل ، لأنها ببساطة لوى قسرى لحقائق ثبت رسوخها لبلايين
السنين ، والواجب ألا ننسى أبدا فى نظمنا السياسية أو الاقتصادية أو حتى
الاجتماعية والثقافية ، استلهام روح الطبيعة القائمة على إطلاق التنافس
الحر حتى آخر الحدود الممكنة فهو وحده قاطرة التقدم .
ما نقصده أنه طبقا لكل التاريخ فإنه ما أن يفقد
أحدهم أرضه بسبب رعونته أو ضعفه فإنه لم يحدث قط أن استعادها مجانا . العرب
هم الحالة الوحيدة التى تريد استعادة أرضها بإلقاء الخطب فى صحف بلادها وإراقة
الحبر على أوراق الأمم المتحدة . الحقيقة باختصار أنه لو عرف الضعفاء بضعفهم لما نشبت الحروب أبدا . وهذا يقودنا لمقولة مضحكة أخرى فى قانون يالتا ، هى ’ ضرورة حل جميع الخلافات بالطرق السلمية ‘ . هذه المرة ندعو كل العالم للتخلص منها ، ليس حبا
منا للحروب ، إنما رغبة فى قليل من احترام الطبيعة وأحد أبسط قوانينها
القاعدية ! على أن المدهش هنا أن هذا كله لا يمكنه أن ينفى الحقيقة الأكثر
قاعدية تماما : الحروب تقتل البشر وتنمى التقنية ولا يوجد إطلاقا شىء أفضل
من هذا لأى كوكب . فى الواقع آخر شىء أرضنا فى حاجة إليه هو جائزة نوبل
للسلام ، نحن فى حاجة لجائزة لأفضل حرب ! [ فى أواخر سنة 2000 استجد فى
منطقتنا برهان جديد على هذا يتمثل فى حكم إيهود باراك فى إسرائيل الذى بدأ ينذر
بوصول المنطقة لكارثة شاملة . فقد شجعت تنازلاته المتواصلة للفلسطينيين على
مزيد من التشدد منهم ، وعودتهم للتفكير فى دولة ، بل وفى حق
العودة ، بل وحتى إلى لجوئهم للعنف . لم يعد الأمر مجرد مسألة تقدم وتخلف
أو رفاه اقتصادى للفلسطينيين ، بل بات ينذر بحرب واسعة النطاق ستذهب ضحيتها
قبل أى أحد آخر الدول التى اختارت طريق السلام وبدأت مسيرة التنمية فعلا .
إن الطريق الأكثر أمنا وخيرا للجميع هو دوما تعزيز التقدم كخيار ستراتيچى
للشعوب ، ناهيك بالطبع عن ضرورة إقناع الضعفاء بضعفهم بدلا من تشجيعهم على
شن الحرب ] .
[ مقاطعة طريفة بتاريخ 11 أپريل 2001 قد يحبها منا عشاق كرة
القدم والسجلات القياسية عامة : حطمت أستراليا السجل القياسى للأهداف فى تاريخ كرة القدم
بفوزها اليوم على ساموا الأميركية 31 / صفر ، والسجل السابق مسجل باسمها
نفسها قبل 48 ساعة فقط بفوزها 22 / صفر على تونجا ، أما السجلات السابقة
فكانت لصالح الكويت ضد بوتان 20 / صفر فى مباريات الكبار الدولية ككل ،
ولصالح إيران ضد جوام 19 / صفر فى مسابقة كأس العالم وتصفياتها . من بين
الـ 31 هدفا سجل اللاعب آرشى تومپسون 13 هدفا حطم بها سجلا كاد يظل خالدا قرنا
كاملا وهو للاعب الدنمرك سپوهاس نييلسون ضد فرنسا سنة 1908 . ما أردنا قوله
أن ساموا وتونجا وبوتان وجوام كلها أعضاء فى الأمم المتحدة ومنظماتها ولجانها أو
ما نسميه نحن العرب الشرعية الدولية ، وهى عضوية مطلقة الأهلية تساوى
بالضبط عضوية الصين أو أميركا . الفارق الوحيد أنه لا يوجد فى مهزلة الأمم
المتحدة حكم يطلق صافرة النهاية ] .
على نحو قاعدى لا يجب أن يغيب
عنا إن القانون الدولى فى التحليل الأخير ما هو إلا شىء يكتبه البشر لترجمة حقائق توازن
القوى فى لحظة تاريخية ما ، وأنه فى أى لحظة القوة هى المرجعية الوحيدة لتحديد ما هو شرعى وما هو غير شرعى . إننا نعيش الآن بقانون دولى مهترئ اسمه قانون يالتا ،
تمت كتابته بعيد الحرب العالمية الثانية فى ظل موازين قوى بالغة الاختلاف ،
والقرارات التى نتمحك فيها نحن العرب هى قرارات قديمة للغاية تجاوزتها موازين
القوى الإقليمية والدولية بمراحل ، وأقل ما يمكن أن يناقش حاليا عن الأمم
المتحدة ليس طرق ودرجات تنفيذها للشرعية الدولية وهى القضية التى يشغل العرب
مثلا أنفسهم بها دائما ، إنما ما يجب أن يناقش هو شىء واحد : هل هى
نفسها فى ظل موازين القوى الحالية فى العالم ما زالت منظمة شرعية أم أنها منظمة
خارجة على القوانين .
من ينظر لصورة يالتا الشهيرة ربما
يعتقد أن القانون الدولى الحالى هو من بنات أفكار عظماء مثل تشرتشل . نظرة
سريعة للواقع تقول إن ذلك القانون وتلك المنظمة الدولية وصلا بالضبط لما كان
يدور فى ذهن ستالين أثناء التقاط الصورة : تحويل كل العالم لأممية
شيوعية ! لقد كانت الشرعية الدولية ’ شرعية ‘ سنة 1945 ،
والآن لم تعد كذلك ، بل هى خروج على الشرعية ، على الأقل جدا منذ سقوط
ركن أساس ممن كتبوها وهو الاتحاد السوڤييتى ، ومن نظام القدرتين
العظميين والقدرات الخمس النووية …إلخ . والطبيعى البحث عن شرعية جديدة
تنهى حقبة شرعية يالتا ، شرعية تنبنى على ترتيب عالمى جديد يتناسب مع واقع
وجود قدرة واحدة ، أى نظام للجلوب لا يوزع ما يسمى بالسيادة على كل من هب
ودب هنا وهناك ، إنما أقرب لنظام دولة واحدة ذات حكومة واحدة مركزية ،
تضبط الأمور وتتكفل بوضع وقيادة رؤية مستقبلية شاملة لكل العالم . والأهم
أن هذا كله تطور طبيعى يجب الترحيب به ، لأنه يعنى مرحلة جديدة من نضج
واستعقاد كياننا الكوكبى وآلياته التقنية والاقتصادية والإنتاجية ، بل وكل
شىء فيه . أو كما قلنا قبل قليل لقد نضج الكوكب وأصبح كائنا واحدا تربطه
شبكة أعصاب واحدة مشتركة ممثلة فى شبكة خيوط الكيبول تحت الأرض والبحر وقفص
الساتيلايت المحيط بالأرض ، واللتان تتسابقان فى نقل البيانات الحاسوبية
وصور التليڤزيون والمكالمات الخليوية …إلخ ، هذا فضلا عن تعقد وتشابك
العملية الإنتاجية ، بحيث يكاد يستحيل القول أن ثم منتج قومى أو محلى بمعنى
الكلمة مهما صغر شأنه . ما هى الأمم
المتحدة إلا نسخة أكبر حجما من جامعة الدول العربية ؟ مجرد عدد هائل من
الدول الأصفار ومن البيروقراطيين عديمى الكفاءة ، إلا فى قبض المرتبات
والتفنن فى محاربة ذوى الكفاءات الحقة المحترفين من الأميركيين وشركاتهم
ومؤسساتهم وما شابه . بصراحة أكبر يالتا وقوانينها ومنظمتها البائسة
المذكورة ، ليست مجرد منظمة عاجزة أو مفتقدة للكفاءة فقط ، إنما هى
منظومة سياسية شيوعية متكاملة بكل معنى الكلمة ، آن لها أن تنتهى ويحل
محلها ترتيب عالمى جديد قائم على المنافسة ولا شىء إلا المنافسة . إن الوقت قد حان لإعادة كتابة
قانون يالتا الذى يفضل البعض تسميته بالقانون الدولى ، وهى ضرورة منطقية بل
وملحة ، بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الترتيب الدولى International Order ثنائى القطبية خماسى الڤيتو ، القديم
الذى أفرزته الحرب العالمية الثانية .
إن الأمم المتحدة لن ترتقى أبدا
عن مستوى العبث ولعب العيال ، إلا إذا سحب حق التصويت من 90 0/0
على الأقل من أعضاء جمعيتها العامة ( ممن دخلوا أصلا فى غفلة من
الزمن ) ، وجعلتهم لا يتجاوزون مستوى المراقب . وسحب الڤيتو
من أصحابه الحاليين فى مجلس الأمن ليصبح حقا لسلطة مركزية واحدة هى الولايات
المتحدة ، بحكم كونها الأقوى اقتصاديا والأجدر عسكريا بضبط السلم
العالمى . وبالطبع طرد فرنسا عميل التخلف العالمى ،
وأصل كل كوارث العالم منذ الثورة الفرنسية ، بالكامل من العضوية الدائمة لمجلس
الأمن ، أو حتى من عضوية المنظمة ككل . وإن ظل الاشتغال بفكرة الأعضاء
الدائمين واردا ، فليكن ذلك للقوى الاقتصادية الخمس الأكبر فى
العالم ، أيا ما كانت أسماؤهم فى اللحظة المعطاة ، ومع سحب حق التصويت
بالطبع من العضوية الدورية غير الدائمة للمجلس ، والاكتفاء بوضعية المراقب
لهم . هذا هو أقصى ما يمكن عمله لترقيع
الأمم المتحدة ، مؤقتا . إذ يظل فى جميع الأحوال من الأفضل تماما على
المجرى الأبعد تفجير الأمم المتحدة برمتها وبناء ترتيب عالمى جديد من
الصفر ، ينقض كل ما جاءت به موازين 1945 ، ويترجم موازين القوى الحالية
بعد سقوط الاتحاد السوڤييتى وانتهاء الحرب الباردة ، والتى للأسف نسى
كلينتون إرسال وثيقة الاستسلام فيها للطرف الآخر لتوقيعها . وبالتالى ها هى
تضيع السنة تلو الأخرى من عمر العالم المفتقد كلية للقيادة الحازمة ، أو
بمصطلحات
نعم ، حان الوقت لتقنين
مفاهيم جديدة بالكامل لا يعترف بها ولا يتصورها القانون الحالى . أو بعبارة
أخرى : ما فائدة أن يحارب الغرب الشيوعية ثم يتشيع هو ؟ لقد حان ‑وبكل ما تعنيه
الكلمة من حرقة‑ حان الوقت لترتيب عالمى World Order ، بمعنى جلوبى وجديد ولا يعرف
مفهوم الدولة ولا السيادة ولا منع التدخل ، يحل محل الترتيب الحالى
’ الدولى ‘ International
Order . بصياغة أوضح : الأمم المتحدة قامت من أجل تصفية
الاستعمار ، بينما المطلوب الآن هو تصفية الاستقلال ( أى ما يسمى
بالجلوبة ) .
حان الوقت لتقنين مفهوم الحكومة
المركزية لعالم واحد موحد ، ذلك بعد استسلام المتمردين الشيوعيين وتحرير
نصف الدنيا من قبضتهم ، وأساسا لأن التقنية جعلت عالمنا أصغر من أن يحتمل
حكومات متعددة . حان الوقت لأن تضطلع قبيلة ما بدور
العاصمة والجيش والشرطة ووزارة التخطيط لهذه الدولة الجديدة جلوبية
الاتساع . وعدم تحقيق هذا يشبه بالضبط أن يقهر الملك مينا النصف الآخر
للدنيا شمالى النيل ويجفل عن الإعلان عن تأسيس حكومة مركزية موحدة . حان الوقت
لنزع السلطات السياسية والعسكرية عن حكام الأقاليم والمحليات ( المعروفة
سابقا باسم الدول ) ، وتركيز سلطاتهم ( كما المحليات
الحالية ) فى التنمية الاقتصادية لشعوبهم ، طبعا بما يتماشى مع
السياسة الاقتصادية الجلوبية ، وطبعا طبعا دون محاولة إبداء الرأى فيما يخص
السلطة السياسية المركزية للدولة فى الترتيب الحالى . أو بعبارة أخرى
المطلوب هو ’ اليپننة ‘ Japanization ،
أى تسييد النموذج الياپانى على كل العالم ، تحديدا كنموذج تمسك بصرامة بهذه
الأهداف والسلوكيات ولم يلعب ألعابا رخيصة قط ، كالتى تلجأ لها مثلا أوروپا
والصين وروسيا أحيانا لكسب بعض الأرباح الاقتصادية من بوابة السياسة ، ذلك
بمغازلة الريچيمات الناشز هنا وهناك . أليس من المدهش كلية أن أميركا نادرا
ما تفكر فى التضييق على الياپان فى أى مكان فى العالم رغم أنها ثانى أكبر اقتصاد
فيه ، ومنافسها الأول بلا منازع ، بينما تتنمر بشراسة لكل علاقة
لأوروپا أو روسيا أو الصين مع إيران أو ليبيا أو العراق مثلا ، وتعتبرها
ضربا تحت الحزام ؟ أليس ذلك الحكم المركزى طبيعيا لا لمجرد أن قانون الأرض
لمن يستعمرها يعطى المجتمعات الصناعية المتقدمة الحق فى امتلاك منابع الپترول
عبر العالم ، إنما لأن النقود فى يد العرب والمسلمين تتحول لدعوة دينية
وجهاد مسلح وغير مسلح وقطع طريق وهجرة وغزو وقرصنة لبلاد المتقدمين القاصية أو
حتى أحيانا للجيران أبناء ذات الجلدة ؟
للأسف هذا هو الشىء الوحيد الذى
يستوى فيه ’ العلمانيون ‘ ( فرضا ) أمثال معمر
’ لوكيربى ‘ القذافى وصدام ’ أم المعارك ‘ حسين ، مع
الأخوان المسلمين وبعض شيوخ الپترول ! حان الوقت لإفعال نظام مركزى
للتدقيق المحاسبى ، يمنع فساد حكام الأقاليم والمحليات ( المعروفة
سابقا باسم الدول ) . وأميركا التى لا تكاد تعرف حكومتها الصغيرة
الكفء شيئا اسمه الفساد أو الرشوة ، هى المرشحة الأولى لمثل هذه المهمة
أيضا . حان الوقت لتقنين احتلال الشعوب
لبعضها البعض ، لوقف الشلل الحالى للتوسع الحضارى بسبب مفهوم السيادة الذى
فرضته قوانين 1945 ، ميراثا باليا عن فكرة الدولة القومية من القرن الثامن
عشر ، بل بالأحرى من مينا الأول أيضا . حان الوقت لشطب كلمات مثل
الديموقراطية وحقوق الإنسان من القاموس الدولى ، وإحلالها بمصطلحات لا
إنسانية اقتصادية وتقنية محضة ، ذات معايير علمية واضحة خاصة بالأداء
والكفاءة فى استثمار الموارد . حان الوقت لأن لا تعلو كلمة فيه
فوق كلمة المنافسة ، تلك التى أجهضتها وكبتتها وأساءت لسمعتها يالتا شيوعية
التوجهات مفرزة كل تلك الدول مدقعة الفقر عالية الصوت . ولحسن الحظ أن
لدينا بالفعل الآن منظمة جديدة اسمها منظمة التداول العالمى WTO كأول منظمة عالمية ( وليس الدولية ‑لاحظ
الاسم ، حيث لا شىء اسمه دول فى عالم الغد القريب ! ) ولدت
مستقلة بعيدا عن عباءة يالتا المسماة الأمم المتحدة ، وتحمل قيما تخالف
الجوهر الاشتراكى لهذه الأخيرة مخالفة مطلقة وجذرية ( وفقط ما نأمل فيه أن
لا تفرغها يوما كل تلك الغالبية الكاسحة من الدول الصفرية التى تدافعت لعضويتها
دون قناعة حقيقية بمفهوم المنافسة من قيمها الدستورية الأساس ) . حان الوقت لتقنين آلية مستدامة
لترسيم الخرائط والثروات على فترات دورية ، بما يتناسب مع معايير الأداء
لهذا الشعب أو ذاك . ترسيم ذو فحوى اقتصادية وكفائية محضة ، وخالى من
أية مدلولات سياسية ، فسياسيا العالم سيصبح كتلة سياسية واحدة بقيادة
مركزية واحدة . بل لا نبالغ إن قلنا إن الوقت قد
حان ‑الآن مع إقبال عشية الألفية الجديدة وليس بعد عشرين أو خمسين سنة‑
لتقنين إبادة بعض أو كل قطاعات العرق البشرى ، إذا ثبت أنها تشكل عقبة فى
سبيل النمو الحضارى التقنى للكوكب ، ومن ثم إسناد سلطة إدارة الكوكب
للكائنات الأكثر ذكاء سيليكونية كانت أو كربونية ( قضية
سبق أن عالجناها تفصيلا فى كتابنا من عام 1989 حضارة ما
بعد‑الإنسان ) . هذه على نحو عام الصورة المحتملة للقانون
الدولى فى القرن القادم .
[ تابع تحديثنا لهذه المعالجة لمسألة الترتيب العالمى الجديد فى
صفحة الإبادة . وعامة تابع
الموضوع ككل فى صفحة الجلوبة ، بدءا من دراستها الرئيسة التى عمقت من خلال نظرة أكثر قاعدية تستلهم قوانين
الفيزياء والرياضيات والديناميات الحرارية والبيولوچيا وما إليها ، لا فقط
فكرة الحاجة لتحويل الكوكب لكينونة واحدة ( الجلوبة أو
الإمپريالية ) ، إنما مجمل الإمپريالية - الديكتاتورية - الاحتكار ،
كثالوث واحد هو النظام الأعلى كفاءة فى الأداء على وجه الإطلاق . ومما جاء
فيها مثلا ذلك التشبيه بأن العالم القبائلى القديم كان مجموعة من الكائنات وحيدة
الخلية لا تفاعل يذكر بينها . بينما عالم الدول الصغيرة والأحزاب الصغيرة
والشركات الصغيرة فى القرون الأخيرة كائن طحلبى متعدد الخلايا لكن لا تخصص
فيه . وأن حان الآن ‑كما أشرنا‑ وقت تحول الكوكب لمتعضية واحدة
كبيرة مستعقدة متخصصة الأعضاء ذات عقل قائد وحيد مركزى . وأن الديموقراطية
والاقتصاد التنافسى المفتت ، اللذين قيل إنهما يمثلان نهاية التاريخ ،
هما تحديدا أبرز مخلفات مجتمعات البداءة التى حان وقت الخلاص منها ! ] . ما رأيناه على الصعيد الثقافى يتكرر بصورة طبق
الأصل تقريبا سياسيا . فمثلما يعجب المرء من صراخنا الدائم حول الغزو الثقافى وبالتالى
ما يسمى فقدان الهوية وانعدام الولاء بينما يرى أن من يحق له مثل هذا هو من نتهمهم
بمثل هذا الغزو وهو الأميركيون بالذات . فهؤلاء بلدهم مفتوح بل مستباح
بالكامل لكل من هب ودب . ثقافيا هو بلد لا يضع قيدا من أى نوع على أى منتج
ثقافى . وبالمثل فالولاء يكاد يكون مزدوجا لأغلب السكان سياسيا وليس ثقافيا
فقط ، فهو بلد مستباح بالكامل سياسيا والقانون نفسه يقنن هذا الولاء
المزدوج من خلال ما يسمى نظام التلويب lobbying فى الهيئات التشريعية وإمكانية الضغط علنا لصالح البلاد
الأجنبية ، بينما بالطبع يعاقب مثل هذا بالإعدام فى أغلب بلاد العالم بتهمة
اسمها الخيانة العظمى . على الأقل : هل سمعت أبدا أميركا تشكو ذات مرة
من أن أحدا تدخل فى ’ شئونها الداخلية ‘ ( مجرد سؤال آخر نوجهه
لم يقولون لك صباحا ومساء الكيل بمكيالين ) . [ لا شك أنك أيضا تذكر تليڤزيونيا
صورة المواطنين الأميركيين الذين يهتفون بالفداء بالروح والدم لرئيس مصر أمام
البيت الأبيض ذلك أنهم من أصول مصرية . أيضا لا تنس أن هذا هو البلد الوحيد
الذى يمكن مواطنيه من حرق علمه دونما أدنى مسائلة ، بل وتحدى
ما يقوله القانون المستحدث خصيصا لتجريم حرق العلم ] !
إن أميركا هى أعظم مثال حى على تلاشى مفهوم ’ السيادة القومية ‘
الذى قام عليه التشريع الدولى لما بعد الحرب العالمية الثانية ، هل سمعت أبدا
أميركا تتهم أحدا بـ ’ التدخل فى الشئون الداخلية ‘ لها ، ومن
عجب أنها البلد الوحيد الذى ترفع دائما هذه التهمة فى وجهه حتى فى عالم الجلوبية
الصريحة الراهن . رغم أن التدخل الأميركى ليس دائما فى الاتجاه الصحيح لا
سيما عندما ينطلق من مجرد شعارات جوفاء كالديموقراطية وحقوق الإنسان وليس من
مصالح اقتصادية لا نفاق فيها لأى من الشعبين الأميركى أو الآخر المعنى
بالتدخل ، إلا أن ذلك السلوك القنفدى لا يزيد فى أغلب الحالات عن كونه إحدى
الپارانويات التقليدية لدى الشعوب المتخلفة المذعورة أو لدى بعض الحكام الفاسدين .
فى الأعم أيضا أن لا يكون التدخل الأميركى بمثل السوء الذى تنم عنه
شعاراته ، فالموقف الأميركى عادة ما يكون أنضج من الناحية العملية من مجرد
ما يقوله من كلام معلن ، ومثال هذا دعمه الحيوى لتجربة تشيلى الكبرى فى
التحديث فى السبعينيات والثمانينيات بقيادة الچنرال پينوتشيت ، والتى وقفت الاستخبارات المركزية وكل
الحكومة الأميركية تقريبا وراءها بقوة رغم أن الوثائق الرسمية تقول أنها طالما
عارضت حالات ’ انتهاك حقوق الإنسان ‘ !
من هنا يتضح أن الحقيقة الأرجح هى أن الانتماء –ونقصد انتماء
الفرد العادى غير المسيّس– ربما انحصر من الناحية العملية منذ زمن طويل قبل
دعوات الجلوبة المعاصرة فى انتمائه لذاته وللإنسانية ( وفى موقفى الشخصى
لذاته وللكوكب ، كما بينت فى كتابى حضارة ما بعد‑الإنسان ) .
لكننا نرى هنا الحاجة لوقفة مفصلة قليلا مع فكرة الانتماء ككل وتحديدا
الانتماءات الوسيطة أى تلك غير انتماء الفرد لذاته وللإنسانية . والحقيقة
الأبعد أن مفهوم الوطنية كان دائما أبدا محل مطارق الجميع : القوميون
جعلونا نكرهها ونؤمن بالقومية العربية ، الشيوعيون طالبونا بتركها لحساب
الأممية الاشتراكية ، الإسلاميون جعلوها من المحرمات الشرعية إذا ما جاء
ذكر اسم أمة الإسلام . بخلاف الوطن والقومية والدين والطبقة ، ما بقى
فى دنيا الانتماءات الوسيطة الخمس الانتماء الوسيط الخامس وهو الانتماء الأسرى وهو أكثر بيولوچية
وپراجماتية من أن يرفع أى شعارات لكنه يظل بدوره انتماء تداعى بشدة منذ
الستينيات وتحرر الشباب وانهيار مؤسسة الزواج . بمعنى آخر فإن للجميع أچندة
غير وطنية ، والوطنية فتاة
لقيطة أو ’ الملطشة ‘ التى لا تجد من يلتفت
إليها سوى النصابين والنشالين الطامحين للارتزاق بها وليس إلا . ومن رفعوا
شعار الوطنية هم فقط مرتزقة انتهازيون وجدوا فيها طريقا للنفوذ والثراء من شاكلة
سعد زغلول والطابور الطويل اللاحق له عندنا . وسنعود لاحقا للمزيد حول ما
تودى إليه الوطنية من كوارث يكاد يرقى بها لمستوى الجريمة فى حق الذات قبل أن
تكون فى حق الغير ، ذلك من خلال مثال تطبيقى هو مصر . فقط عند هذه
النقطة نقول إنه إذا كان للوطنية من ميزة وحيدة فى عصر نتحدث فيه عن توحيد
العالم فى دولة واحدة أو ما شابه ، فهى أنها ‑أى الوطنية‑ تمنع
من وقوع ما هو أسوأ ، تمنع الانتكاس للوراء فى التاريخ ، أى تفكك
الدول الحالية لأرض للعصابات والميليشيات والطوائف ، على غرار لبنان
والصومال . [ فى 18 أغسطس 1999 هذا لا ينفى أن حملة كل الشعارات الأخرى هم بالمثل
من مرتزقة الطبقات الدنيا ، لكن الفارق أنهم كانوا عدوانيين لدى المقارنة
والوطنية وحدها هى الأيديولوچية الأكثر ضعفا والتى كانت محل طرقات الأيديولوچيات
الأخرى ، وربما هذا دليل على النوعية الخاصة لمرتزقتها ( للدقة هناك انتماء وسيط سادس نادرا
ما يتحدث عنه أحد رغم أنه ربما كان الأقوى بينها جميعا حتى لدى الشعوب المتقدمة
التى تخلصت من كل الانتماءات ، ألا وهو الانتماء للمدينة . ويكفيك
الذهاب لمباراة لكرة القدم لتكتشف هذا بنفسك ، ناهيك عن أثر المدينة الظاهر
فى الحالة الاقتصادية للفرد ، والذى لا يقل أحيانا كثيرة عن أثر الهجرة
لدولة أخرى . أيضا هناك انتماء
سابع شبه مندثر هو الانتماء للحى ، وطبعا
’ قصة الحى الغربى ‘ أو حكايات فتوات نجيب محفوظ ، هى مجرد آثار
خالدة لكم من الدماء كانت تراق باسمه ! ) .
الوحيد الصادق ربما بين كل من احتقروا الولاء
الوطنى هو زوربا اليونانى . ولا ريب أن كثيرا من الإنسانيين الذين تساموا
فوق كل الانتماءات الضيقة والحافلة بالتناقضات كانوا هم وحدهم فى تلك المعمعة
الذين يحملون أچندة نبيلة ، لكن هذه الورقة ليست ممن أصحاب الأچندات
الإنسانية وترى أن الوقت قد حان لأن يتسامى الفكر الكوكبى فوق كلمة الإنسانية
الضيقة هى الأخرى ، ولذا مما أسعده دون شك أن رأى راية الجلوبة وقد انتقلت
أخيرا ولأول مرة لغير الرومانسيين الإنسانيين وانتهازيى الطبقات الدنيا
معا ، وأصبح الرأسماليون من أنصار الاقتصاد الحر هم المطالبين بالجلوبة
وإلغاء الانتماءات الوسيطة برمتها ( حتى فى عالمنا العربى ها هى بواردر توحدهم
تظهر وتتنامى ضد الجوهر المتخلف لكافة الانتماءات الوسيطة ، والتى كانت
وراء كل النكبات ، ونصيرة للعمق المتخلف رغم كل ما لديها من ديماجوچية
خطابية ) . الفارق أن لا انتهازية ولا نفاق هنا ، إنما مبادئ
علمية وعملية تقولها كتب الاقتصاد والبيولوچيا والهندسة . فنحن شخصيا لا
نؤمن حتى بذلك الانتماء للإنسانية ونستبدله بالانتماء للكوكب ذلك الكيان الأوسع
والأبقى والذى لن يقف تطوره –ومن ثم تطور مفاهيم كالعلم وكالتطور نفسه والتى
بالتبعية تستحق فى حد ذاتها الولاء لها وإعلاءها فوق أى انتماء آخر– لن يقف عند
عتبة عشيرة بيولوچية species واحدة رديئة الصنع اسمها الإنسانية ، لكن هذه قصة أخرى .
بنفس المنطلق نجد الديماجوچية الوطنية ليست أكثر سوءا
من وهم آخر رائج فى صفوف النخبة العربية التى تعتبر نفسها تقدمية
و’ متحضرة ‘ وهو أن يطالبوا أبناءنا بمسايرة عصر الساتيلايت
والإنترنيت ...إلخ ، ثم يعيبون عليهم فى ذات أن حلت الهوية الجلوبية محل الانتماء الوطنى أو
القومى لديهم ( كلمة متحضرة بين قوسين فقط لأن تعريف الحضارة عندنا كما هو فى كل التاريخ هو توليد
التقنية ) . وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن قبول قسوة الواقع ومعطياته
قد يكون أحيانا هو الانتصار الوحيد الممكن ، وأن مواصلة الصراخ هى استمرار
فى مزيد ومزيد من الخسارة . ولا يجب أن يغيب عنا كيف قبلت الياپان وألمانيا
الاستسلام ببساطة ، فقط لتعيد بناء نفسها على نحو أفضل ، هو تحديدا أن
غيرت عقولها بين عشية وضحاها لتطابق الفكر الذى جعل المنتصرين منتصرين
( وكلمة ’ أهلا بالمنتصرين ‘ لا نخترعها ، بل نقتبسها عن
إمپراطور الياپان فى خطابه المشهود يومها ) . إن التاريخ يحفل بقصص
انتحار القادة لهزائم أقل كثيرا من تلك التى مر بها عبد الناصر فى 1967 أو الأسد
فى 1973 أو 1982 أو صدام حسين فى 1991 ، أو كان على القذافى أو الترابى أن
ينتحر لإنقاذ شعبه من الحصار والإذلال ، لكن لأن قادتنا الأشاوس ليسوا قادة بل مجرد لوردات حرب لا يهمهم لو
أبيدت شعوبهم عن كاملها ، فإنهم لا يستسلمون أبدا ، وقطعا لا يرد
الانتحار عليهم ولو كمجرد خاطر . أو بمعنى أدق
لعلهم يفضلون الموت أحياء ، أو الأكثر دقة وصراحة أن هذا هو ما تريده
شعوبهم بالضبط ، ومظاهرات ’ المبايعة ‘ التالية للهزائم أعظم
دليل على المزاج السائد فى أمة استمراء الهزيمة والشكوى المستمرة . ببساطة
مؤسفة نحن لسنا بالساموراى أو حتى بالبشر العاديين ، بل فقط وبكل
المتعة : أمة من الزومبى .
إننا أمة لا تجيد الانهزام وربما السبب أنها لم تعرف أبدا مذاق الانتصار ! [ حتى يوم 10 سپتمبر 2002 ،
النصيحة الوحيدة الأولى بالاتباع من كل حاكم عربى
اليوم لا تختلف كثيرا عن النصيحة التى طالما وجهتها له أمه وهو بعد صبى
صغير : ’ يا بنى ما لكش
دعوة بالسياسة ‘ . هذا هو المعنى السافر لما
أسميناه أعلاه باليپننة ( أنور السادات قال
مئات المرات إن 99 0/0 من أوراق اللعبة بيد أميركا لكنه
لم يقل ولو مرة واحدة بيد من الـ 1 0/0
الباقية ) ! على الكل الآن توجيه اهتمامه لتعظيم الناتج الداجن
الإجمالى GDP ورفاهية أهله ، وترك أمور السياسة والسيادة والخرائط وترتيب
العالم لكبار الشأن والتخصص والرؤية ممن أسلفنا القول إنهم المؤهلون لقيادة
العالم الجديد كلية ، أى بالأخص أميركا وبريطانيا وإسرائيل . حكام الياپان وألمانيا وكثير غيرهما يلتزمون بهذه
النصيحة ، بينما صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافى وحسن الترابى
يستكبرون عليها كل الاستكبار ( وبمناسبة الكلمة هم وسائر الأدبيات
الإسلامية الذين ينعتون أميركا ليلا نهارا بالاستكبار ، بينما هو طبعا ليس
باستكبار إنما كبر ، والاستكبار لا يأتى من الصغار والمهزومين
أمثالهم ! ) . يكاد يكون من البديهى فى كل العالم الآن أن لا صوت يجب أن يعلو على صوت الاقتصاد ، مع ذلك الخطاب الأيديولوچى هو المهيمن بالكامل تقريبا
عندنا . والهزيمة والأحقاد تورث بكل الهمة لجيل رابع وخامس الآن ،
بحيث لا أحد يتكلم فى التعليم أو الابتكار أو المنافسة التقنية أو السياحية
…إلخ ، والحديث الوحيد المسيطر تقريبا على خطاب الهواجس العربى هو كيفية
التأثير فى السياسة العالمية ( أو على الأقل اللعب على
حبالها ) ، والتبجح بالسيادة وتحرير الأرض وهلم جرا بينما نحن ببساطة
جوعى . هذا يعنى ببساطة أيضا دس أنوفنا فى أمور أكبر منا ولن نصل فيها لأية
نتيجة ( بصراحة أكثر ، نقصد بهذه تحديدا خريطة منطقتنا التى لا حق لنا
فى إبداء أى رأى فيها بينما نحن على هذا التخلف القاتل ) . هذا كله
بينما من هم أقوى منا بمراحل قد هجروا تماما فكرة الخوض فى جميع الأشياء من هذا
القبيل ، وتحولوا لنوع من الحكومات البلدية .
بصراحة مرة أخيرة ، وقبل أن ندخل لصميم الحديث
فى الأوقاع الاقتصادية ، يجب أن نواجه الواقع إن شئنا التطلع
للمستقبل ، ومن ثم نعترف بأن القومية
العربية لم تكن يوما أكثر من شعار ديماجوچى انتهازى تنازعت
اختراعه دولتان وركبته ثالثة حتى قلب الكارثة هى مصر البكباشى ناصر ،
القرصان الأكبر لكل العالم الثالث ، مع احترامنا بالطبع لما قلناه عن عقلية
اللص الصغير . وليس من عجب إذن أن تكون تلك الدولتين اللتين اخترعتا فكرة
الوحدة العربية هما أعدى أعداء بعضهما البعض بين كل العرب . وطبعا لا أحد
يتصور أن سوريا دخلت حرب تحرير الكويت لأنها دولة معتدلة ، حاشا
للسماء ، كل ما هنالك أنها كانت فرصة عظيمة للنيل ممن ينازعونها حقوق
الملكية الذهنية لفكرة القومية العربية وما يترتب عليها بالضرورة من مبدأ حق
أصحابها المبجلين فى احتلال ونهب الدول العربية الأخرى الأكثر تقدما كالكويت
ولبنان . منذ متى أمكن للعرب أن يتفقوا ؟ بل منذ متى أمكن لأى متخلفين
أن يتفقوا ؟ عند المتحضرين يمكنك أن تصل مع خصمك لتنازلات متبادلة ،
من خلال البيزنس أو الانتخابات أو أى شىء ، وأنت تعلم أنك ستكسب من خلال صداقته
أو ثقتكما المتبادلة ، وتعرف كيف تحقق هذا . هذه أشياء تفوق الأفق
المحدود للعقل القبلى أحادى البعد . إن الوحدة العربية ممكنة لكن بعد أن
يتحول الجميع للتفكير العقلانى التنموى البيزنسى ويهجرون الشعارات تماما .
وربما نصدمك عزيزى القارئ بهذا الرأى إلا أننا نتمثله حق اليقين ، وهو أن الوحدة العربية ممكنة فقط بعد أن تتحد كل دولة
عربية على حدة مع إسرائيل ! لا اعتراض على أن تكون أية قطعة فى العالم باستثناء
روما ، أقصد مركز الحضارة ، مكونة من فسيفساء عرقى أو طائفى أو أى
شىء . ما يسمى بالتنوع ليس مشكلة فى حد ذاته طالما لا يتسلل للمركز ويعيق
قدرته على القيادة وصفاء رؤيته . الصومال فسيفساء ، العراق
فسيفساء ، لبنان فسيفساء ، الأسكندرية قبل 1952 فسيفساء ، مصر
برمتها ربما فسيفساء ، أى مكان . لا مشكلة ، هؤلاء يمكن أن
توحدهم فى كيان جميل ويمكن أن تحولهم لآتون حرب أهلية . هناك سبيل واحد
لتوحيدهم ، وألف سبيل لتطاحنهم . سبيل التوحد الوحيد هو
الاقتصاد ، لقمة العيش ، إرادة النماء . كل ما عدا ذلك ‑بما
فى ذلك ربما مجرد الكلام فى الثقافة‑ سيتصاعد غائيا إلى حرب أهلية .
المشكلة الحقيقية أن الشعوب ذات المكون الثقافى العالى ، شعوب ساموية
( من السمو ومن السماء ومن العرق الساموى ، أيا ما كان ) ، لا
تقيم وزنا كبيرا للقمة العيش ، بعبارة أوجز : لا تقيم وزنا لما يسمى
فى الفلسفة بالمادية ! … وهكذا حان وقت الكلام المباشر فى
الاقتصاد !
الصدع الكبير الأشهر فى التاريخ المعاصر للعالم
العربى هو بلا جدال الشق الذى صنعه عسكر يوليو ( دعاة الوحدة
العربية ! ) ، نقصد الشق
ما بين النظم الملكية والريچيمات الجمهورية .
حاولوا للوهلة الأولى الإيحاء بأن تلك نظم بالية متجمدة ، وأن من الحداثة
التحول إلى الجمهوريات كما الدول المتقدمة ، بل وهناك كلمة دارجة تصف النظم
الملكية بالشرعية القرشية ، مع ما توحى به الكلمة ضمنا من رفض علمانى حداثى
لتدينها النابع من نسبها العائلى الدينى . يقولون إن ناصر وحد الأمة العربية ‑بفرض
وجود شىء بهذا الاسم فعلا‑ تحت
قيادة مصر ، والحقيقة أنه هو الذى فتتها مرة واحدة وللأبد ، بفرض أن
هناك ما يسمى أصلا أمة عربية أو وطن عربى ( شخصيا فيما أكتب لا استخدم سوى
مصطلحات مثل العالم العربى أو البلاد العربية أو الناطقة بالعربية باعتبارها
تقريرية ومحايدة لحد معقول ولا تنقل أو توحى بأى شىء خاص ، بالذات مما
يتشدق به ’ الوحدويون ‘ ) . الأبعد فى كذب تلك المقولة أنه
هو ‑أى الكولونيل ناصر‑ الذى أضاع القيادة من يد مصر أيضا مرة واحدة
وللأبد . فقد اختزلت هذه القيادة فى مجرد البعد السياسى ( ناهيك عن
كونه بعدا ديماجوچيا رجعيا معاديا لقوى الحضارة إقليميا وعالميا ، ومن ثم
لم يقبله الكثيرون فكان سبب ذلك الصدع المخيف ) . بعد أن كانت مصر
الليبرالية تقود العرب فى النصف الأول للقرن العشرين قيادة ثقافية فكرية حضارية
شاملة ومثيرة للفخر بمعنى الكلمة . وكانت مرشحة لآفاق هائلة مع المزيد من
تطور تقنيات الاتصال كالسينما والراديو والتليڤزيون والطباعة …إلخ ،
فإذا بمصر ‑وبفضله‑ باتت بلدا مترهلا فقيرا مهزوما محطم المعنويات
معادى للغرب يقاوم الخروج من مستنقع الاشتراكية ويتسابق فى ذات الوقت إلى
الأفكار السلفية . بل وأصبحت الفجوة الثقافية بينه وبين كثير من العرب فجوة
عكسية ، لا سيما فى التسعينيات الحالية . مرت عقود هيمن عليها الصوت
العالى للريچيمات القومية و / أو الاشتراكية ، ولم يكن للنظم الملكية
سوى صوت خفيض للغاية . والأعجب أن لم يتغير هذا الوضع رغم أن ثبت بسرعة زيف
تلك الحداثة والعلمانية التى تشدقت بها الريچيمات الجمهورية العربية ( ربما
باستثناء واحد هو الحبيب بورقيبة فى تونس ) . لكن كما تذكر مثلا ناصر
عندما تملكه الهلع فى 1956 ، أخرى فى سرواله ، ألقى بالعلمانية عند
أول ناصية ، وذهب للأزهر لعل صراخ المصلين يلهيه عن دوامة التفكير فى حماقة
ما أوقع فيه نفسه وأمته التى وضعها بخبطة واحدة كقاطع طريق وكعدو لكل العالم
بسرقة لا تحتمل التأويل اسمها تأميم قناة السويس . ( الواقع أنه ما
كان لينجو أبدا لولا سوء تقدير أنتونى إيدن للمكانة المتصاعدة لأميركا ،
وعدم حرصه على تنسيق مواقفه معها ) .
كان من الممكن للمعسكر الآخر حشد كلمات كثيرة على
وزن كلمة شرعية قريش ، مثل شرعية الطيش أو شرعية الجيش أو حتى شرعية البطش أو النقش أو النبش أو النعش أو
الغش ، ويمكنك لو شئت إكمال نحو مائة كلمة سيئة المدلولات جميعا ،
كلها لبيان مدى ديماجوچية ودموية وتخلف الحكام الجدد من أبناء الطبقات
الدنيا . تمر الأيام وتزداد الهوة الاقتصادية والحضارية ، وتتحول بلاد
كبلدان الخليج بالغة الفقر والبداءة فى إمكاناتها أو فى وضعيتها الاجتماعية إلى
مجتمعات سريعة النمو تلهث وراء التحديث محطمة تقريبا كل القيود المورثة .
ورغم أنه لا يمكن تبرئة هذه البلاد من كثيرمن الأخطاء ، أو تخيل أن شيئا
حضاريا يمكن أن يبزع فى لحظة أو مرة واحدة وسط كل ركام وموروثات الماضى ،
إلا أن المؤكد لأى منصف أن تلك النهضة تحققت بسرعة لم يكن ليحلم بها أحد ممن
يعرف طبيعة مجتمعاتها ومعتقداتها قبل نصف قرن فقط مثلا ( من الزاوية العلمانية وحدها فى مقابل استسلام
المثقفين والإعلام المصرى مثلا أمام تصاعد المد الدينى ، تزداد الأصوات
العلمانية صلابة وعددا وتبلورا فى تصديها لهذا النوع من الابتزاز فى كثير من
الدول العربية المتدينة تقليديا ) . فى المقابل
كان لهاث ذوى الشعارات وراء شىء واحد : المزيد من الحروب ، المزيد من
الهزائم ، ودائما ما كانوا يجدون من الكلمات الجوفاء أغلبها عن الپترول
والثروة ، ما يمكنهم من مواصلة معركتهم ضد طواحين الهواء ، والتى
الخاسر الوحيد أو على الأقل الأكبر فيها ، هو هم . إذن لم
يكن ذلك الشق التاريخى مجرد شق سياسى عابر أمكن تجاوزه ، بل شق حقيقى وعميق
فى العقلية العربية ( العربجية فى اشتقاق آخر . هذا الاشتقاق الجيمى
موجود أصلا فى العامية المصرية لوصف المهن كمكوجى وجزمجى …إلخ ، وبدورنا
نقصد به الأيديولوچية حين تتحول لمهنة ، لكن لعل الوقع الداخلى الخاص له
عندنا هو الجمع بين كلمة ما وكلمة تهييج ربما ، وطبعا ستجدنا نستخدمه فى
كلمات مثل القومجية والوحدجية والإسلامجية والشيوعيجية …إلخ . على أية حال
ما يهمنا تقرير هنا أن استخدامنا له لو أوحى بنوع ما من التحقير ، فإن هذا
ليس موجودا دائما فى استخدامه المصرى العامى الأصلى [ آخرون أخذوه لاحقا
عنا بتغيير حرف واحد من كلمة عربجية أو ربما اخترعوه بأنفسهم ، ذلك إذ سموا
أعداء السلام بالحربجية . الكلمة حققت بعض الشهرة ، وكنا بالطبع نود
تبنيها لولا أننا للأسف من أنصار الحرب فعلا ولا نرى سواها بديلا للقضاء
على ، جبهة الرفض العربية‑الإيرانية ] ) .
نعم ، لقد تم شق العقلية نفسها لشقين ، واحد يعبر عن منظور تقدمى
اقتصادى حضارى تنموى متكامل أيديولوچيا ، فى مواجهة منظور رجعى ديماجوچى
متخلف شرعيته الوحيد هى الميكروفون . مع كل التحفظات الواجبة أن فكرة
القومية العربية كما اخترعها الملازم لورانس فى مطلع القرن كانت شيئا تقدميا
نبيلا الهدف منه إسقاط الخلافة الإسلامية الرذيلة فى تركيا ، أما وقد
استنفذت غرضها الأصلى الذى اخترعها من أجله ضابط الاستخبارات البريطانى فلم يكن
يتخيل أحد بمن فيهم هو نفسه ، أن هناك من يمكن أن يأخذها على محمل الجد من
أمثال ميشيل عفلق وجمال عبد الناصر ، ناهيك أن تنقلب بفضلهم شيئا رجعيا
هداما مارقا على كل الحضارة الإنسانية ، ومن ثم تتماهى على نحو عبقرى وشديد
الفعالية فى الأصول الچيينية ’ للأمة ‘ التى هى القرصنة وقطع الطريق
( نترك لك التأمل فى مفارقة أن فى نفس الوقت تقريبا الذى اخترع فيه لورانس
مفهوم القومية العربية أسس كمال أتاتورك مفهوم القومية التركية ، لكن شتان
بين الطريق الموحل الذى سارت فيه الأولى إلى الفاقة والظلام ومعاداة كل الدنيا ،
وبين منهج التحديث والتصالح والانخراط الكامل مع بقية الحضارة الإنسانية فى حالة
الثانية ) . إن فكرة الأمة القومية اختراع أوروپى ناسب شعوب نضجت ببطء
حثيث فى عصور اقطاع تليدة ، ولا تناسب بالمرة قبائل ما قبل الإقطاع كشعوبنا
العربية ، حيث الدولة نفسها فكرة غير مفهومة . ولا مانع بالمرة أن
يقسم العالم كله من الآن فصاعدا لا إلى كيانات مصطنعة تسمى دولا إنما إلى
مجموعات إثنية [ حددها لاحقا وارين كريستوفر سكرتير دولة كلينتون بعدد
مقترح مذهل : خمسة آلاف ! أيضا لاحقا صارت من الواضح أكثر ما هو مفهوم
الدولة لدى العقل العربى والمسلم ، فى الصومال وأفجانستان والعراق وغزة
والجنوب اللبنانى ناهيك برامج الأخوان المسلمين فى مصر ، دولة لا مظهر ولا
وظيفة لها أكثر من أن الصدقات للاقتصاد والفتوات للأمن ] ، هذه كيانات
ذات عمق أكثر واقعية ومادية ، لأن البينة الثقافية لمجموعة بشرية ما لا
يمكن أن تكون شيئا مصطنعا ، بل هى خير معبر عن العمق الچيينى الحقيقى لهذه
المجموعة أو تلك من البشر . ثم بعد ذلك لينخرط كل هؤلاء فى ظل عالم واحد
موحد بقيادة الأمة الأعلى تقنية فيه . المهم ، ولندع التاريخ جانبا
( هل يمكننا حقا وهو الذى أورثنا لعنتنا الچيينية ؟ ! ) ،
المهم أنه اليوم فى عقد التسعينيات باتت لحظة الحقيقة أوضح تماما من أية لحظة
سابقة ، وأن لم تعد ثمة شرعية للحكم لا بقريش ولا بالطيش ، فقط هناك
شرعية واحدة ، شرعية الناتج الداجن الإجمالى ، شرعية الحداثة ،
أو بذلك الميزان اللغوى المأثور : شرعية العيش !
إذن السؤال الكبير هو كيف نقهر كل تلك الديماجوچية
والشعاراتية ، التى لا تزال تطل برأسها ، رغم ما أشرنا إليه من اقتناع
عالمى كاسح فى عالم ما بعد الحرب الباردة بأن الاقتصاد والتحديث هما الحرب
الوحيدة الآن . انطلاقا من الحديث السابق فى الأوقاع السياسية ، وإن
لم يكن الكلام موجها بالضرورة هذه المرة للأشقاء الفلسطينيين وحدهم ، نقول
إننا نتباهى بالشرف والكرامة وما إليها وننسى أن لا مهانة أشد من الفقر ،
واخترعنا كدفاع نفسى مضاد عبارة الفقر موش عيب . لا نريد القول بأن العقل
العربى عقل بائس بطبعه أو لأسباب چيينية ، التنمية لم ‑وربما لن‑
تكون فى ذهنه أبدا لأن هذا الذهن مشغول بمعارك أخرى تماما . فقط نقول كبداية أساس للغاية ومبدئية للغاية ، أن
نحاول ‑طبعا باستخدام السلطة القهرية للدولة ، إن لم يكن للاحتلال أو
ما شابه ، ولا تعول على المثقفين كثيرا أو قليلا فالتعليم يزيدنا جهلا كما
تعلم‑ أن نقهر فى شعوبنا كل تلك العواطف القديمة التى تجاوزها العالم كالشرف
والكرامة كمعان فى المطلق المجرد ، وكالتقديس الزائد لثالوث الأرض والعرض
والأهل أيا كان الثمن ( نحن لا نعرف بالضبط كم
تساوى القدس أو حتى كل فلسطين فى سوق العقارات ، لكننا نعرف باليقين أنها
لا تساوى جميعا معشار ما خسرنا فى سباق التقدم التقنى والبناء الاقتصادى
بسببها ، وبالمناسبة العالم لن يفهم أبدا ماذا نفعل بينما أميركا مثلا
تكونت كلها من خلال سلسلة من عمليات شراء الأرض من الدول المجاورة ! ثم
أنهم فى الواقع يتذكرون كل ما يدفعونه لنا من معونات إذا ما عدنا بعدها وطالبنا
بالأرض أيضا . دع جانبا أننا نحن الذين أضعنا الأرض بالعناد وعمى العقل
بحيث يحار المرء فى الحكم هل إسرائيل دولة توسعية بالفعل أم أننا نحن أمة
انكماشية ويمتعنا هذا ) . هذا وناهيك بالطبع عن بقية طابور الشهوات
المدمرة كالغيظ والحقد والغضب والعناد والانتقام ، إلى آخر انفعالات الكبرياء
الرائعة التى لا نملك سواها .
بعد ذلك نأتى للإصلاح نفسه . بدورنا نقول إن
الاصلاح أمر مؤلم بالضرورة ، وأول متطلباته الرؤية والإرادة ، سواء
إرادة المنطق البارد للمعلم شايلوك أبو كل البنوك المعاصرة ، أو إرادة
الزعماء أمثال أتاتورك وفرانكو وپينوتشيت من قفزوا بأممهم من التخلف للتقدم فى
خطوات سريعة كما أحلام السينما . لا إصلاح اقتصادى مع المحافظة على ما يسمى البعد
الاجتماعى ، فالإصلاح إعمال لقوانين الانتخاب
الطبيعى كى تخلص الاقتصاد من ترهله والشعوب من كسوليها . هذه بديهيات لا علاقة لها بقضية الجلوبة ، ذلك
أن الجلوبة تطرح تحديات إضافية لا تقل قسوة أو إثارة . الضرائب والجمارك
ودور الدولة وكل شىء من هذا القبيل يجب أن تصبح صفرية فى أسرع وقت ممكن .
يسمونها
من هنا علينا
أن نعيد تعريف صنم آخر اسمه الوطنية ليصبح التعريف كما يلى : الوطنية هى العمل
على تعظيم رقم الناتج الداجن الإجمالى ، وليس أى شىء عاطفى أو معنوى مبهم
آخر . الوطنية ربما شىء مثير ومنعش حين يختص الأمر بكرة القدم ، لكنها
دمار شامل فيما عدا هذا ، إن لم يكن فى هذا نفسه . الوطنية
خيانة . بل منذ يوم أن أدخل الاسكندر الأكبر مفهوم الجلوبة لهذا
العالم ، هى أعظم خيانة للأهل والوطن والقوم والعرق قاطبة . بصراحة أكبر الأغانى الحماسية وزرع العداء هنا وهناك ليست من
الوطنية فى شىء ، بقدر ما هو مثلا تشجيع الآخرين على القدوم لصنع أفلام
تحمل عناوين مثل ’ إيمانويلل تقابل رمسيس الثانى ‘ ، ليس فقط لإضافة
موارد مباشرة للبلد إنما لوضعه على خريطة الثقافة والسياحة الدولية وحفز
اهتمامات الفرد العادى فى الخارج بهذه البقعة شبه المجهولة من العالم بالنسبة
لهم ( ربما يوجد فعلا فيلم بهذا الاسم أو نحوه ، لكن دولة أخرى هى
التى أضافت حفنة من الدولارات لتصويره فيها ، كما أن الوقت يمر عامة وربما
لن يكونوا فى حاجة لصنع جزءه الثانى عندنا وتقنيات الصورة المولدة حاسوبيا أرخص
وأجمل من الطبيعة بكثير ، تماما كما قد لا يكونون فى حاجة لصنع أى شىء
عندنا حتى مجرد الفرجة علينا ! ) .
الواقع أن العكس تقريبا هو الصحيح ، والوطنية
دائما أبدا كانت أقرب لنوع من الجريمة . جريمة فى حق الذات قبل أن تكون فى
حق الغير . وخاصة عندما تصل عدواها إلى الشعوب المتخلفة ، وتنتهى بطرد
المستعمر عالى التقنية صاحب الرؤية لمواردها وموارد العالم ككل ، من
أرضها . المصريون يتحدثون ويغنون كثيرا
عن الوطنية ، لكن الحقيقة أنهم لم يصنعوا لبلدهم شيئا واحدا ذا شأن .
باستثناء حفنة نادرة تعد على أصابع اليد تبدأ بأسماء مثل حرب وعبود وفرغلى
وتنتهى دوما باللقب الأجنبى باشا ، كل الأشياء الجيدة صنعها أجانب ،
أسرة محمد على - الإنجليز - أو حتى المغامرين الأفراد أوروپيين ويهودا .
عندما أراد المصريون لأول مرة عمل شىء مفيد لبلدهم كالسد العالى ( على
الأقل كان يفترض فيه أن ينهى حقبة الـ 7000 سنة من دورة الفيضان ، ويبدأ فى
ضم المصريين لزمرة بقية العرق البشرى الأسوياء چيينيا ) ، كانوا كمن
جاء ليكحلها فأعماها ، فأعادوا الوضع لأسوأ مما كان عليه . إذ ما حدث
أنهم لم يبالوا بتكبيدها فى مقابله أبهظ ثمن فى تاريخها كله : الوقوف موقف
العداء من كل العالم المتقدم ، ومن ثم هزيمة مخيفة أبدية ولا شفاء
منها . … بالمناسبة ، هذه
أيضا فى التحليل الأخير فهلوة ! نحن فى هذا لا نقصد أن هذه كانت
أخطاء شخص أخرق اسمه جمال عبد الناصر دخل حروبا مستحيلة الدخول ، أو كان
لصا قاطع طريق أمم قناة السويس وأموال الأجانب واليهود فيما هو جميعها كما قلنا
سرقة لا تحتمل التأويل . بل لأنها جميعا أشياء أصيلة فى مفهوم الوطنية
نفسه ، لأنه قاعديا مجرد شوفينية تعمى الأبصار عن رؤية أى شىء رؤية
موضوعية . … خذ مثلا أحد أكبر رموز الاستقلال فى التاريخ
المصرى ، المدعو سعد زغلول . فقط دجال عظيم احترف تبديل مواقفه بين يوم
وليلة . بدأ هذا وضيع الصل أزهرى التعليم سلم الصعود الشره للسلطة بدراسة
المحاماة فصار فى حقله انتهازيا شرسا لا يفل له ساعد ، محاميا انتهازيا لا
حدود لطموحاته . وعندما أصبح وزيرا للحقانية كان ذلك المغوار يحترف إلقاء
الخطب العصماء أمام الپرلمان سنة 1910 دفاعا عن مد امتياز قناة السويس ، ثم
نسيها جميعا حين كانت المصلحة الشخصية تقتضى العكس ، مع ذلك لا يخفى ندمه
بعد ذلك قائلا إنه كان المهم إثبات أن للجمعية العمومية سلطة وليس مجرد وضعية
استشارية . ذلك المغوار قال خطبا عصماء فى محطة القاهرة بعد
تقبيل يد كل مندوب سامى بريطانى جديد ، ثم يتفانى فى التحريض ضد الإنجليز
عندما تلوح الفرصة فى سلطة شخصية أوسع .
ذلك المغوار اتفق مع القادة
الوطنيين بالمعنى الحق للكلمة ، على ’ وفد ‘ يفاوض من أجل
الحماية ، من أجل صيغة تعاون حضارى وتنموى إنجليزية‑مصرية ، وقد
رأى هؤلاء مدى فائدة الإنجليز الذين حرروا البلد من الجزية العثمانية ،
وأنشأوا المدارس الحديثة ، وأتوا بالمصانع ، وسيأتون بجيش على حسابهم
الخصوصى من أجل تلك الحماية ، ولا يريدون أبدا سوى المنفعة المتبادلة من
خلال التحديث . فإذا فى يلقى سرا وعلنا الخطب ويجيش الأتباع من أجل
’ الاستقلال التام ‘ ، ويردد أن لا حل إلا وقوع
’ كارعة ‘ ( عيب خلقى فى النطق وليس تأثرا بأية لغة أجنبية لا
سمحت السماء ، فهو فى حياته لم يعرف من اللغات سوى ما علموه إياه فى كتاتيب
الأزهر ) . وكانت ذروة ذلك المخطط يوم اقتحم دون دعوة مؤتمرا علميا فى
دار جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع السلطانية يحضره كبار علماء القانون
الإنجليز وكذا عبد الخالق ثروت وزير الحقانية ، ناسيا فى نفسه كل الوقار
المفترض من وزير السابق ، ويلقى من وسط صفوف المستمعين خطبة عصماء ضد
الحماية البريطانية . والمقصود بالمستمعين هنا جمهور المحامين وطلبة
الحقوق ، وليس الجالسين على المنصة . كان هذا يوم 7 فبراير
1919 ، ولم يمر اليوم الثلاثون حتى كان الإنجليز يضطرون لنفيه خارج
البلاد ، وطلبة الحقوق الذى أجاد تربيتهم وتحريضهم يثبتون فى الصباح التالى
9 مارس حسن ما توسمه فيهم ، ويطلقون الشرارة التى أشعلت مصر بطولها
وعرضها . يهيج الدهماء فى كل ربوع مصر فى
أول ثورة بلشڤية يشهدها العالم بعد ثورة 1917 الأشهر . جعلوا ذلك
المحامى الانتهازى الكذاب ’ زعيما للأمة ‘ ومنحوه كل ما حلم به فى
شبابه المعوز ، محققين له طموحات الصعود الطبقى والسلطوى الشخصية .
المدهش أنه هذه المرة أيضا لم يتحرج من الندم كالعادة على أفعاله قائلا إنه كان
يقصد مجرد ورقة للمساومة . لكن طبعا هذه لم تكن المرة الوحيدة التى يخون
فيها عهد الوفد ، بقبول الحماية إن ثبت استحالة الاستقلال ، أو هكذا
كانت صيغتهم ، التى حاول دوما قطع خط الرجعة عليها بتحريضة العلنى ضد
الحماية بما يجهض سلفا احتمال قبول الناس بها فى كل الأحوال . آخرها أن
كررها فى مطار لندن ، فى أواخر سنة 1920 ، رغم أنه كان ساعتها قد أصبح
وحيدا تماما معزولا وسط أغلبية كاسحة من بقية أعضاء ومؤسسى الوفد ، ولم
يخطر ببالهم حين أخذوه معهم للندن أن سيكرر ذات اللعبة القزة مرة أخرى
أبدا . هذه المرة تفكك الوفد إذ تفككت أهدافه . لكن فقط بعد أن صاحبنا
قد حسم خياراته ، وقرر أن أكتاف الدهماء هى وسيلته الوحيدة للجاه والسلطة
بل إن لم يكن للتفكير فى كرسى الملك نفسه ، ذلك حتى لو كان فيها خراب وجوع
هؤلاء الدهماء أنفسهم . ومن الناحية التنطيمية كان طبعا قد وطد لنفسه سلاحا
سريا آخر هو التنظيمات الإرهابية بعبد الرحمن فهمى وأمثاله ممن جعلوا هدفهم
اغتيال الزعماء المصريين حتى لا يجد الإنجليز سواه يحكم البلد ، وقد
كان ! المأساوى حقا أن الهوجة التى
اندلعت صباح 9 مارس 1919 ، حتى وإن كانت قد قمعت فيما بعد ، وحتى لو
كانت مظاهرة واحدة لم تخرج يوم نفى سعد زغلول مرة أخرى سنة 1921 ، إلا أنها
كانت ‑فى تقديرنا‑ هى اللحظة الفارقة فى كل التاريخ المصرى
الحديث . دقت المسمار الأخير فى نعش تجربة أسرة محمد على التحديثية ،
ووضعت مصر فى خصومة هى الانتحار البطئ مع المستعمر الغربى المتقدم .
فالمشروع الحضارى المصرى الذى بدأه محمد على والخديوى إسماعيل ، والذى كان
ينظر بازدراء لتركيا ما قبل أتاتورك ويعتقد أنه سيفوقها بمراحل ، مات فعليا
‑كما قلنا قبل قليل‑ وفى مقتل فى
اللحظة التى نقل فيها زمام القرار المصرى لدهماء الشوارع من پروليتاريا المدن
والريف وإرهابييها من متدينين ووطنيين متعصبين ، ونزع مرة واحدة وللأبد من
يد الأرستقراطية والطبقة الوسطى ، وطبعا كتب على تلك الطبقات‑الأمل
مصير الموت بأسرع وقت ممكن على يد هذه الپروليتاريا الفاسدة المتخلفة . ما حدث سنة 1952 كان التصعيد
الطبيعى لذلك الانقلاب الأسود وليس انقلابا عليه بحال . فقط ما حدث من صبيه
المدعو عبد الناصر هو إصدار شهادة الموت الرسمية لليبرالية المصرية ،
فالحقيقة أنها كانت فى الواقع قد وئدت فى مهدها بذاك الداء القاتل المسمى
الوطنية . دليل تلك الإبادة الشاملة التى تعرضت لها الطبقات التقدمية أنه
حين هزم مشروع الخراب الشامل المسمى بالناصرية سنة 1967 كان الوقت قد بات متأخرا
جدا . كان قد تم طرد الأجانب المتحضرين ، وتم حتى القضاء على فلول
الطبقة الوسطى المصرية نفسها ، ولم يعد ثمة أركان لأى بناء جديد .
الألفاظ نفسها صارت مغلوطة ، وأصبح التزييف هو الأصل من قبيل تسميات
كالنكبة والنكسة والثغرة ( حقوق النسخ للاثنتين الأخيرتين على الأقل محفوظة
لكذاب كبير آخر هو منظر الناصرية المراوغ الأعظم محمد حسنين هيكل ) .
كل الشعب والنخبة والمثقفين باتوا فى حالة دوار ‑إن لم نقل جهل‑ لا
يعرفون ما هو الصواب وما هو الخطأ ، وتأكيدا يصعب عليهم قبول أن كل ما
هللوا له بالروح والدم للبكباشى ناصر من عداء للغرب وإسرائيل هو 180 درجة فى
الاتجاه الخطأ . لا تصدق أن أكتوبر 1973 قد أعاد لنا كرامتنا . واقعنا
اليومى ( وأقله ذلك الاندفاع المخيف نحو التدين ) يقول عكس ذلك
بالضبط . وطبعا غنى عن القول أن الشعب من الفطنة بحيث يحدس أنه كان نصرا
مزعوما أو مجرد خضة يوم عيد لن تتكرر أبدا ( الرئيس مبارك نفسه لم ترد على
لسانه قط كلمة نصر أكتوبر . فقط فى كل سنة يسميه العبور العظيم . أما
السوريون فيعترفون صراحة بأنها كانت هزيمة منكرة ) . هذه القصص العفنة عن رائد خرابنا المؤبد السيد زعيم
الأمة ، يمكنك الاستمتاع بها فى كتب مثل مذكراته هو شخصيا ذات الهالة
الغامضة ، أو فى كتاب العقاد عنه ، أو كتاب محمود سليمان غنام ،
وكلها فى سياق إشادة على طريقة التوراة فى سرد فضائح الأنبياء والإصرار على
قداستهم فى ذات الوقت . أو فى كتب أكثر رصانة مثل مذكرات الدكتور محمد حسين
هيكل أو غيره من مصادر نقلت بالأخص رواية أحمد لطفى السيد لقصة الوفد ، أو
مثلا كتاب أحمد بهاء الدين عنه وعن عدلى ’ أيام لها تاريخ ‘ ،
وإن بانحياز واضح وصادم لصالح هذا الأخير ، أعتقد أن لم توات كاتبا مصريا
آخرا من هذا الجيل الأحدث مغسول الدماغ ، مثل هذه الشجاعة لاتخاذ مثل هذا
الموقف أبدا !
استطراد : فى مقابل مسيرة الاضمحلال المصرى
مذرية التداعى منذ 1919 ، ربما آتى برأى قد يبدو غريبا على أسماع ليس
المصريين فقط بل بعض السعوديين أنفسهم ، ألا وهو أن أفضل مفكرى العرب إطلاقا اليوم هم سعوديون ، ولا دليل أكثر من مقالات الرأى فى صحفهم داخل وخارج
السعودية . تفسير هذا عندى شىء واحد ، هو الاقتصاد الحر . ربما
من حيث الجوهر قد تعتبر المجتمعات الخليجية بفضل النفط مجتمعات ريع
اشتراكية ، تملك فيها الحكومة الكثير وتفعل وتقدم الكثير . لكن ظاهريا
أو نظريا على الأقل ، هى اقتصادات حرة تشجع على المشروع الخصوصى ومنفتحة
للمنافسة العالمية بدرجة لا تقارن مع بقية الجمهوريات العربية المحيطة .
نعم الثقافة النتاج الفوقى للاقتصاد
قبل أى شىء آخر . هذا يبدو كلاما ماركسيا
مبتذلا ، لكنه حقيقة . فى نفس الوقت أنا غير منفتح بالمرة لأية مناقشة
هنا مع الماركسيين عن الحريات فى السعودية أو غير السعودية ، ففى هذه
النقطة بالذات أنا ماركسى للغاية : إذا كان الاقتصاد أهم شىء فى الدنيا فهو أهم شىء فيما يخص
الحريات أيضا . الاقتصاد الحر بيئة ومناخ ينتجان عقولا غير العقول ويجعلان
العيون ترى الدنيا غير الدنيا . حين تعيش فى مجتمع ذى سوق حرة ، تتغير
كل رؤيتك للحياة وللعالم . الأفكار نفسها تصبح سلعة تخضع لمعيار المنافسة
وحده . ستتعود الزوالية والصيرورة والانتخاب الطبيعى والصراع المفضى للتطور
من جهة وتتعود الهزيمة والانقراض من جهة أخرى ، وسترى هذه وتلك كلها
كبديهيات لا يصح مناقشتها . ستضمحل الهالة عن الأيديولوچية والثوابت
والمقدسات . بل حتى ستحب الغير الأجنبى حين يقدم فى سوق الثقافة سلعة أفضل
منك ، وستتكالب على ترويجها والحصول على توكيلاتها .
هؤلاء الكتاب السعوديون ‑وأنا أكثر حماسا لهم
حتى عن كتاب الكويت أو قطر الذين يبدو أن الكثير منهم وجدوا التقدم فى الخروج من
الفكر العشائرى الإسلامى ، إلى فكر عروبى يسمونه بالعصرى أو الجديد لكنه ليس
فى الواقع إلا تنويعة منقحة ما من الفكر الظلامى للبكباشى جمال عبد الناصر لا
أكثر‑ برزوا رغم أنهم ينتمون فرضا لأشد المجتمعات العربية انغلاقا ومحافظة
وتمسكا بالدين . لم توقفهم سلطة يقال عنها إنها ديكتاتورية متسلطة أو
تقاليد اجتماعية أو مؤسسة دينية متخلفة ( يقولون إنها تصدر لنا فى مصر أو
غير مصر فكرها المتطرف ، بينما الحقيقة أننا نحن الذين نستورد هذا المنتج
بينما هم يتركونه يوما بعد يوم ، ذلك لأننا نحن الذين ننحدر . ويكفيك
كما قلنا المقارنة المخجلة بين ما يكتب رؤساء الصحف المصرية وما يكتب رؤساء
الصحف السعودية ، ولا أقصد ’ الشرق الأوسط ‘ بالضرورة ، رغم
تفردها الحقيقى والذى لا يقف عند مدلولات اسمها الجرئ ) . بل نكاد
نقول العكس إن هؤلاء الكتاب لا يبدون بالمرة كنبت شيطانى يربك مجتمعه ، بل
بالعكس ‑وأكتب عن علم‑ هم مصدر اعتزاز وفخر كل سعودى . وأغلب
السعوديين يعرف أنهم يعيشون فى تخلف ويريدون الخروج منه ويحترمون لأبعد مدى
تجارب الغير فى هذا ، والكلام هنا عن عموم وبسطاء الناس ، وليس فقط عن
أسرة مالكة تضم بين جنباتها أفضل العناصر العربية تعلما فى الغرب . بكلمات أبعد قليلا فى
العمق ، من يعادى المتقدمين لا يمكن أن يكون متقدما . هنا تكمن حكمة
ما تحدثنا عنه واسمه الاستسلام ! مشكلة العرب ليست فى الأميين ،
المشكلة فى المتعلمين . التعليم يزيدهم جهلا ، ويشحنهم بالعداء ضد
التقدم والمتقدمين ، ويكفى وحده ذلك الكم الذى تحفل به كتب التاريخ وما
يسمى التربية الوطنية والتربية القومية من مغالطات وتزوير فاضح للحقائق .
بكلمة أخرى نسبة الأمية فى بلادنا أكثر من 100 0/0 ! إن أردت الإصلاح ( إن كان
ثمة أمل فيه ) ، فانس مؤقتا كل ما يخص الثقافة ، فهذه لن تصلح فى
أى مدى منظور . إنه الاقتصاد يا سادة ، لا شىء أقوى منه ولا أكثر
قاعدية ( وبالأحرى لا نريد اقتباس كلمة چيمس كارڤيلل
مدير حملة بيلل كلينتون 1992 الأشهر ’ إنه الاقتصاد ، يا
غبى ! ‘ ) . …
من هذا ، زائد مما سبق واتضح
من الأوقاع السياسية للجلوبة يتضح فى ذات الوقت أن من المحتوم علينا بالتبعية
لما ذكر ، أن نعيد النظر فى صنم كبير اسمه الاستقلال . فمن التبعات
البديهة لكلمة جلوبة ضرورة مراجعة فكرة كتلك نفسها . بصياغة صريحة نحن لا
نسعى وبمنتهى التهافت حاليا سوى لشىء واحد هو التخلص من ذلك الاستقلال الذى
أفنينا من أجله عقودا فضلنا فيها أن نظل أسرى للفقر والتخلف . والمذرى حقا
أن يا ليت العالم المتقدم يستجيب لنا ويقبل العودة بتقنياته واستثماراته وحمايته
…إلخ . السبب المضحك ببساطة أن كل
هذه الاستثمارات كانت موجودة عندنا يوما وتمارس أعظم دور فى تاريخنا لتنميتنا
وتطويرنا لكننا بمنتهى الدم البارد طردناها ! وليس أكثر مدعاة للاستهزاء أو
لإثارة الشفقة أو لهما معا أن ندعوها اليوم للرجوع .
إن الاستقلال ومما لم يعد فيه شك
اليوم أنه كان غلطة ستراتيچية كبرى بل أم كل الأخطاء القومية . لن يمر وقت
طويل حتى يكتشف الجميع أن فكرة إعطاء العالم الثالث الحكم الذاتى كان جرما فى حق
كل الشعوب غنية وفقيرة لحساب حفنة محرضة فاسدة . فى سنة 1960 كان الخمس الأكثر
ثراء فى العالم أغنى ست مرات من الخمس الأكثر فقرا . ما يسمى بالاستقلال كان فكرة
فاشلة ولم يعد خيارا مقبولا . دعك من الجلوبة والتنمية وتوحيد
العالم ، أقل ما فى الأمر تلك النتيجة المخيفة المترتبة عليه من تفاقم
الفقر ومن ثم زحف عكسى لجحافل الفقراء تغزو الغرب ، تنهش ثرواته كما الجراد
وتضخ فيه قيم التخلف والدين ضخا ، وهو فيما يبدو تقليد رائج لحد التقديس فى
منطقتنا ككل ، تحديدا منذ نهج عليه ما يمكن تسميته بجراد يثرب حين ترك ذاك
الوكر لأول مرة ، فيما سمى بغزوة بدر ، ليغزو كل العالم تقريبا ناهبا
ثرواته تاركا إياه جدبا خربا وأرضا محروقة . [ يوم
11 سپتمبر 2001 وجدنا أنفسنا منساقين لحديث مسهب
حول فكرة جراد يثرب هذه ، والتى سرعان ما كونت صفحة مستقلة بعنوان
سپتمبر ] . بمناسبة الجراد ، فالكل
جراد ، والجراد المهاجر لم يهاجر إلا بعد أن أجدب جراد الداخل الأرض .
الحل ليس فى هجرة جحافل الجراد تنهش ثروة الغرب . الحل أن يعود العالم الأول
لحكم العالم الثالث . حكم العالم الثالث لنفسه ‑وبالأخص منه العرب
والمسلمون‑ هو جريمة فى حق العالم وجريمة فى حق نفسه أولا . الحكام
الوطنيون ، بالذات لو تسموا بالعروبة أو الإسلام ، هم جراد يترك الأرض
جرداء ، بينما الاستعمار ، وبالذات الأنجلو‑يهودى منه ، هو
الفلاح الذى ينميها ليأكل منها الجميع وهو ، حتى نهاية الزمان ! ومثالنا الحزين هو ما سمى بتجربة
الليبرالية المصرية . مر على مصر من الاحتلال أشكال وألوان . إنها
محتلة طيلة كل تاريخها تقريبا . بعضهم جاء بمشروع حضارى أخذ وقته وذهب
( الرومان مثلا جاءوا للأراضى التى احتلوها بالكثير من تقنيات الزراعة
والرى والصناعات وبناء السفن وقطعا كانت عاصمتهم الأعلى حداثة وتمدينا وتقنيات
بين كل مدن الأرض … إلخ ) ، وبعضهم جاء لينهشها لا أكثر مثل بدو
الجزيرة العربية ( ليس لديهم أية مشروع حضارى ولا غير حضارى ، بل لا
يعرفون الزراعة ولا الرى أصلا ! ) . ثم بدأت تزدهر تجربة نهضوية
على يد حاكم ألبانى اسمه محمد على . عانت من كبوات ، وخيل للجميع أن
قضى عليها بهزيمة وعزل الخديوى إسماعيل . هنا يدخل الإنجليز . استعمار
غير كل استعمار . وكما من يقوم من بين الأموات ، ازدهرت بشدة من جديد
الليبرالية المصرية . لقد أحياها احتلال الإنجليز مصر ، بل وصلت بمصر
لأعلى ‑بل أجمل‑ نقطة فى
كل التاريخ البائس لهذا البلد ، وبدأت بالفعل تشع بنورها على المنطقة كلها .
على أن الأجل لم يطل بها إذ سرعان ما عاجلها وخانها فى الظهر هى والإنجليز
معا ، ذلك الخائن السافل المدعو
سعد زغلول ، رافعا أبشع شعار فى التاريخ الإنسانى ، الوطنية
والاستقلال .
حكم العالم الثالث لنفسه ‑وبالأخص
منه العرب والمسلمون كما أشرنا‑ هو جريمة فى حق العالم وجريمة فى حق نفسه
أولا . بل نذهب لما هو أبعد للقول بأن ما سمى بالاستقلال كان فكرة محكوما
عليها سلفا بالفشل . الأسباب فى هذا كثيرة ، لكن ليس أقلها قاعدية أن
رؤية الصغير للعالم ولمستقبله الاقتصادى والتقنى والثقافى لا بد وأن تختلف
بالضرورة عن رؤية الكبير له ، إن لم تكن معدومة أصلا . الكبير يرى ما
هى الخطوة التالية التى يجب اختراعها من التقنية ، ويرى كيفية تنمية وتكامل
الموارد على مقياس واسع ، وعادة ما يكون صاحب مفهوم أنضج وأشمل للثقافة بل
ولكل شىء .
الأمور ليست فى حاجة إلى
إثبات . قبل أربعة عقود حاولت أميركا احتلال شبه الجزيرة الكورية .
فشلت . لم تفرض هيمنتها سوى على نصفها فقط . الآن ما هو وجه المقارنة
بين الجزء الذى قبل العمالة والتبعية والمهانة والقواعد العسكرية ، والجزء
الذى حقق الاستقلال السيادة والهوية القومية والهامات المرفوعة ؟ نصيب
الفرد من الناتج الداجن الاجمالى فى الجزء الأول عشرون ضعف نظيره فى الجزء
الثانى ! تخيل أنت أن استيقظت غدا لتجد دخلك الشهرى عشرين ضعف ما هو عليه
الآن ! يمكن للباحث أن يرصد بسهولة أن
أنه باستثناء استقلال أميركا فإن جميع عمليات الاستقلال قد أضرت بشعوبها أضرارا
جسيمة ووصلت بها لدرجة من التخلف بات معها التراجع عنها وطلب الصفح تمحكا فى عصر
الجلوبية الجديد أمرا غير مقبول ومتأخرا للغاية . إن استقلال الهند ومصر
وغيرهما أكبر جريمة ارتكبت فى حق شعوب العالم الثالث . بل من غير المؤكد
حتى أن عدم استقلال أميركا كان سيفضى لعالم أبطأ تقدما .
باختصار : الوطنية والقومية
والاستقلال كلها شعارات هدفها طرد المستعمرين الأكفاء واستيلاء حفنة المحرضين
المحليين الانتهازيين الفاشلين على السلطة وفتات الثروة . الآن تتوق الشعوب
لأيام كان يحكمها فيها مستعمرون أكفاء نزهاء ويشتغلون من أجل تقدم كل العالم ،
وهم جزء منه كلما ارتقى مستواه وإنتاجه واستهلاكه ، كلما تفرغ المستعمر
لابتكار ما هو أحدث من التقنية ، وبالتالى المزيد من الرفاه للجميع ،
وهلم جرا . باختصار : تماما كما أن الشيوعية أخذت فرصتها كاملة وثبت
فشلها المطلق ، أيضا الاستقلال أخذ فرصته كاملة وثبت فشله المطلق ،
وليس فى هذا غرابة فكلامهما ينطلق من معاداة أو مصادرة بعض أو كل القوانين القاعدية للطبيعة كالقوة والمنافسة
والاستعقاد والعملقة …إلخ . والحل الوحيد أن يعود العالم الأول لحكم العالم
الثالث ، فكل البدائل الأخرى تبدو مرعبة ! بعبارة أكثر بساطة : أنت فى
كل مرة تقول فيها صباح الخير لإنجليزى أو يهودى تستفيد شيئا أو تتعلم
شيئا . هذا لا يمكن أن يحدث لو كان رئيسك فى الشغل عربيا مثلك ! بمناسبة البساطة ، نحن لا نحلل هنا ولا نحاول سوق
المبررات لك كى نقنعك مثلا بالإمپريالية أو الاقتصاد الحر . فقط نحن نقرر
حقائق تاريخية باردة ، لكنها صارخة فى المقارنة بين أحوال أمم اختارت طريق
الاستقلال والاشتراكية ( الهند ، مصر ، بقية أفريقيا ، وما
سمى بعدم الانحياز …إلخ ) ، وأخرى اختارت طريق التبعية والرأسمالية
التنافسية ( النمور الآسيوية ، تشيلى ، ومن قبلها دول جنوب
أوروپا المتوسطية ، وفى القرن الماضى الياپان ، وهلم
جرا ) .
لقد كان الأمر أشبه بمؤامرة دولية ابتهاجية طقوسية
لا عقل فيها ، ومن شواهدها ذات الدلالة ، أن وقف قادة الهند وپاكستان
فقط بإيجاز : استقلال أميركا هو أول كل الاستقلالات وأهمها وزنا والذى تميز
وحده بأن كان لآبائه رؤية تتجاوز بقية العالم بما فيه المستعمر نفسه ،
ناهيك عن أن أثبتت صحتها الأيام ، لكن قل لى بحق كل ما تؤمن به ما هى
الرؤية التى كانت عند جاندى أو ناصر أو من لفوا لفهما ؟ الإجابة المؤسفة
التى لا فكاك منها : كان لديهم برنامج للكراهية لا أكثر ! اليوم لعلنا
نغامر بنبوءة أبعد قليلا ، ونقول إن الفلسطينيين ولا أية شعوب أخرى تدعى حق
الاستقلال سوف يحصلون عليه أبدا . ليس السبب مجئ نيتانياهو للسلطة فى
إسرائيل وعزمه على القضاء المبرم على كل فصائلهم المسلحة الإرهابية ، وليس
السبب أن ذلك ما وقعوا عليه أصلا بنبذ الخيار المسلح وقبول حكم ذاتى لغزة
وأريحا ، وأنه إذا حدث وحصلوا على سنتيمتر واحد فهو فقط بالتفاوض
وبالأريحية التامة من جانب إسرائيل التى إن لم تعطهم أى شىء فهى حرة تماما فى
ذلك وستظل فى نظر العالم ملتزم التزاما تاما بالاتفاقات ، حتى وإن كان
الفلسطينيين قد وقعوا على أشياء لم يقرأونها ، أو قرأوها وفهموها بعاطفتهم
وبأحلامهم لا بنصوصها القانونية الباردة . هذه كلها ليست الأسباب التى يعتد
بها فى المقام الأول ، السبب العميق هو أن الغرب حين أعطى الاستقلال لدول
العالم الثالث تلك كلها ، لم يكن يتخيل حجم الجرم الذى يرتكبه فى حق نفسه
وفى حقها . ولم يكن يتخيل أنهم سيديرون أمورهم على كل ذلك القدر من السوء
والفساد وانعدام الكفاءة والاستسلام لقطاع الطرق المحليين لهذه الدرجة .
مثلا البعض من الساسة المصريين ما نريد قوله لأخوتنا الفلسطينيين ، لا من
قبيل النصح والتلقين ، إنما من قبيل إبداء الإعجاب والتأييد لخطواتهم
الحكيمة نحو حياة أفضل اقتصادا ورفاهة لشعبهم بعد اتفاقات أوسلو ، إن عصر ما يسمى التحرر القومى قد ولى واندثر ، وقد فهم الجميع اللعبة أو ندموا عليها ، وأن العالم يتكتل
حاليا لا أن يبحث عن مزيد من التفتت . الفكرة باتت مرفوضة من حيث
المبدأ ، ولم يعد أمام أحد إلا الانخراط فى ركاب الحضارة ، وإلا
فالبديل مخيف حقا وهو الإبادة ، ولا حلول وسط ! نعم : الآن لم
يعد هناك سوى شىء واحد مهم : المحتوى ! هل أنت مع التقدم أم مع التخلف ،
هذا هو السؤال —پرنس هاملت !
فقط من الجدير بالذكر فى
هذا السياق حول لماذا استقلال أميركا استثناء كبير لم يتكرر بين كل الاستقلالات
( وأيضا بمناسبة الحديث المتكرر عن فرنسا أم فكرة الجمهورية فى العصر
الحديث ) ، أن الدستور الأميركى ، وكل الوثائق التأسيسية
التاريخية لها ، تخلو على وجه الإطلاق من ذكر كلمة
’ جمهورية ‘ . الفكرة أن تفرد الاستقلال الأميركى ينبع من كونه الاستقلال الوحيد الذى
طرح مشروعا أفضل مما كانت تطرحه الإمپراطورية الأم ، وطرح مجتمعا أعلى
تنافسية بينما كانت بريطانيا يتصاعد فيها نفوذ طبقات الشغيلة ، طرح
الليبرالية الوحشية فى وقت كان فيه مركز الإمپراطورية يلوح أرضا خصبة للأفكار
الاشتراكية وحتى الجمهورية ، وهو على العكس طبعا من كل الاستقلالات الأخرى
فيما بعد التى قامت كلها كل نسخ أكثر تطرفا من تلك الأفكار جعلتها جميعا على
يسار بريطانيا . بكلمة : الاستقلال الأميركى يستمد مشروعيته من أمنا
الطبيعة شخصيا وليس من أى أحد آخر ، وتنافسية هذه الشرسة هى التى كان يجب
أن تنبئ سلفا بأن أميركا التى لم تكن بحال أقوى ولا أعظم من الإمپراطورية
البريطانية ، ستكون أعظم الإمپراطوريات قاطبة وأحلى حدث عرفه الكوكب فى كل
القرون الأخيرة . لا شك أن أولئك الآباء المؤسسين ‑الماسونيون
بالأساس‑ كانوا من أكثر الناس قاطبة تأهلا لفهم وتقدير جبروت قوانين أمنا
الطبيعة هذه حق قدرها ، وكل هذا من حيث الجوهر هو ما لاحظه تحديدا أليكسيس
دو توكڤيل فى كتابه الشهير ’ الديموقراطية فى أميركا ‘
( 1835-1840 ) عن النخبة الصناعية الشرسة التى ستتحول لأرستقراطية
تفوق كل الأرستقراطيات التقليدية حتما ، مع مفارقة أن أميركا هى البلد
الوحيد لذى لم يكن محملا أبدا بأى إرث أو تراث إقطاعى ( المجلد
الثانى ، القسم الثانى ، الفصل العشرون ) . المفارقة المذهلة أن توكڤيل
ذهب لأميركا بالابتهاج الفرنسى الأهوج التقليدى أنها الشعب الذى ثار على الملكية
البريطانية خصمهم اللدود ، ثورة رعاعهم هم على ملكيتهم الشريرة ( وإن
طبعا لا شىء يعادل شر الإنجليز أو ملوك الإنجليز ! ) ؛ ذهب ليؤرخ
لثورة الشعب الذى أهدوه كفرنسيين تمثال إلهة العبيد والضعفاء الرومانية ليضعه
شعارا لأمته على ثغر أكبر مدنه ، فإذا به يفاجأ أنهم ثاروا لأنهم يرون
أنفسهم أكثر أرستقراطية من جميع الملوك ! أميركا ليست ديموقراطية .
أميركا شىء أكثر تقدما من هذا بكثير . أميركا دغل jungle . ولهذا فقط هى قوية !
بعبارة أعم ، ليس كل الاستعمار سواء ، وليس كله نقلا لتقنية متقدمة
بالضرورة . الأسوأ هو الاستعمار الظلامى الذى يحض على التخلف والخرافة
كالغزو العربى‑الإسلامى لبقعة ضخمة من العالم إبان عصور الظلام ،
ومثل الاستعمار الفرنسى الذى يهتم بالثقافة لا بالتقنية ، ومثل أحدث نماذج
ذلك الاستعمار الظلامى الاحتلال السورى للبنان . أما الأفضل فهو مرة أخرى ‑ومن
غيرهم : الأنجلو‑يهود .
نعم ، هؤلاء هم الاستعمار الأمثل لعالم اليوم والغد . تمسكوا ويتمسكون
بأفضل تقاليد الإمپراطورية الرومانية العظيمة . من المغرى أن نجرى هنا بعض
المقارنة لنكتشف بعض الشبه بين الاستعمار الإسلامى والاستعمار الفرنسى
( بفرض أن أيهما يستحق الكلمة ، إنما هو فقط غزو ونهب وسلب ) .
الإسلام كان يغزو العالم وينهب ثرواته بمجرد كلام اسمه الدين ، وفرنسا ‑إمپراطورية
الشر‑ لم تكن دينية لكنها غزته بالثقافة والأيديولوچية . الأمر لا
يختلف كثيرا . ما يجمعهما أنهما يبيعان كلاما ويقبضان مقابله من الماديات
الكثير نهبا صريحا ، وما يفرقهما عن روما ولندن ‑إمپراطوريات الخير‑
أن هذه تذهب بمشروع للتحديث والتنمية ’ مادى ‘ اقتصادى تقنى تلمسه على
الأرض ( ناهيك عن كونه متبادل المنفعة ) ، لا تحاول ولا تفكر ولا
يعنيها ‑وربما حتى لا ترضى‑ أن تنقل قيمها أو سلوكياتها
للمتخلفين ، لسبب چيينى ومنطقى للغاية أنهم غير مؤهلين لها ولن
يستوعبوها ، على الأقل قبل قرون من التفاعل البطئ جدا . نعم ، هم
لا يختلطون بالشعوب المتخلفة ، ولا يحاولون تغيير ثقافتها ، فقط
ينهضون بها اقتصاديا ، والباقى لا يأتى إلا تلقائيا وعلى المجرى الطويل
وحده . هم يعلمون أن ثمة فارق چيينى جسيم يخص العقلانية والسلوك شبه
الآلى ، من الضخامة بحيث لا يمكن جسره بفعل عمدى سريع ، ناهيك عن أن
تجسره النوايا الحسنة . فقط الفرد الذكى والمجتهد جدا هو من يفهم
هذا ، وربما يحاول ومن الجائز أن ينجح فى اكتساب صفاتهم ، ومن ثم قد
يحق له يوما التقرب منهم . العكس بالعكس ونتيجة التخالط المؤدلچ جلية فيما
يخص فرنسا . كان هدفها أن تنقل ثقافتها
للمتخلفين ، والنتيجة أن نقلوا هم ثقافتهم لها . كان هدفها أن تحتل
أراضيهم ، والنتيجة أن احتلوا أرضها هم . وها نحن نراها تنحل وتهبط
وتتخلف يوما بعد يوم إلى هاوية لا قرار لها . باتت أفقر دول الاتحاد
الأوروپى ، ولا يمتعها شىء الآن قدر استمراء دورها كالدولة رقم 1 فى العالم
الثالث . [ فكرة الفارق بين الاستعمار
البريطانى والاستعمار الفرنسى ، وهل الإنجليز متعالون والفرنسيون محبون
للجميع ، وحقيقة العلمانية الفرنسية ، عدنا لمناقشتها ببعض الاستفاضة
فى صفحة سپتمبر بمناسبة قرار
انفاق 8 بليون دولار على تحديث أحياء المسلمين فى فرنسا ، فقط مكافأة لهم
على قتل اليهود ! ] . إن هزيمتنا فى موضوع الاستقلال متشعبة
ومتغلغلة ، لدرجة أن تجد حتى انعكاسا طريفا لها فى اللغة نفسها . فالعرب عندما اشتقت كلمات مثل الاستعمار
والاستغلال قصدت معان جميلة ونبيلة للغاية هى بذل الجهد من أجل الإعمار والإغلال
…إلخ ، لكن الغوغاء من الدهماء ومحرضيهم الذين لم
يكن أولهم جمال عبد الناصر وللأسف لم يكن آخرهم ، جعلوا من الاستعمار
والاستغلال كلمات بغيضة . للأسف الديماجوچية والعاطفية كانت وما زالت بكل
أسف هى صاحبة الكلمة العليا فى شعوبنا العربية ومثال هذا أن ما يسعى له الأخوة
الفلسطينيون حاليا هو تحديدا ذلك الشىء المسمى استقلالا عينه ، ودون أخذ أى
عبرة من تاريخ عشرات الدول الأخرى ، ورغم أن الأمور فى حالتهم أوضح وأكثر
مباشرة كثيرا ، إذ ستتدهور بدرجة هائلة أحوالهم الاقتصادية بعده سواء
كأفراد أو كشعب . المؤكد فى كل هذا وذاك أن عبد الرحمن الجبرتى كان يتحدث بعربية
أخرى غير تلك التى نفهمها اليوم .
دون أن نجزم نهائيا إن كان الوقت قد تأخر حقا أم لا ، فإنه
تطبيقا لتلك الآمال الكبار ، علينا بادئ ذى بدء أن نفهم ما تعنيه كلمة
الشغل الجدى . إنها شىء يختلف نوعيا وليس كميا فقط عما اعتدنا عليه .
كان صدمة مريعة لى أنا شخصيا أن تنكص مصر عن الحلف الإسرائيلى‑التركى ،
حيث معايير الجودة والإنتاج بالغة التقدم ، ونبحث عن تحالفات أفريقية وعالم
ثالثية متخلفة . إننا مولعون بالتحالفات التى تتبع المثل المصرى القائل
’ اتلم المتعوس على خايب الرجاء ‘ . بادئ ذى بدء علينا أن نكف عن
التعويل على التحالفات الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها خارج دائرة
المنتصرين الحقيقيين ، فهذه كلها ثبت أنها مجرد اجتماعات وعناوين للصحف
مضيعة للوقت وتنهار بعد قليل ، ولا تساعد فى إكتساب تقنيات حقيقية
للمستقبل ، فما بالك بتنمية تقنيات خاصة تكسبنا خطوة أو خطوتين أسرع من غيرنا
فى هذا السباق المدمر . حاصل جمع عشرين صفرا يساوى صفرا . هذه هى
المعادلة العربية ، وضع ما شئت من معادلات أفريقية وعالم‑ثالثية
مشابهة . لماذا نتحالف مع العرب أو غيرهم إذا كان متاحا لنا التحالف مباشرة
مع أميركا وإسرائيل . هذا ما لم أفهمه قط فى السياسة الخارجية المصرية على سبيل
المثال . إن مصر دخلت فى عشرات الاتفاقيات
الاقتصادية الإقليمية العربية والأفريقية والعالمية
ومجموعات تحمل أرقاما وأرقاما للدلالة على عدد أعضائها ، لكن كل هذه لا
تعدو أكثر من تظاهرات لا تطمح عادة لأكثر من إما طلب الرحمة من الأغنياء حينا أو
صب جام مشاكلنا عليهم باعتبارهم سببها حينا آخر ، ( الحقيقة أنى أتحسس
آلتى الحاسبة فى كل مرة أسمع فيها عن تجمع اقتصادى من هذا النوع ، وذلك كى
أحسب كم يساوى اتحاد الديون هذا ! الحقيقة أيضا أنى كلما نظرت لتلك الآلة
أسال نفسى هل هى مجرد مصادفة أن العرب هم من اخترعوا الصفر ؟ ) .
أما الحلف الوحيد الحقيقى فى المنطقة ذو العمل الجاد فقد رفضنا الدخول فيه
وتركنا الدولتين الأخريين تنطلقان فيه كقوى إقليمية مخيفة !
من ناحية أخرى يكاد يكون
تناقضا لغويا من المبدأ ، تخيل أن العالم الجلوبى سوف يحوى شيئا اسمه التكتلات
الكبرى فلا تكتلات فى الجلوبية إنما فقط كتلة
واحدة ، فذلك فى حد ذاته نفى للجلوبية ومحاولة ساذجة لتوهم عالم لا جلوبى
آخر متعدد الأقطاب أقرب لمجرد تنويعة على عالم الحرب الباردة البائد . بل
بالأحرى هى أنموذج طالما عرفناه عبر التاريخ . لطالما ظهر فى مقابل كل
حضارة إمپراطورية ضد ، أو إمپراطورية شر إن استخدمنا التعبير الشهير الذى
اقتبسه الرئيس ريجان عن فيلم ’ حروب النجوم ‘ ، إمپراطورية تتطفل
على ثورتها التقنية وتحاول استخدامها ضدها ( الإسلام ضد روما ، فرنسا
ضد إنجلترا ، الاتحاد السوڤييتى ضد أميركا ) ، ولطالما ظهر
ضدها أيضا حفنة من القراصنة وقطاع طريق الحضارة الصغار أو
’ المستقلين ‘ ممن يحاولون سرقة وابتزاز الثورة التقنية الجديدة وسلب
منجزاتها بل وتهديدها كلها بالفناء ، ليس من خلال جيوش الظلام
المذكورة ، إنما بأسلوب العصابات والإرهاب الصغير ( قراصنة المتوسط من
العرب أخطر قطاع طريق التجارة العالمية عبر التاريخ ، قراصنة الكاريبى
الأقل خطرا لكن ربما الأكثر شهرة بفضل هولليوود ، قراصنة الاستقلال فى
العالم الثالث ، قطع طريق الطاقة على الحضارة سنة 1973 ،
وهكذا ) . ’ التكتلات الكبرى ‘ الجديدة تلك ، كالاتحاد
الأوروپى تأتى بالذات من جانب اليسار ( الشيوعية أو طبقا لاسم الدلع
المختار ذاتيا الاشتراكية الديموقراطية ، ولا تصدق أن هناك
فرق ) ، الذى لا يزال يهيمن عليه حلم وجود كتلة ما توازن الانفراد
الأميركى بشئون العالم . إن كل الكتل الأكثر نجاحا هى تأكيدا الأكثر جلوبية
وطموحا جلوبيا من غيرها ، وليس تلك التى تقاوم الجلوبية تحت مسمى جديد هو
الإقليمية . وربما كان مؤسسى الاتحاد الأوروپى نبيلى الأهداف وطموحين
حقا ، لكن سرعان ما ظهر الوجه الحقيقى لا سيما من خلال الديماجوچية
والانغلاق الفرنسيين ( طبعا جزء أساسى من فرحتنا كعرب بفكرة التكتلات
الكبرى ، إحساسنا الزائف بأننا وجدنا صدرا حنونا لما يسمى لقضايانا العربية
بعد زوال الاتحاد السوڤييتى ، بينما الحقيقة أن اليسار الأوروپى أيضا
بات من الحفريات التى ستحال لمزبلة التاريخ قريبا ) . قد يرد
قائل على هذا بأنه لا يبرر رفض مبدأ التكتلات . أوروپا هذه قد تتجه يمينا
إن لاحقا أو آجلا ، ساعتها سنكسب كتلة حضارية وتقدمية ضخمة .
كلا ! سيظل ما بنى على باطل هو باطل . ناهيك عن الدور الهائل الذى
سيمارسه هذا الكيان الرجعى فى سبيل عرقلة ذلك التحول . من يؤمن حقا بأن مستقبل العالم فى الاتحاد والجلوبة عليه أن
يتجه مباشرة للاتحاد مع أميركا وليس مع جيرانه . ارتق بمعايير حرية
الاقتصاد عندك ‑وليس حتى بالضرورة الانتظار حتى يرتقى الاقتصاد نفسه‑
وسوف ترحب بك فى منطقة تداول حر . قدم لها القواعد والتسهيلات وسترفع عن
كاهلك كلفة الدفاع . وهكذا دواليك . [ تقليديا يقال أن تصبح يساريا وأنت شاب هو دليل استقلاليتك
وقوة شخصيتك ، وأن تستمر يساريا بعد ذلك هو دليل غباءك . لا نعتقد أن
هذا القول بات صحيحا كثيرا وقد عم الغثاء اليسارى كل الثقافة وكل المؤسسات
الاجتماعية والسياسية بل وكل الحياة . ودليل الاستقلال وقوة الشخصية
الحقيقيين أن تصبح قائدا رائدا من البداية لا تساير عقلية القطيع ولا تجارى
الغثاء والوسطية والسوقية السائدة . من هنا كان أحد أبرز الاستطرادات المبكرة
نسبيا لهذه الصفحة هو ما جاء فى فى 18 مارس 2002 ، بمناسبة ظهور الكتاب
الجديد لواحدة من أكبر رموز التحدى من المعاصرين البارونة ثاتشر ’ حرفة
الدولة ‘ ، الذى شن هجوما كاسحا على فكرة الاتحاد الأوروپى وعلى أشياء
كثيرة أخرى ] . [ تداعت الأحداث بسرعة ، والتوقعات الخاصة بعاصفة اليمين
القادمة على أوروپا لتنهى حقبة الغثاء اليسارى فيها ( يناير 2002 صفحة الليبرالية ) ،
ترجمت إلى وصول جان‑مارى لو پان للدورة الثانية للانتخابات الرئاسية
الفرنسية فى 21 أپريل ( اقرأ التعليق فى صفحة الليبرالية أيضا ) ، ثم فى خلال
يومين فقط وصلت توابع الزلزال للمنطقة العربية التى طالما راهنت على أوروپا
كوريثة للاتحاد السوڤييتى ولحقبة اللعب على الحبال ، والتى تتداعى
حاليا كما حدث بالضبط له ( اقرأ المتابعة فى صفحة الإبادة ) . فى ذات
الوقت كانت أوريانا فالاتشى تصف العلاقة
المريبة بين أوروپا ‑نعم كل أوروپا‑ والعرب ، بوصف أقرب كثيرا
لما سبق أعلاه ووصفنا به فقط العاهرة القبيحة
فرنسا ، التى تستجدى سوقا بعد فشلها فى تسويق منتجها فى منطقة أفضل كأميركا
أو آسيا ! ]
إن الجلوبة وبمنتهى الصراحة هى
الإمپريالية بعد إقرار بقية العالم بانتصارها !
لكن رغم هذا ورغم أننا قلنا فى البداية أن الجلوبة تكاد تعنى الأمركة إلا أننا
يجب أن نقرر بالمثل إنه إذا كانت أميركا هى الرابح الأكبر من الجلوبة فإنها أيضا
الخاسر الأكبر . إن كثرة من الأميركيين يصرخون فى الواقع ضد الجلوبة وخذ
مثلا متخصصى الحوسبة الذين يرون أن باتت أجورهم تقرر فى حوارى بومباى وليس فى
وادى السيليكون . بمعنى أعم إذن فأن الفائز سواء كان مختبرات أميركا أو
شباب الهند أو صناعات الصين أو غيرها فلن يفوز لشىء إلا الاجتهاد والطموح البعيد
والمنظور واسع الجلوبية قليل الولولة . إننى أشك بشدة أننا سوف نفهم ما تعنيه حقا الجلوبة
أو الجات أو حرية الثقافة قبل عدة عقود من اللطمات المخيفة . وأشك فى أننا
قبلنا بها حقا أو حتى سنقبل بها يوما ، وكل ما فعلناه أننا قبلناها اسما
فقط ودون التمعن فيما تعنيه حقا ، ونراهن على ورقة ’ الاستعباط ‘
عندما يحين وقت الجد ، ولا أستثنى من هذا رجال البيزنس أنفسهم الذين
يقاومون خطوات الحكومة لتحرير السوق وتخفيف الجمارك ومقاومة المشورات الدولية
وكنا نفهم أن يكونوا هم من أول يدفعونها نحو الاقتصاد الحر . بصراحة أكثر إن كل اتفاقيات الجات ومنظمة التداول
العالمية ، ليست فى واقعها سوى تمارين لتسخين العضلات وليس إلا . وأن
هذا الواقع الحالى الذى هو أقرب فى جوهره لمجرد ’ لعب العيال ‘ سوف
ينتهى وتبدأ الأوجاع الحقيقية يوم انضمام الصين لها . ساعتها ستصبح
الهمهمة ألما وصراخا علنيا سواء عندنا أو حتى فى أميركا .
نعم ، الأرض لمن
يستعمرها ، هو الموجز المرعب لاتفاقية الجات . كل شركة وكل فرد يستطيع
فعل الأشياء أفضل منا هو أحق منا بأرضنا . يا ليت الأمر يقف عن مجرد التوعد
الكيسينچرى القديم بأن يدعنا نحن العرب نشرب پترولنا [ اتضح لاحقا
أنه كانوا على وشك احتلال منابع پترول الخليج بالقوة ] . إن المطروح
الآن هو أن إجبار كل سكان العالم الثالث فى حالة فشلهم فى التحول لطاقة اقتصادية
عصرية منتجة ، أن يفسحوا الكوكب لمن هم أفضل منهم . الفكرة الاستعمارية القديمة هى
فكرة صائبة بكل المقاييس . الموارد الطبيعية ليس لها قيمة ما لم يكتشفها
ويستغلها المتقدمون . بدونهم لن يكتشف ولن يستغل أحد شيئا . لا قيمة
للشاى والكاكاو بدون توماس ليپتون وچورچ كادبورى ، ولا قيمة للفحم والپترول
بدون چيمس وات وتوماس إديسون . ومن البلطجة المحضة بعد ذلك طرد هؤلاء باسم
السيادة والاستقلال ، وترك الموارد ليس فقط تنهب من جانب أقلية فاسدة محرضة
تسمى الحكام القوميين ، بل تركها تذوى وتنهار على المجرى الطويل . وهذا
ما آل إليه حال الزراعة وحال كل شىء فى بلادنا بعد الاستقلال ، كما يعلم
الجميع . أليس من الظلم البين ما نراه
اليوم من كون الشعوب المتقدمة تكدح يوميا على نحو لا مثيل له تاريخيا من حيث
الجدية والتفانى ، بينما تتدفق البلايين على المتخلفين الذين لا يشتغلون
أبدا ، لمجرد أن اتضح بالصدفة أن الأراضى التى يقطنونها تحوى ثروات
طبيعية ؟ نقصد الشاى والكاكاو والفحم والپترول وكل شىء ! العدالة والمنطق تقولان إن كل
پترول العالم ملك لچيمس وات وتوماس أديسون ولورثتهما من بعدهما . نعم سعر
النفط فى باطن الأرض لا يجب أن يزيد عن الصفر ، وقبل أن تعارضنى أذكرك أن
هذا كلام ماركسى جدا ، فهو لم يكن يعترف بشىء اسمه الريع ويعترف فقط
بالقيمة المضافة ، وهى فى حالتنا هذه تقنية الاستخراج زائد الشغل التقانى
فيه سواء كان من أجانب أو من السكان الأصليين ، أو طبعا وهو الأهم القيمة
المضافة من الفكرة نفسها أى اختراع آلات تستغل تلك المادة السوداء اللزجة
التى طالما اعتبرها أجدادنا نقمة تقتل الأرض الزراعية لو ظهرت بها ! ذات
الشىء يسرى على كل شىء حتى المياه . يقولون مثلا إن مصر مستعدة لأن تضرب
بالطائرات العربية أى مشروع لسدود فى حوض نهر النيل . لا أعرف هل الاتفاقيات
الحالية لاقتسام المياه التى وقعت حين كانت مصر دولة شبه استعمارية تحت حكم
الإنجليز فى العشرينيات ظالمة لهؤلاء أم لا ، لكنى لا يمكن أن أفهم أن
يقترح أحد تقسيم المياه بناء على عدد السكان لكل دولة . لا يوجد أغبى ولا
أكثر رجعية من هذه الفكرة الشيوعية القائمة على أن الأشياء تقاس بالكم ،
والتى تحرض تحريضا مباشرا على الانفجار السكانى . هذه ليست عدالة إنما
تخلف . والموقف الصحيح هو تقسيم الموارد الطبيعية طبقا للناتج الداجن
الإجمالى GNP لهذا الشعب وذاك . هذا
هو البديل التنافسى التقدمة الجاد الذى يجعل كل البشر طوال الوقت على المحك ،
لا يتمتعون بأى شىء بحكم الوراثة أو وضع اليد أو البلطجة ، إنما فقط
بالاجتهاد والتحديث والتفكير الخلاق .
نعم ، ما يسمى بالاتفاقية
العامة على التعريفات والتداول ( جات ) General Agreement on Tariffs and Trade (GATT) ،
ومن ثم المنظمة الجديدة المسماة منظمة التداول العالمية WTO ، هى شىء مرعب بكل معنى
الكلمة . التحديات التى وقعنا عليها تحديات هائلة . المطلوب ليس فقط
أن نشتغل ، وهو شىء لم نعتده قط فى كل تاريخنا المعتمد على انتظار فيضان
النيل وانتظار انحساره . بل المطلوب هو أن ننافس العالم بأفضل ما وصل إليه
من قوانين . سيأتينا أطباء ومبرمجى حواسيب وشركات تأمين ومقاولات
أميركيون ، ثم سرعان ما سنجد الهنود والصينيين قد أزاحوهم لأنهم يقدمون نفس
الشىء بأسعار أرخص . وهلم جرا بينما نحن نتفرج ويزداد جوعنا . ثم نثور
على ما وقعنا عليه ، فلا يكون من بديل سوى إعلان بلادنا منطقة كوارث
جمركية ، وتأتى الجيوش لإنفاذ ما وقعنا عليه بأيدينا من اتفاقيات ،
إنفاذه قسرا . والحقيقة أنها لن تكون سوى قوى النور والتقدم جاءت لإنفاذ
واحد من أبسط وأقوى وأخلد قوانين الطبيعة وأكثرها تقدمية على وجه الإطلاق :
قانون العيش للأصلح !
قد تقولون هذه ليبرالية
وحشية . حسنا ! اذهب لأى مكان فى الكوكب خارج عن هيمنة الأمم
المتحدة ، دغل أفريقى مثلا . يكفيك يوم واحد وسترى كيف تمزق الأسد
الغزلان الجميلة إلى قطع ، قبل أن يتلذذ بأكلها ببطء واحدة واحدة .
هذا لا يحدث عبثا ، وطبعا ستقول لنفسك إن ثمة حكمة ما وراء ذلك ، ولو
أنت متدين ستقول بلا شك إنها لا بد حكمة إلهية ما . طبعا يمكنك أن تقتل
الأسد ببندقيتك وتأكل أنت الغزال الشهى ، ويمكنك أن تقتله وتدفن بقايا
الغزال وتتلو عليها الصلوات ، وطبعا طبعا يمكنك أن تذهب لمجلس الأمن لتقدم
بلاغا فيما يقوم به ذلك الأسد المجرم من انتهاكات لميثاق المنظمة فى أحراش
أفريقيا البعيدة . فى كل الأحوال شيئان لن تستطيع فعلهما لا أنت ولا الأمم
المتحدة : أن تلغى وجود تلك الحكمة وراء قوانين أمنا الطبيعة التى اكتشفتها
واكتشفت تقدميتها وتمسكت بها لبلايين السنين ، الشىء الثانى أن توقفوا أيها
الرضع بعد بالنسبة لتاريخ الكون مسيرة هذه القوانين . الأدغال بشعة ،
هذا صحيح . لكنها عاشت 4 بليون سنة . والأدق : لهذا عاشت 4 بليون
سنة . نعم ، ومن شاء أن يعلم فليعلم : الطبيعة ليست يسارية
بالمرة ! [ صفحة الجلوبة الجديدة ( فهذه الصفحة التى تقرأها
الآن تحت اسم الثقافة كانت تحمل ذلك الاسم أصلا ! ) ، وكل الموقع
عامة ، تفرع وتوسع بمرور الشهور عن صفحتنا هذه ، فقط كى يناقش مثل هذه
القضايا ] .
إن مرضنا القومى رقم 1 منذ فجر التاريخ شىء اسمه الفهلوة ( بالطبع
هذه كلمة يصعب أن تجد مرادفا دقيقا لها فى غير اللغة المصرية ) .
وضربنا أمثلة باستجابة الشعب المصرى لهزيمة يونيو ، ولصناديق
الانتخابات . والآن خذ مثالا ثالثا ’ لعبقرية مصر ‘ المتفردة
هذه ، من حقل الاقتصاد . وليس أشهر طبعا من كيف كانت الاستجابة لدعوة
الرئيس السادات لما أسماه الانفتاح الاقتصادى . شىء لا يمت للرأسمالية
الجادة بصلة بالمرة ، فقط إثراء سريع أو ’ اخطف واجرى ‘ أو
’ تهليب ‘ بالمصطلحات المصرية أيضا . بل وبعد كل هذه السنوات لا
تزال الحكومة هى الزبون الرئيس ، ومن يريد الثراء لا يلقى بسلعته فى السوق
طمعا فى أن يشتريها جمهور المستهلكين . من يفعل هذا يفلس . من أثروا
هم فقط من أدركوا حقيقة أن المال العمومى هو الأوفر والأضمن ، وكل المطلوب
هو فقط دفع رشوة زهيدة مقابل بيع طابعات الحواسيب أو رصف الطرق بثلاثة أضعاف
تكلفتها . نعم ! من الجائز أن مصر تحظى حاليا بأكبر حكومة فى العالم ، بل ربما أكبر من حكومة الاتحاد السوڤييتى نفسه أيام
مجده . خمسة أو ستة ملايين موظف حسب [ آخر معلوماتنا ] ،
إذن مكمن الداء فى تأصل مبادئ الاشتراكية فى معظم
العالم الثالث ، وفى العقلية المصرية بالأخص ، حتى النخاع ، وحتى
العقل الباطن . وهذه هى النتيجة : فاتورة حكومية ضخمة ترفع
الضرائب ، ومن ثم أسعار السلع وتفقدها فرصتها فى المنافسة الخارجية .
فاتورة تعليم مجانى باهظة الكلفة ولا عائد منها على وجه الإطلاق ، علاج
مجانى مهدر ، دعم للخبز وغيره ، وهكذا إلى ما لا نهاية . لا
مستثمر يأتى فى ظل ظروف كهذه . أو باختصار ، انعدام الجرأة على تبنى
الاقتصاد الحر الحقيقى ، الطريق الوحيد الذى عرفته البشرية لبناء اقتصاد
مزدهر شرقها وغربها . ذلك لأنه سيؤدى حتما لجوع الكثيرين وإلقائهم لقارعة
الطريق وكفهم عن الزواج والإنجاب ومن ثم زيادة أعداد الفقراء . والنتيجة
النهائية أن الكل ( فيما يبدو باستثناء كمال الجنزورى رئيس وزرائنا
الجديد ! ) ، راض على أن الحكومة أصبحت جمعية خيرية ضخمة لا
أكثر ، تعطى ملايينها الستة هؤلاء صدقة صغيرة أول كل شهر تسد رمقهم ،
دون أن تطلب منهم أى شغل حقيقى بالمعنى المتعارف عليه فى العالم المتقدم أو حتى
غير المتقدم . والنتيجة أن بات السبعون
مليونا فاسدين ، بدءا من أول كبار كبار المرتشين
فى مقاعد السلطة ، حتى ساعى الشركة الخصوصية البسيط الذى يهمل وظيفته كى
يبيع جوارب لزملائه أتى بها من پورسعيد فى رحلة نهاية الأسبوع . والأسوأ من
هذا وذاك أن ظهر المتدينون لا لشىء إلا ليصموا غيرهم بالفساد ، ويدشنوا من
ثم صناعة فساد ضخمة خاصة بهم ، يسترزقون من وسع من خلالها تحت مسمى محاربة
الفاسدين والمفسدين ، وكأن هذا الفساد كعكة يريدون تأميمها بالكامل
لحسابهم . وهلم جرا تتواصل الدائرة الجهنمية دونما مخرج ، والفساد
والتدين ما هما إلا نتائج وليسا بحال السبب . لكن حتى هذه لا يدركها
مثقفونا المسمون بالمستنيرين .
حتى يومنا هذا حكام البعد الاجتماعى عندنا ينادونك فى كل خطبة بالحد من
الانفجار السكانى ، ولا يعلمون أن طالما بقى رغيف الخبز بخمسة قروش ،
لن تحل أبدا مشكلة الفحش فى الإنجاب . ربما لا
نريد الإفاضة كثيرا فى الحديث عن مصر ، لأنها تفرد خاص أو مفارقة أو تشذذ anomaly وسط المحيط العربى ،
بل وسط كل البشرية يطول تحليله . فقط نقول إن بهذا المعنى مصر هى أعظم ديموقراطية لكل العصور . حكامها لا يفعلون شيئا بدون تفويض مطلق من الشعب ، طبقا
لنفس عقلية الإجماع العربية التى سبق الإشارة إليها ، والأهم أن هؤلاء
الحكام ‑على العكس بالضبط من الفراعنة العظماء‑ لا يفعلون ما يغضب
هذا الشعب المصرى أبدا أو يقوض كسله العظيم !
أسطورة أخرى أن المصرى يعطى
الكثير لو ذهب للخارج حيث الأجور مرتفعة . غير صحيح . لو أعطيته هنا
عشرة أضعاف أجره لن يزيد مقدار شغله قلامة ظفر . الأمر لا علاقة له
بالأجر . الأمر يعتمد فقط على البيئة التنافسية للاقتصادات الحرة ،
مقابل تكية الجمعية الخيرية عندنا المعروفة باسم الاشتراكية والبعد
الاجتماعى . فى مصر لا يفصل أحد من شغله لأنه لا يشتغل ، ولا نبالغ إن
قلنا إن هذا يسرى على القطاع الخصوصى أيضا ! بصياغة موجزة : عبقرية مصر عملة وجهاها اليسارية والفهلوة . هما من
التكامل والقوة بحيث يحمى كل منهما الآخر من جميع المؤثرات الخارجية .
ولهما من العمق الچيينى ما يستعصى على أى تعديل سريع ، إلا وهو تجذر الكسل
وقصة الفيضان الذى فرض البلادة والإيمان القدرى بالخرافة والخوارق على شعب
بكامله طيلة سبعة آلاف سنة كاملة بصرامة مذهلة ! من هنا نقول إن ها هى ‑وبعد سبعة آلاف سنة من توطن مرضى الفهلوة
واليسارية فى الچيينات‑ قد حانت لحظة الحقيقة ، وسوف يكون مستقبلنا
أمرا باهظ التكلفة بما يفوق كل ما تكبدنا حتى الآن . ذلك طالما سنواصل توهم
أن فهلوة كل التاريخ سوف تصلح إلى الأبد ناهيك أن تصلح فى تعاملاتنا وسياستنا
الخارجية ، وتوهم أن يسارية أن أحدا لن يموت من الجوع ، ويسارية أن فى
مصر لا تفصل من وظيفتك مهما فعلت أو لم تفعل ، ويسارية فكرة البعد
الاجتماعى الذى جعل من الاقتصاد المصرى مجرد جمعية خيرية كبيرة هدفها إعالة
الجميع ، وليست اقتصادا منتجا بأى معنى معروف للكلمة ، وأنه سوف
يمكننا الحفاظ على كل ذلك فى عالم يتحول بشراسة نحو اليمين والتنافس الدارونى
الحر . نعم ، نحن نستعدى الحكومات
على شعوبها . ليس لدينا غضاضة فى هذا طالما أن هذه هى نوعية الشعوب .
الشرط فقط أن تكون هذه حكومات ليبرالية التوجهات اقتصاديا غير ليبرالية سياسيا
إن اقتضت الضرورة . عليها أولا أن تفرض الاقتصاد الحر بالقوة ، وما
عدا ذلك من حريات وحقوق ونمو اجتماعى يأتى تلقائيا وعلى المجرى الطويل . … رغم كل ذلك نقول ( ربما إيمانا قديما منا
بأغنية لفريق الأبا لا أكثر ، تقول فى عنوانها People
Need Hope ! ) ،
إن ما يجرى الآن من تحديث هو شىء رائع ربما لم نكن نحلم به
قبل سنوات معدودات . ولا شك أن حكومة الدكتور الجنزورى هى أزهى فترة حكم
شهدتها مصر منذ أيام الخديوى إسماعيل أو على الأقل منذ رؤساء الوزراء العظام قبل وصول متآمرى 1919 للسلطة
على رماح الغوغاء ، والأهم منها قنابل تنظيمها الإرهابى الذين لم يكن له من
هدف سوى قتل الزعماء الوطنيين الحقيقيين كرؤساء الوزارات المذكورين ، أو من
يجرؤ على تحدى خيوط المؤامرة سعد
الزغلولية ويبحث عن التحديث ومصلحة الوطن لا عن مصلحته
الشخصية ، ولو كان عبد الرحمن
الجبرتى حيا فى ذلك الوقت لقتله . من هنا نقول إن حتى اللحظة لا يزال الفارق فادحا
بين الرجلين إسماعيل والجنزورى ، إن وضعنا فى الاعتبار أن الخديوى بنى كل
منشآته وقد أدارت ظهرها للقاهرة الفاطمية ، بما فى ذلك جواد أبيه إبراهيم
باشا الذى أولاها مؤخرته بدوره ( لاحظ أيضا أن هذا يجعل الدبر موليا ناحية
جهة الشرق والتطلع هناك نحو الغرب ! إن الإيقاع البطئ الحالى للتحديث وغيبه التحالفات
الصحيحة مع الخارج وضعف الإرادة السياسية للتغيير الحقيقى وأقله وقف تغلغل
السلفية بمختلف أجنحة وأيديولوچيات الهزيمة بها فى النخبة القائدة ، أشياء
تجعلنا أبعد ما يكون عن مجاراة عالم يحسب فيه فارق التقدم بين الشركات أو الدول
بالأيام لا بالقرون . بل الأسوأ إن التحديث نفسه بات رهينة للوضع
الديموقراطى المتميع القائم ، الذى لم يكن له من نتائج فى ظل جهاز حكومى
ضخم وغياب سلطة حقيقية لرأس المال ، سوى تعاظم سطوة أقلام الابتزاز الصفراء
الجمهورية ( إن استعرنا مرة أخرى مصطلح الثورة الفرنسية ) ، ذلك
بأجنحة الفكر الجمهورى الثلاث المتاحة عندنا الدينية والقومية
والاشتراكية ، بحيث يلوح من حين إلى آخر أنها أصبحت السلطة الأولى إن لم
تكن الوحيدة فى البلاد ، وكلها لحسن الحظ أقلام لا تزايد فيما بينها إلا
على من يكون أشد الجميع رجعية [ فى أپريل 1998 اتخذ الرئيس مبارك خطوة
حاسمة مع هذا النوع من الصحافة الغوغائية مثل مجلة روز اليوسف ، أعطت بعضا
من بريق الأمل فى المستقبل ] . فالأكثر إيلاما للأسف أن التاريخ أجبرنا
على التعلم أنه خارج الدائرة الأنجلو‑يهودية لم تحدث نهضة ذات شأن قط بدون ديكتاتورية يمينية ( وعسكرية فى الغالب ) تفرض العقلانية المفقودة
فرضا ، وذلك بدءا من ڤون بسمارك والإمپراطور ميچيه ، مرورا
بأتاتورك وفرانكو ، وانتهاء بتجارب پينوتشيت وچنرالات النمور المذهلة فى
العقود المعاصرة . [ نوقش هذا باسهاب بعد قليل فى صفحة الليبرالية ] .
لننهى هذا القسم الخاص بالاقتصاد
وتبعاته بكلمة إلى هؤلاء المخلصين الحقيقيين منا ، من المهمومين بمستقبلنا
المحتوم ممن يذكروننا بأدب ودأب طوال الوقت بالاحتمال شبه‑الأكيد‑شبه‑الوشيك
بالخروج من الجغرافيا ، دعونا نقول ولو مؤقتا إن ثمة حل جيد آخر غير
الإبادة ، ويحقق تقريبا نفس الغرض : الاقتصاد الحر ! …
… وبعد… فإن تدوين يوميات كهذه لرصد ما يجرى
حولنا ، يبدو من قبيل الجعجعة بلا طحن التى لا يلوح أن هناك من يعيرها
التفاتا . فهناك من ناحية من يجادل أن تجاوز الچيينات هو أمر مستحيل وأنه
لا أمل بالمرة فى المستقبل . وهناك فى أفضل الأحوال من يكتفى بالحلم اللذيذ
أن يهبط كمال أتاتورك أو چنرال پينوتشيت آخران ، أو أن يبعث محمد على أو
خديوى إسماعيل جديدان ، أو أن تولد فجأة إرادة ‑أية إرادة‑
تجعل للكلمات ‑أى كلمات‑ معنى . أن يفرض هذان الرأيان نفسيهما
فرضا هو شق المرارة الحقيقى فى حديث التقنية أو الجلوبية ، الذى يفترض فى
الأصل أنهما من أكثر الأحاديث بهجة وتفاؤلا . وهو فعلا كذلك ولا يفترض أن على الشعوب أن تنتظر حتى يتيح لها العلم التخلص من
چييناتها ووضع أخرى بديلة لها ، بل عليها الاجتهاد
والتعلم وتطوير تفكيرها قدر الطاقة ووضع نظام مفتوح للتنافس الاجتماعى يمكن أن
يؤدى على المجرى البعيد للانتخاب الطبيعى ( أو للدقة غير الطبيعى )
للچيينات الأفضل ، لكن المرارة فى ذلك الحديث تأتى عندما تتدبر قليلا فى
التداعيات الثقافية والسياسية الملحة لذلك الكلام الذى تقوله عنها . هنا
تظلم الصورة فجأة أمام عينيك وتتسلل إلى جوفك تلك المرارة الفريدة التى لا وجود
لها إلا فى بلاد سكب المهزومون فيها مرارتهم الخاصة على كل شىء فى حاضرها
ومستقبلها . فهل من بصيص يعطى بعض الأمل فى الحلوق ؟ ربما الأمل
الوحيد الإيمان بداروين حتى النهاية ، وأن قانونه الأستاذى الذى يسميه
الفاشلون قانون الأدغال هو حقيقة واقعة لم تفرز يوما إلا ما هو صحيح فى نهاية
المطاف .
حقيقة لا أدرى ما هى مشكلتهم مع قانون الدغل إذا
كان هو الذى أفرز لنا الإنسان الذى يتباهون به ليلا نهارا ! الأسوأ لو
جاريناهم فى طريقة تفكيرهم ، التى تريد منا الاستمرار فى صراع ’ وجود
لا حدود ‘ أبدى ضد إسرائيل ، انهم لا يعلمون أو يعلمون ولا
يتعلمون ، أن أول من حاول تطبيق نظرية داروين فى حقل السياسة ( نقصد
بعد ظهورها ، فهى مطبقة طوال الوقت دون أن نشعر ! ) ، كان تيودور هيرتزل فى كتابه
’ الدولة اليهودية ‘ 1896 ، والذى قال إن العالم وحوش
مفترسة ، وإن اليهود يجب أن يطبقوا مبدأ القوة فوق الحق . وهو مصيب فى
هذا القول على نحو مذهل ، فالقوة شىء تقدمى بطبعه ، وهى قانون الكون
الجامع والأساسى ، وكل الكون مبنى على فكرة القوة ، وتحديدا القوى
الأربع الرئيسة التى أهونها غزارة وشأنا قوة التثاقل التى تربط النجوم والمجرات
معا ، وتتدرج إلى القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة
النووية الشديدة . أما فكرة الحقوق فهى شىء تافه تماما لم يظهر سوى فى كوكب
واحد صغير اسمه الأرض وعلى يد عشيرة واحدة اشتهرت بغرابة أطوارها اسمها
البشر . بالتالى فأية مواجهة فلسفية أو غير فلسفية بين مفهومى القوة والحق
هى مقارنة لا تثير ببساطة سوى الضحك إن لم يكن التقزز . وإذا كان ثمة حالات
كانت فيها القوة رجعية أو ليست حقا ، فهذه هى الاستثناءات الشديدة والتى
تمت فى غفلات خاصة جدا من الزمن ، مثل الاحتلال العربى‑الإسلامى
لمعظم العالم القديم بسبب هيمنة عصور الظلام والخرافة الدينية على الغرب بعد
وراثة المسيحية من الداخل لحكم الإمپراطورية الرومانية ، أو مثل الاحتلال
السورى الحالى للبنان بسبب غياب قيادة عالمية مركزية ، أو لكون هذه الأخيرة
فى طور التبلور أو التكوين . النتيجة التطبيقية التى نعرفها جميعا لكلام هيرتزل
هى ميلاد نقطة طليعية للحضارة الغربية فى منطقة ينظر لها تقليديا كبقعة
متخلفة . دولة تعتبر اليوم أقوى دولة خارج ( أو بالأحرى فوق )
نطاق الدول الكبرى . دولة ذات كلمة نافذة ومسموعة تماما من الجميع دولة
بالغة التقدم التقنى ( الفرد تنتج فيها 3 اضعاف انتاج الفرد الأميركى من
البحوث ) ، والثروة ( ناتجها القومى سيبز قريبا الناتج القومى
لكل الدول العربية الغنية والفقيرة معا ) ، والقدرة العسكرية (قنابل
نووية ومهارت قتال … إلخ ) . والسر الوحيد أنهم قرأوا
داروين مبكرا وفهموه ، فى وقت كان كل العالم يحاربه ، وأنشأ المنظمات
الفاشلة كعصبة الأمم والأمم المتحدة خصيصا لاجهاض نظريته . أما أميركا كما قلنا بإطلاقها التام للصراع الاقتصادى والاجتماعى
داخلها فقد تأتى كالنموذج التالى فى الدرجة من حيث الدارونية ، أى تحوز
الميدالية الفضية فى أوليمبياد التقنية العالية ‑قل أوليمبياد
الطبيعة .
البديهى أن التقدم يتطلب إفعال
العلم والعلمنة والجرى فى سباق اكتساب التقنية وإخراج كافة المقدسات والخرافات
الدينية والأيديولوچية بأنواعها من أنشوطة القرار العمومى ( بل ومن حياة
الفرد إن شئنا له أن يكون مبتكرا مبدعا حقا ) . لكن المشكلة هى توصيف
العقبة أو العقبات التى تحول دون تحقيق ذلك ، بل وحالت فعلا ، كما هو
واضح من تفاقم الفجوة بينا وبين بقية العالم يوما بعد يوم ليس فقط مقارنة
بالعالم المتقدم ، بل بقطاعات واسعة من العالم النامى نفسه . وذكر
نماذج تمتد من كوريا إلى تركيا إلى تشيلى ، مرورا بالصين والهند ذاتيهما ،
ليس سوى رصد لأمثلة اعتباطية . بعد أكثر من أربعين عاما مما يسمى
بالاستقلال تبدو مهمة إعادة تأهيل شعوب العالم الثالث للحاق بركب الحضارة ،
مهمة صعبة للغاية ، وفى عالمنا العربى ذى المكون الثقافى العالى ،
نأسف للقول إنها تكاد تبدو شبه مستحيلة .
المهم ، أو لعله
الجديد ، فى هذه الورقة أنها خلصت لتشخيص المشكلة فى عش الدبابير والعناكب
والصراصير المسمى العقل العربى . فى هذا الكينونة الپارانوية العطنة
والعدوانية معا ، تكمن كل جذور تخلفنا . الأوضاع الاقتصادية والسياسية
ربما نتيجة ، لكنها قطعا ليست السبب ، والدليل تلك الأمم التى عانت من
ذات الأوضاع الاقتصادية المتردية وكان لديها ذات الخرافات والأيديولوچيات
و’ الهويات ‘ ، لكن نراها الآن منطلقة فى تحديث مبهر ينتزع إعجاب
كل العالم . المشكلة أن لدينا خصوصية خاصة جدا من نوعها . التيمايوس timaeus ( وهو مصطلح أحياه
تلك ’ النفخة ‘ spirit متضخمة للغاية عندنا نحن العرب ( لا ندرى
يقينا ما علاقة مصطلح سقراط بما تسمى فى العامية المصرية ’ النفخة
الكدابة ‘ ) ، ومن قبلنا كانت متضخمة عند الهنود الحمر أو
الأبوريچين ممن يشكل المكون الثقافى أو الهوية …إلخ عندهم ، شيئا أهم من كل
أسس الحياة المادية . ترانا ‑مثلما كانوا هم‑ فى قمة التخلف
والبداءة ، ومع ذلك نعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس . بمجرد تحقيق قدر
ضئيل من التقدم بفضل إحسان الغرب ، وليكن مثالا ما حققته الليبرالية
المصرية ، حتى ننسى كل شىء ونسارع كما فعل عبد الناصر ومجمل ما سمى بالحركة
الوطنية لرفع شعارات التطاول والشوفينية من نوعية ارفع رأسك يا أخى وخير أمة
ونتذكر أننا أصحاب لغة القرآن والأشراف من آل البيت …إلخ ، ونطالب
بالاستقلال وما إليه ونعامل الغير بعدوانية وغطرسة ، لا لشىء إلا لنكرس
حقيقة التاريخ الأعظم إطلاقا أننا أحط أمة أخرجت للناس . نتعالى على العقل
ومعطيات الواقع ، ونصر دون أية مقومات حقيقية على كوننا متميزين .
والأسوأ أن العبارة الأخرى التى تتقاسم مع أسطورة ’ خير أمة ‘ صدارة
القاعة الرئيسة للجامعة العربية هى العبارة الوحيدة فى العالم التى يمكن أن تكون
أشد قبحا منها ، تحريض أزلى أبدى على العدوان والمواجهة القنفذية الدائمة
مع كل الأغيار ’ واعتصموا … ‘ ! ألم تسأل نفسك ما هى المنظمة
أو التجمع الوحيد فى العالم التى يقوم على أساس عرقى شيفونى ، بينما سائر
التجمعات الأخرى تقوم على أساس اقتصادى ؟ حتى فرنسا ، وهى أمة متخلفة
ومهزومة مثلنا ، حين خلقت منظمة ثقافية دولية للدول الناطقة
بالفرنسية ، لم تبنها على أساس عرقى ( عنصرى ) . هذا السلوك الشوفينى‑العدوانى
معا ، بالإضافة لما أضفى عليه من تنظير دينى ، شىء لا وجود لمثله الآن
بين كل شعوب العالم ، وهو الذى يجعل تقدمنا ضربا من مستحيلات العصر
( إنهم حتى يشوهون باسم الدين والهوية والتقاليد السلوك الغريزى الجنسى
نفسه ، ويحولون الجسد لرياء مطلق يتصارع ما بين التعالى عليه وعدم القدرة
على الاستغناء عنه ، وإن كانت هذه الازدواجية قضية
مأساوية أخرى ) . ( بمناسبة العرقية والأمم المتحدة وجامعة
الدول العربية والمعايير المزدوجة كلها معا : أساتذة المعايير
المزدوجة ، العرب عباقرة الكلام وغسيل دماغ العالم ، ’ طفحت ‘
معاييرهم المزدوجة حتى ملأت المنظمات الدولية التى يهيمنون عليها بالكامل .
الأمم المتحدة ظلت تحارب جنوب أفريقيا ، وهى مجرد فصل عرقى ، أى لا
كراهية ولا عداوة ولا إضطهاد ، مجرد أسوار تحجب الرائحة وسحن الوجوه ،
ذلك إلى دمرت تلك الجذوة الحضارية الوحيدة فى قارة الظلام . هذا بينما
تعترف بل وتوقر وتسير لأبعد مدى فى ركاب جامعة الدول العربية وهى منظمة عرقية
صريحة ! ) .
الشعوب الساموية ( ليس
نسبة لسام بن نوح ، إنما للسمو ، وإن كانت الرابطة بين الأمرين غير
معدومة ) ، لا تعبا بالدنيويات ، ذلك أن لديها أچندة ثقافية ودينية
و‘ تيمايوسية ’ تعلو فوق كل الاهتمامات التافهة للشعوب الأخرى . إن الشعوب ذات المكون الثقافى
العالى ، ناهيك عن بالأخص منها تلك التى تفتقت عن فكرة جهنمية بحجم فحش
فكرة إله التوحيد ، هى شعوب خطرة بطبعها ، شعوب ترى كرامتها أو ‘ هويتها ’ أهم من
لقمة عيشها ، شعوب مبتلاة بچيينات تغلب التشنج على العقل ، شعوب
يستحيل الارتكان لفرصة التفاهم بالمنطق معها ناهيك عن ترويضها ، ويمكن أن
تجنح للتدمير فى لحظة وبأرخص أسعار التحريض ، واسألوا الهنود الحمر .
أو لنكن أكثر صراحة ونقولها بالعامية : أبناء عمومتنا اليهود سامويون لكن
اتعالجوا ، الهم والباقى على من لا تزال اللعنة تجرى فى دمهم :
‘ الأشقاء ’ العرب ! المشكلة چيينية
بالأساس . قد نذهب بعيدا بعض الشىء ، ونقول إن حتى بعض الشعوب التى
خاضت كثيرا فى التحديث ، وقطعت منه أشواطا مذهلة ، تظل تحتفظ بشىء ما
أسود قابع فى قاع عقلها الباطن ، ربما لا يمكن التنازل عنه أبدا .
ربما أذاب الياپانيون تماما تلك الأورام من أمخاخهم ، أو هكذا تبدو
الأمور . لكن تظل دائما ثمة أسئلة أكثر قوة فى أماكن أخرى ، هل يطل
الإسلام من جديد برأسه فى تركيا ؟ هل تضحى الصين بكل ما أنجزت فى حرب
عسكرية أو على الأقل مقاطعة اقتصادية للغرب من أجل هونج كونج أو تايوان أو التبت
مثلا ؟ ربما ينتحرون هكذا فى تركيا أو الصين ، وربما لا . ربما
ينتصر عندهم العقل وربما يقهره السرطان . لكن عندنا شبه المؤكد أن كل العقل
العربى وليس القاع فقط كتلة حالكة السواد ، وأننا بلا منازع سادة الـ idée fixée ،
إما أن تعود القدس أو لنمت دونها جميعا ! ( تقديرى
الشخصى فيما يخص السيناريو الصينى 1- أن هذه المواجهة قادمة لا محالة يوم تقارب
قوة الصين الاقتصادية قوة أميركا وتبحث عن ترجمة عملية للـ idée fixée ،
لملف الشهر العقارى المزمن الخاص بها المدعو تايوان ، أو ربما تطمح حتى لما
هو أبعد أى تحدى الانفراد الأميركى بقيادة العالم ، 2- ستذهب أميركا ببعض
الصواريخ النووية لتايوان مثلا كاستعراض للقوة ، 3- الصين لن تغامر بكل هذا
الذى أنجزته وستبتلع الإهانة كما فعلت سيدتها الإقليمية الياپان يوما وستفضل
الاستمرار فى لعبة الاقتصاد حتى النهاية ، 4- لو حدث فى مرحلة لاحقة وتفوقت
الصين ‑أو غيرها طبعا‑ تفوقا ساحقا وأصبحت هى قوة إنتاج تقنيات الغد
وليست أميركا ، فستئول لها قيادة العالم برؤيتها الجديدة ، 5- غالبا
دونما حروب ، وإن كنا طبعا لا نعرف على وجه اليقين شكل الأشياء القادمة أو
أية ظروف تلك التى يمكن أن يصبح فيها عرق آخر أكثر إبداعا أو أفضلية چيينية أو
صنعا للمستقبل من العرقين الأنجلى واليهودى . ملحوظة أخيرة : المؤكد
أننا حين نتحدث عن تايوان فنحن نتحدث عن شىء ذا شأن على الخريطة ، أما
القدس بكل ما عليها فلا تساوى ثمن شركة تايوانية متوسطة
الحجم ! ) . بالتالى ، وأيا كان
التحليل ، الحل –إن كان هناك شىء كهذا حقا‑ يكمن بالأساس فى ثورة
ثقافية ، من خلال التعليم والإعلام ، تفرض فكر الحداثة والعلمنة
والجلوبة فرضا ، تمحو ’ الثوابت ‘ ، أو ما يسمى
الهوية ، من المؤكد أن كل ركن فيها فاسد لأقصى حدود الفساد ، وتركز
على تعليم النخبة سواء جنبا إلى جنب مع التعليم المجانى التقليدى أو بإلغاء هذا
الأخير ، وهو الأفضل . الاقتصاد هو البنية التحتية التى عليها أن تعزز
هذه الثورة من خلال إفعال الاقتصاد الدارونى مطلق الحرية ، واستئصال كل
جذور الفكر اليسارى الكامن فينا ، فلا إنطلاق دون ليبرالية اقتصادية ،
وبصراحة أكبر دون ضحايا بالملايين . بالمثل دور السياسة الفوقى هو حفز
ومساندة بل وقيادة تلك الثورة ، هذا من خلال ريچيمات ديكتاتورية
قمعية ، لكن تقدمية واعية ذات رؤية مستقبلية بعيدة . وتجارب النمور
الآسيوية وتشيلى پينوتشيت لا تزال ماثلة فى الأذهان ، وتغنينا حتى عن
الرجوع لتجارب النصف الأول للقرن فى ضفة المتوسط الشمالية بدءا من تركيا حتى
البرتجال .
بكلمة أخرى : للأسف
الإجابة على سؤال العنوان لهذه الورقة القائل لماذا نحن دائما فى الجانب الخطأ
من حرب الحضارة ، باتت واضحة الآن بعد كل هذه الصفحات . إنها عقولنا
أو قل بالأحرى چييناتنا ، أو ما قد يصح تسميته بالأقدار الچيينية . قد تسأل : ما الجديد حتى
يقال الآن هذا الكلام عن الچيينات ؟ لماذا لم يقل عن ما قبل 100 سنة أو 500
سنة ؟ أليست الچيينات هى نفس الچيينات ؟ نعم ، الچيينات هى نفس
الچيينات ، لكن كلا ، العصر ليس نفس العصر . إن لدينا اليوم
واقعا مستجدا فادحا ، ألا هو التسارع المرعب للتقدم التقنى . كان من
الممكن لذوى الجمود الچيينى أن يتعايشوا على نحو أو آخر قبل ذلك . الفجوة
مع المتقدمين لم تكن ضخمة ، كما أن المطلوب منهم لم يكن عسيرا جدا .
اليوم اختلف الحال . فجوة الثروة تتفاقم كل يوم بل كل ساعة . ولا بقاء
من حيث الأصل تقريبا إلا للشعوب ذات الحساسية العالية جدا والاستجابات السريعة
للغاية لما يستجد حولها من متغيرات . لا مكان لشىء اسمه ثوابت . كل
الثوابت بالية بحكم التعريف . حتى ما قلناه عن ثوابت للغرب هو لا يعتبره
كذلك . هى مجرد أشياء اكتسبها فى مسيرته ، ولو اكتشف فى لحظة أنها
خطأ ، أو أن ثمة ما هو أكثر منها حداثة وعصرية ، لألقاها لدى أول صفيحة
قمامة دونما خلجة رحمة أو وقوف للحظة ندم . …
إذن هل الخلاصة أن فى كل
الأحوال لن تنجو مثل تلك العشيرة ، طيورا ولا بشرا ؟ ربما . لكن
مهلا ! ماذا لو أن هناك بديلا ثالثا . ماذا لو أن ثمة ميل چيينى موروث
يدفعك لأن تعطى فقط حين تأخذ ، أو أيضا بمطلحات دكتور دوكينز الضاغنون grudgers ، أى من يذكرون لك
جميلك من عدمه قبل أن يقدموا لك جميلا فى المقابل . ساعتها سيعتمد الأمر
على الوزن النسبى لكل من تلك الميول الچيينية الثلاثة . لو الغشاشون أغلبية
أكثر من نسبة ما حرجة ، سيزدهرون وينفردون بالعيش دون سواهم ، ثم بعد
ذلك كما نعلم سينقرضون ومن ثم كل العشيرة . لو الضاغنون أغلبية أكثر من
نسبة ما حرجة ، سيتعيش الغشاشون على ما هو قائم من مغفلين حتى يؤدون
لانقراضهم ، لكنهم هم أنفسهم سينقرضون بعد ذلك لأن الضاغنين لن يقدموا لهم
أية خدمات مجانية من طرف واحد ، ويتنجو العشيرة من خلال بقاء
الضاغنين . أيديولوچيا نموذج ’ العين بالعين والسن بالسن ‘ هذا هو الرأسمالية العلمانية المعاصرة القائمة طوال
الوقت على خذ وهات ، هو ستراتيچية شايلوك الذى يعاملك بأمانة وكرامة وحق
وعدل ، لكن فى نفس الوقت بلا رحمة . هو أيضا قانون الدغل الذى
بالمناسبة به الكثير من الشرف والشهامة وحتى الحب والحنان وارجع لكيپلينج صاحب
المصطلح ، أو ارجع لفتوات نجيب محفوظ . وبالمناسبة فتطوريا من الأرجح
فى مثل هذا النموذج ’ المستقر ‘ ( مصطلح تطورى ) أن ينجو
المغفلون أيضا لأن عامة سيكون ثمة من سيبادلهم المعروف بمثله ، هذا طبعا ما
لم يتولد فجأة بسبب التطفر الچيينى بعض الغشاشين من جديد . هذه هى الرأسمالية العلمانية
المعاصرة كما نراها اليوم ، ليست فقط قوى يأكل الضعيف جشعا ونهما ،
إنما يأكله بالحق ويتركه بالحق بكل ما فى الدغل وقوانينه من نبل وعدل وشفافية
( أخلاقيات القدرة مرة أخرى ) . أيضا
هى حاضنة وراعية العلم والتقنية ، ولا ينطبق عليها تخوفات أرسطو الكلاسية
من الأوليجاركية ، بل هم أقرب للنخبة التى نادى بحكمها
’ الأستاذ ‘ . إذن نعم ، نهاية التاريخ هى الرأسمالية ،
لكن ليس لأنها إنسانية ولا ديموقراطية كما ذهب البعض مؤخرا ، إنما لأنها
تنافسية شرسة ولا ترحم . والحقيقة أن كل الفكر المسمى بالإنسانى ما هو
بأكثر من تطفر چيينى مناهض لقوانين الطبيعة بل ومؤدى للانقراض ، وهو ليس من
طبيعة البشرية الأصلية ، ولا من طبيعة أى عرق تقريبا ، فكر بزغ قبل
قرنين أو ثلاثا وسيطر لحد ما على العقل الإنسانى ، ونظريا يمكن أن يستمر
حتى يقع فناء كل العرق على يد أمثال العرب والمسلمين ،لكنه عمليا وفى
تقديرنا سينتهى لا محالة ، وربما بأسرع مما يتخيل أحد . نقول لا يخدعنك
وجود بيلل كلينتون فى السلطة حاليا ، ولا حتى بوادر دعمه لمسلمى البلقان ضد
كل بديهيات الحضارة والتحضر . فأنتم أيها اليسار تتمسكون بقشرة عابرة
التصقت عرضا بمسلة التاريخ اسمها الفلسفات الإنسانية ستأخذكم وتسقط ، ويبقى
جدار الكون العظيم شامخا نظيفا كما استنته لنا أمنا الطبيعة بقوانينها العبقرية
الراسخة منذ ما قبل 14 بليون سنة وحتى ما بعد أية بلايين أخرى . نعم ،
مسار التاريخ منذ ريتشارد نيكسون فثاتشر وريجان هو بالضبط العكس من كل ما سار
عليه منذ ثورة الدهماء الفرنسية مرورا بثورة البلاشفة وانتهاء ‑ونقصد فعلا
انتهاء‑ بثورة طلبة 1968 ، عام انتخاب نيكسون ، ( ويا
للمفارقة ! ) . ذات الشىء عن الفكر السلامى ( والبيئى وهلم
جرا ) ، الذى أيضا وصل لذروته فى تلك السنة . إنه بدوره إلى
نهاية ، فما يبنى دائما أبدا هو الحروب ، وما يهدم هو ذاك الموات
البطئ المسمى بالسلام ، واسألوا التاريخ ، الطبيعى منه أو الإنسانى ،
أو اسألوا داروين أو آى بى إم ! …
هنا قد نحتاج
أيضا لوقفة تتعلق بالدين وعلاقة بالثقافة العربية والمسلمة أو بالأحرى الثقافة
الساموية : جلى تماما أن ’ الغشاشين ‘ هم العرق الساموى والعرق
الساموى وحده ، هذا أن أردنا من جانبنا أن نجد عرقا كبيرا كاملا يناظر أو
يجسد فئة الطيور التى تكلم عنها الپروفيسور دوكينز . ذلك أن الدين ،
وتحديدا رخصة الاستحلال باسمه ، كان دوما أداة تكيفية هائلة ورائعة تبرر
القرصنة والنهب لهذا العرق . وهذا ما رأيناه منذ سرق موسى الذهب ومحمد
القوافل والسلطان خير الدين السفن ، وهو شىء ممتد حتى سرق ناصر القناة
والأسد لبنان وصدام الكويت ، ولا نعتقد أنه يمكن أن ينتهى أبدا إلا باختفاء
الساموية وچييناتها من الوجود . السؤال الذى نقصده هنا هو كيف يتأتى لذات
العرق الساموى أن ينجب المسيحية ، التى هى خلفية الغرب الحضارى
المعاصر ؟ ولعلنا نقصد بدقة أكبر النسخة الپروتستانتية منها ، أى تلك
التى تحض صراحة على الكدح ، أو ما يعرف عادة بالشغل الپروتستانتى ،
وبالذات تحديدا منه الشغل اليدوى المباشر ، والذى تعلى من شأنه مهما ارتقت
الأدوات والتقنيات المساعدة للإنسان ، بل وتكاد ترفع ذلك الكدح لمرتبة
القداسة والعبادة وتقول إنه هو الخلاص المؤدى للحياة الأبدية وليس حتى أن الخلاص
عطية من الرب . وطبعا دع جانبا أنها أيضا تعلى الفردية وتكاد تؤله
الإنسان ، ويكفيها أن كانت العكس المطلق من الإسلام الذى جعل الإنسان عبدا
ذليلا مطلق الخنوع والهوان أمام ذاك الأله المنتقم الجبار الخفى ، بأن جعلت
هذا الإله أقرب لصديق إن لم يكن لخادم للإنسان ، ولا غرابة بالمرة أن كانت
بعد هذا كله بوابة العالم الحديث الكبيرة للعلمانية ونفض جاهلية وظلام الخرافة
والغيب برمتها ومن جذورها ! رأينا المتواضع أن العرق
الساموى لم ينجب يوما المسيحية ولا حتى تبناها أو استوردها ! الإجابة هى أن
المسيحية ليست من بنات العرق الساموى على أى نحو من المناحى . أولا
المسيحية التى نعرفها والتى صاغها پولس وبطرس وخلفائهما ، لقد نشأ ولد
وتبلور بعيدا هناك فى أوروپا وبالتحديد فى أحضان روما فى القرون الثلاثة أو
الأربعة الأولى للحقبة الشائعة ، ثم بالطبع صعودا إلى منظريها الكبار
كأوجستين وغيره . أما إذا كان المقصود بالمسيحية ما قاله وبشر به اليهودى
المدعو يسوع ، فهو شىء آخر كلية لا ينتمى لهؤلاء ولا لأولئك . ما آمن
وبشر به ، بالذات حسب الأناجيل شبه المجهولة الأكثر أصالة وقدما ، قد
تجعل منه أبا للهندوسية أو للبوذية ، لكن قطعا ليس بحال للمسيحية . لا
بد لأى باحث أن يلحظ شيئا مثيرا للاهتمام للغاية ، هو موقع المسيحية فى
الأراضى الساموية . لكن السؤال الذى ربما لم يجب عليه أحد هو لماذا ترعرعت
هكذا بعيدا بينما اندثرت بسهولة من الشرق الأوسط ؟ الإجابة أن ما بشر به
يسوع هو بالضبط ما يناظر عند دوكينز المغفلون ، وهذا بالقطع ليس فكرا
سامويا بل هو ناشز ودخيل بالكامل على مفردات وطبائع العقل الساموى ، وكان
من شبه المستحيل على هذا الفكر أن يزدهر فى المنطقة . ومن ثم كان عليه إما
أن يذهب شرقا ليحقق نفسه كرؤية صوفية متكاملة وخالصة للكون ، وإما أن
يتناسخ يتحور ( أو يتطفر بلغة علوم التطور ! ) ، إلى شىء
مختلف كثيرا يمكن أن يزدهر فى أرض الغرب الأوروپى . لهذا السبب انقرضت
المسيحية من المنطقة ، واكتسحها الإسلام بسرعة مذهلة كما يخترق السكين
الزبد . ومن ثم ما من غرابة بالمرة أنه الدين الوحيد الذى عاش فى المنطقة
15 قرنا متواصلة كاملة ، ولا تلوح حتى اللحظة بوادر لزوال استيطانيته لها
منها . [ لاحقا تواصلت بحوث الكاتب وتعمقت قناعاته إلى
أن المسيحية ‑وبالأخص نسختها الغنوصية الأصلية ، هى من حيث الجوهر
ذات العقيدة الإيزيسية المصرية ، بل ربما كان مؤسساها ‑يسوع
والمجدلية‑ مصريين بالعرق أيضا . هاجر كلاهما وحاول بمعتقداته
المصرية إصلاح عقيدة الصحراء اليهودية الشريرة التى قلبت الموازين وجعلت الرعاة
سفاكى الدماء أتباع الإله ست ، هم الخير ، والعكس بالعكس ‑انظر
كتاب ‘ المسيحية
هى الهرطقة ’ . عامة ،
قد يستوجب تدقيق بعض محتويات هذه الدراسة التى بين يديك فى ضوء الكتاب
الجديد ، لذا ننصح بشدة بمتابعة القراءة بها ، بالذات وأنها كتبت بعد
أن كانت الصحوة المصرية للفظ الإسلام والأقلية العربية وقيمهما الإجرامية ،
قد بدأت بالفعل ولاحت بعض ملامحها ، فى عالم ما بعد 11 سپتمبر 2001 ،
ولم تعد مجرد أمنيات عمومية كتبت فى أوائل التسعينيات كالتى تقرأها
الآن ! ] . السبب واضح كلية : إن
الشعوب الساموية فى حاجة لأيديولوچية ’ للغش ‘ وللغش فقط ،
أيديولوچية لخذ وطالب ، وليس 1- لأيديولوچية للتسامح أو إعط ولا
تأخذ ، ولا 2- لأيديولوچية للشغل والكدح أو خذ وهات . من هنا الخلاصة
أن كانت اليهودية هى أول دين يزين للغش الدوكينزى ، وهى دين ساموى أصيل
بالقطع ، لكنه لم يكن متقدما ولا متماسكا ولا حتى صريحا بما فيه الكفاية
للتعبير عن حقائق الچيين الساموى . وهنا دخل الإسلام كالمنقذ
المنتظر ، كالتعبير المثالى تماما عما يعتمل فى العقل الساموى والبدن
الساموى من استرقاق واستحلال ومص دماء الغير وعرقهم ، هذه مما لا يستطيعون
العيش بدونه ودونها الموت والانقراض كطيور دوكينز الغشاشة . فهذا عرق أو
منطقة لم تنتج حضارة يوما ، بل فقط احترفت القرصنة وقطع الطريق على منجزات
الحضارات الأخرى . هنا قد تسمع كلاما كثيرا عن أن المسيحية طبقت خطأ
والإسلام طبق خطأ والاشتراكية طبقت خطأ ، وهلم جرا . لكن الحقيقة أنه
لا يوجد كلام فارغ أكثر من هذا . لا شىء اسمه تطبيق خطأ . هذا هراء
مطلق . من السهل أن تقول هذا الكلام على أى شىء . حتى بفرض أن هذه
كانت يوتوپيات ، وما هى بذلك مطلقا ، فليس عبقرية من أى نوع أن تأتى
بفكرة هائلة اليوتوپية ، المهم هو التطبيق ، المهم أن تأتى بنظام يطبق
نفسه بنفسه ، نظام يتسق مع طبائع الإنسان ومع الواقع الموضوعى وأهم كل شىء
يتسق مع قوانين أمنا الطبيعة التى لا ترج ولا تتزحزح . وأمنا الطبيعة تقول
لنا إن رأسمالية الضاغنين ، ليبرالية الدغل ، هى الشىء الصحيح
والمثالى والذى يطبق نفسه بنفسه بل ويطهر الغشاشين ويفرزهم بعيدا طوال
الوقت ، أما الإجرام والتخلف والظلام والويلات الذى ابتلت به الأديان
المسماة بالسماوية أو المتجلاة ، أو ابتلت به الاشتراكية ، ابتلوا به
الكوكب ، فهى مسألة چيينات وتكيف لشعوب مريضة وفاشلة لا أكثر . المشكلة ليست فى الدين ،
المشكلة فى الچيين ! بديهى أن الأديان ، كل الأديان ، هى فى
التحليل النهائى نتاج ثقافى للعرق الذى اخترعها . هى لم تهبط من السماء
بپاراشووت ، إنما أشياء اخترعها بشر من لحم ودم ، وحسنا :
چيينات ! أخيرا ، لعل لنا أيضا أن نضيف هنا ملحوظة هامشية لكن ليست
أقل دلالة هى لماذا دوما تنتصر أديان ما يسمى بالتوحيد للراعى على حساب
الزارع ، ذلك منذ قصة هابيل ضد قايين ويعقوب ضد عيسو ويوسف ضد الملكة وموسى
ضد فرعون وهلم جرا . فالراعى عندها إنسان نقى خير دائما أبدا ، بينما
الزارع ساحر شرير يعبث بأصابعه ، التى هى أصابع الشيطان شخصيا ، يعبث
فى التربة فإذا بها تنبت زرعا ذا أوراق وأزهار وألوان وأشكال . الفكرة وراء
ذلك التحيز الصارخ والدائم فى النصوص المسماة بالمقدسة ، أن الراعى يعيش
على الكلأ ويعتبر أنه كله ملك له ويسميه ملك الرب وأرض الرب ولا يجوز لبشر
الإدعاء بملكيتها ، أو أن يحاول يمنع أغنام الراعى من حصد الأخضر واليابس
فيها بالمجان . هكذا إذن كان الإسلام ،
والذى لا غرابة أن جاء من قلب أوسع صحراء فى المنطقة ، هو الذروة التكيفية
الغائية والمثالية تماما للتعبير عن طبائع الچيين الساموى ، عن كون القرصنة
وقطع الطريق أسلوب الحياة الوحيد الذى يعرفه ودونه الانقراض ، وعن رؤيته
للحياة وللأغيار وللثروة وللمرأة وللأطفال أو إجمالا لكل شىء يمكن استرقاقه أو
استحلاله ، ذلك أن كل شىء من كل هذا هو من صنع الإله ، وكل شىء هذا
صنعه خصيصا من أجلنا و’ سخره لنا وما كنا له مقرنين ‘ . أو
بصيغة أخرى كانت اليهودية هى المسودة أو ’ الپروفة ‘ فإن الإسلام هو
التعبير الأمثل والغائى عن الرغبة التى يميلها على ذلك العرق كسله الچيينى
القدرى ، رغبة لا تنتهى أبدا ولا تتغير أبدا ، رغبة الاستلقاء على
الظهر بينما غنمه تأكل مزروعات الغير التى ربما رواها هذا بعرقه ودمه . من
ثم بالتالى قلنا إن لا غرابة مطلقا أن دين الغش الأعظم هذا قد توطن لقرون
وقرون ، بل واستفرد بالمنطقة وطرد بسهولة عجيبة كل الأيديولوچيات السابقة
حتى الغشاش منها ، وظفر على نحو رائع بعقول وقلوب شعوب المنطقة يدغدغ إلى
ما لا نهاية حواسها والطبائع المتفردة لچييناتها . يبقى السؤال : إذا كانت
اليهودية قد تناسخت إلى علمانية صهيونية أشكينازية فائقة الحداثة ، وإذا
كانت المسيحية قد تناسخت إلى العلمانية الإنسانية اليسارية التى تجثم منذ قرنين
أو ثلاثة على الفكر الغربى ، فما هى فرص الإسلام فى التناسخ لفكر حداثى يوما ؟
الإجابة فى زعمنا المتواضع هى مستحيل ! صحيح أن تجربة أتاتورك العظيمة
تعطينا المؤشر لما يمكن أن تفعله ديكتاتورية عسكرية يمينية علمانية من معجزات فى
بناء الاقتصاد وفى فرض الحداثة وفى محاربة الدين ، لكن لا يجب أن ننسى ذلك
العدد الهائل من محاولات الانقلاب الإسلامية عليها على امتداد ثلاثة أرباع القرن
التى مضت على التجربة ، أيضا لا يجب أن ننسى بالذات خصوصية الاقتراب من
أوروپا واختلاط الأعراق وما شابه ، ثم لا يجب أن ننسى أن التجارب الأخرى
المذكورة ، إما أن استغرقت آلية الانتخاب الطبيعى فيها ألفيات كاملة من السنين
وليس مجرد عقود أو حتى قرون ، هذا فى حالة اليهودية ، وإما أنها تطورت
تطورا طبيعيا فى بيئة عرقية چيينية مختلفة بالكامل من البداية ، هذا فى
حالة المسيحية والپروتستانتية . فى المقابل يبدو الأمر أكثر صعوبة بما لا
يقارن فى عربستان . الحقيقة الإنسانية الأخلد إطلاقا هى أن دائما أبدا
الكلمة العليا هى للچيينات . أو حسب فحوى العنوان نفسه فى كتاب دكتور
دوكينز : نموت وتحيا چييناتنا ! هنا حين يأتى المجال للحديث فى بلادنا
عن الإقلاع عن منهجنا فى الحياة الذى هو القرصنة وقطع الطريق ، أو عن
الدعوة لتبنى الحداثة والعلمانية والبناء والتحرر والانخراط فى العالم
الواحد . نرى جييناتنا تصرخ بكل قوتها للفكرة : NO WAY! . … إذن ، اسم اللعبة هو
چييناتنا شرق الأوسطية وليس أى شىء آخر ، بالذات ليس تلك المؤثرات
الأجنبية ، فكلها كانت إيجابية على سبيل الحصر والجزم ، لكننا لم
نستفد منها وقاومناها بدم بارد وغباء واثق لا نظير لهما . صحيح دين اليهود
قال لهم أيضا إنهم شعب الله المختار ، لكنهم حولوا هذا لحقيقة يومية معاشة
لا سيما وأنهم تركوا الدين نفسه وباتوا علمانيين . صحيح أن المسيحية أسمت
أتباعها أبناء الملكوت ، بل ووعدهم يسوع بالخلود دون غيرهم بأن من آمن به
ولو مات فسيحيا ، بل وصحيح حتى أنها أسست فعلا أوسع وأعظم إمپراطوريات
التاريخ ، إلا أن على أرض الواقع لا تجد اليوم من هو أكثر من المسيحيين
دنيوية وعملية وتطلعا بحب وأدب للرقى وللشعوب الأرقى ، وتحديدا منها التطلع
للعلمانيين من يهود وپروتستانت أو قل عن هؤلاء الأخيرين الشعوب الناطقة
بالإنجليزية إذ لعل من المفيد تقسيم العالم لناطقين بالإنجليزية وغير ناطقين
بها . المثال الكلاسى هو الشعب المكسيكى المتطلع بكل تواضع شمالا ،
أما الاستثناء الوحيد فهو الفرنسيون ، الذين يحمل عرقهم ميراثا ثقافيا
ثقيلا بكل أسف . وهذا الميراث هو الذى يجعلهم نسخة طبق الأصل من العرب ومن
الهنود الحمر يهزمون ولا يستسلمون . لغتهم الفرنسية باتت هامشية تماما مع
ذلك يريدون فرضها فرضا بقوة القانون بعد أن خسروا كل الطرق لفرضها سلميا عن طريق
التنافس الحر ، والنتيجة أن باتوا ‑مثلنا بالضبط‑ قطاع طرق يسعون
لجر كل العالم خلفهم للوراء ، ذاك المثال الذى قصدنا أن نفتتح به هذه
الدراسة ، ونجعله مدخلا لكل الكلام اللاحق عنا كعرب .
( نعم ، الإمپراطوريتان الفرنسية والسوڤييتية لا تختلفان فى شىء
عن عن الإمپراطورية الإسلامية ، كل من يبيعك كلاما ووحيا ورسائل مقدسة وليس
اقتصادا وتقنية وجلوبة هو إمپراطوريات مص دماء ، أما كلمة اشتراكية
كستراتيچية غفلة بالمصطلح الدوكينزى ، فستظل دائما أقرب للمعنى
النظرى ، ربما آمن بها بعض ’ المغفلين ‘ الحقيقيين
الرومانسيين ، لكن قطعا ليس زعماء الشيوعية أو الثورة
الفرنسية ) .
على أية حال نظل نحن بالقطع
الحالة الأكثر كلاسية فى مقاومة المستقبل فى عالم اليوم . والمكون الثقافى
مفرط لأبعد مدى عندنا ، وأساطيرنا متغلغلة هناك فى چييناتنا ، ويكاد
يستحيل نزعها منها ، كلها تماما كما الهنود الحمر الذين بعد كل هذه القرون
لا يزالون يصرون حتى اليوم على الحكم الذاتى لمعسكراتهم ، ويرفضون الانخراط
فى العالم الحداثى المحيط تحت أية إغراءات . اليوم لا أحد سيسمع منك
مرافعات عن تاريخك أو ثوابتك أو هويتك أو حدودك أو سيادتك أو أچندتك أو تحالفاتك
أو ما فى جعبتك من قرارات دولية ، إلى آخر كل هذا الهراء القديم . فى
الصراع العربى ‑الإسرائيلى أو الصراع العربى‑الغربى ، نتكلم
كثيرا عن الحقوق ، وكأننا بصدد مجرد خناقة على قطعة أرض ، تحلها ورقة
من الأمم المتحدة . لكن أحدا منا لم يتوقف ولو لبرهة ليسأل عن
المحتوى . ولو فعلنا سنكتشف على الفور أن الطرفين ليسا متساويين
بالمرة ، وأن كثيرى الكلام عن الحقوق لا حق لهم بالمرة ، وأن الواضح
وضوح الشمس أن الاستعمار والصهيونية هى قوى تقنية وتنوير حداثية ، والعرب
والمسلمين قوى بداءة وإظلام ماضوية .
أين المحتوى ؟ أين
المحتوى ؟ أين المحتوى ؟ اليوم المهم فقط المحتوى . العالم ليس لديه
وقت للجدليات السفسطائية أو القانونية أو التاريخية أو أيا ما كانت ، حول
الصراع الإسرائيلى‑العربى أو حول الصراع التايوانى‑الصينى أو حول
الصراع الهندى‑الپاكستانى أو حول أى صراع آخر فى الدنيا تحول لصداع مزعج
مزمن . ما يريد معرفته هو فقط أى هذه الأطراف أكثر انتماءا لمعسكر التقدم
وأيها أكثر انتماءا لمعسكر التخلف ، وعلى هذا الأساس يحكم بمن هو المحق ومن
المخطئ فى هذا الصراع أو ذاك . أو باختصار : إما أن
نتخلص فورا وبلا هوادة من هويتنا وخصوصيتنا وكل ما فيهما تخلف مطلق لا يحتمل
التأويل ، وإما أن يعلننا العالم فى أقرب وقت ممكن منطقة كوارث
ثقافية !
لحظة الحقيقة تدنو
وتدنو ، والتبعات ستكون مرعبة ، ولن يكون مستبعدا منها شىء .
وبما أن الجغرافيا شىء جوهرى للغاية فى ثقافتنا ( متشاركين فى هذا فقط مع
ثقافتى الهنود الحمر والأبوريچين ، وتماما كجوهرية العناد ، والنخوة
بالمعنى المنحط للكلمة ، أو ما يسمونه بالكرامة ، ضد التقدم والالتصاق
بالماضى الحيوانى الانفعالى الخرافى والپارانوييى لإنسان ما قبل عصور العلم
والعقل ، الذى تفردت به ‑ولأسباب چيينية فى الغالب ، ففى
التحليل الأخير لا بد من سبب مادى لكل شىء‑ هذه الشعوب الثلاثة دون كل
شعوب أو ثقافات التاريخ ) ، فما قد يحدث حتى يتم إخراجنا من الجغرافيا
هو ، وبصراحة كاملة ، إخراجنا من الدنيا أصلا ، إذ فى الواقع
استنفذنا مرات الرسوب وحان وقت فصلنا من مدرسة الحياة ! … القرار ناهيك عن
التحدى نفسه وسباق الزمن المرعب والفجوة غير القابلة للتعويض مع كل من عدانا
لاكتساب التقنية ، ولا نقول اختراعها ، كلها أمور بالغة
الصعوبة ، إن لم يكن الاستحالة . القضية ليست تعاليا ولا احتقارا ولا
عرقية ولا غزوا ولا حتى انعداما للإيمان بقدراتنا . القضية هى
التكيف . الشعوب ذات المكون الثقافى العالى هى شعوب معادية للتقدم
بالضرورة ، وهى على سبيل الحصر الآن ‑ودون خطأ يذكر‑ الشعوب
العربية والإسلامية زائد الشعب الفرنسى الذى يتناول وجبة الغداء فى ست
ساعات . لو حدث فرضا واحتل العرب إسرائيل ، فسيهدمون معهد وايزمان
ويبنون بدلا منه مسجدا . الفرنسيون سيهدمونه ويبنون مطعما . أى شعب
آخر يسعى بالفعل حاليا للتعلم منه .
للأسف جسامة ووطأة ما نراه
حولنا من أوضاع مزمنة يدفعنا للاستنتاج أن ثمة خللا چيينيا يمنع بعض الشعوب من
التكيف . أو كأن ثمة چيينا معينا يملك بوابة السماح للچيينات الأخرى
بالتطور . ترى هل ستأتينا يوما نظرية لتفسير ظاهرة العرب أو الهنود الحمر
اسمها الچيين المفقود ، ربما على غرار نظرية ريتشارد دوكينز عن الچيين
الأنانى ؟ هذه كانت تأكيدا ولا تزال نظرية ملهمة ملهمة ( بفتح وكسر
الهاء ) ، والتى وإن ألهمتنا بشىء فى هذا السياق ، فقد
تلهمنا بفكرة أكثر من مجرد تسمية مشابهة لنظرية جديدة ، حتى وإن ذهبت بنا
فى اتجاه مخالف بعض الشىء . هذه هى أن الچيين الغربى ، أو الأنجلو‑يهودى
بالذات ( الضاغنون ) ، يرى أن بقاءه يكمن فى بقاء العرق البشرى
ككل ، وتحديدا فى تفوقه المتواصل ، هذا من خلال تخليق الچيين لچيينات
أفضل منه كى ترثه وتفرض من ثم رؤيتها الأفضل على كل العالم . أما الچيين
العربى ( الغشاشون ) فيرى بقاءه فى بقاء قبيلته ، وتحديدا بقائها
كما هى بكل تخلفها وجمودها ، هذا هو الخلود الغائى المنشود فى رأيه .
عفوا پروفيسور دوكينز ، لعل ثمة أكثر من فهم لكلمة خلود ، وهذا ربما يشكك قليلا فى نظريتك الموحية بأن كل
الچيينات ذكية ! بما أن
’ الميمات ‘ هى الأفكار التى تنجو كما العشائر البيولوچية عبر العصور
رغم آلية الانتخاب الطبيعى ، فهذا بلا شك لأنها أفكار ممتازة وقوية وصالحة
لكل العصور . للأسف نضيف هنا أن تخلف العرق الساموى شرق الأوسطى البليد
الوحشى الطفيلى وقاطع الطريق والواجب من ثم إبادته ، وهى الفكرة الحية منذ
أرسطو حتى إرنست رينان ( وأيضا حتى هتلر وإن مع كثير من سوء الفهم وعدم
التشخيص الصحيح لها من قبل هذا ’ الاشتراكى ‘ ’ القومى ‘ ‑لاحظ ،
الأشبه بالمختل عقليا الذى يحركه هوس الكراهية السلبى إن لم نقل الإحساس
بالدونية ضد أعراق بعينها أكثر منه رؤية حقيقية علوية إيجابية وشاملة لتغيير
العالم ، حيث كما أخطأ الياپانيون بالتطاول على العرق الأنجلى الأرقى صاحب
الثورة الصناعية ، فيما قد نسميه خطيئة پيرل هاربور ، ارتكب هو ذات الخطيئة
لكن مزدوجة ، خطيئة دنكرك وخطيئة أوشويتز ، ولولاهما لكنا قد حصلنا
الآن وتحت راية العرق الآرى على أوروپا حضارية موحدة تم تركيع قوى التخلف
الفرنسية والروسية فيها للأبد ، لكن للأسف الأيديولوچية النازية كانت
أيديولوچية كراهية ، مشروعا قائما على رد الفعل لا الفعل ، وما كان
لها أن تقود ، وما كان ليحدث غير ما حدث ) ، تلك الفكرة ‑أى
ما يسمى بمعاداة الساموية‑ واحدة من تلك الأفكار العصية على الانقراض لسبب
بسيط للغاية : أنها صحيحة ! هناك شعوب لو تركتها مليون
سنة وعدت لها لوجدتها على حالها ، وهناك شعوب تطور نفسها يوميا . هذا
أمر لا علاقة له بالظروف . هذا أمر يتعلق بالچيينات . فقط نقول إن
الكلام فى الچيينات ليس عرقية ولا برنامجا للكراهية ولا يجب أن يكون ، هو
فقط حقائق علمية مفيدة مجردة عليها أن تساعدنا فى تفسير لماذا استعصت أو تستعصى
شعوب بعينها على التحديث ، فى كل الأحوال علينا أن نقبل كلمة العلم أيا ما
كانت . للأسف هذا العلم يؤشر يوما بعد يوم إلى العكس مما يحاول اليساريون
إقناعنا به صباح مساء . يقول إن لا أهمية تذكر لما يسمى بالظروف أو التربية
أو… أو… . الچيينات قدر لا يمكن الفكاك منه ، يمكنك التحرك فى حدود ما
تسمح لك هى به ، وهذا واجبك الذى لا يجب أن تتقاعس عنه ، لكن شيئا
بالقطع لا يمكن أن يتم رغما عنها . الأمر فى حاجة لقوة تغيير طاغية
كاسحة ، تفوق تماما ما نراه من محاولات إصلاح خجول جزئية بطيئة متواضعة
وسرعان ما قد تنتكس . [ تابع فى صفحة الصناعة النهاية التراچيدية البائسة لتجربة
الدكتور الجنزورى ، تلك التى جاءت أسوأ وأسرع من كل التوقعات ، وبعد
ثلاثة أعوام فقط من هذا . كذلك يمكنك البحث عن مزيد من التأصيل لمثل هذه
الأفكار فى كتابنا الأسبق حضارة ما
بعد‑الإنسان ( 1989 ) ، والمتاح
الآن بكامل نصه هنا على
الموقع ] . لذا يظل السؤال دائما أبدا هو
سؤال الطبيعة الأزلى وربما الأكثر قاعدية ، ولم يتغير قط : تكيف أو مت
( لفريق الأبا أغنية أخرى تقول The Winner Takes It All .
بالمناسبة ، هذه جاءت فى مرحلة النضج ) ! فهلا حسمنا إجابتنا قبل وقت لا يجدى فيه
الندم ؟ بعبارة أقصر وربما أشد
وخزا : العرب شعوب غبية انفعالية جاهلة وكائنات طفيلية ديدنها تاريخيا
النهب والسلب ومص الدماء وهدم الصروح لا تشييدها ، ذلك كله بحكم انتمائهم
للعرق الساموى ، فهل من طريق لكى يبرأوا من اللعنة التى تجرى فى
عروقهم ، كما برأ الأشكيناز عبر ألفيتين مرعبتين من محارق بلاد
الصقيع ؟ قطعا
اليهود شعب بشع . شعب أنجب كل هؤلاء الأنبياء لا بد وأن يكون كذلك .
لكن اليوم بفضل العلمانية الصهيونية أصبح يتربع على قمة العالم علما وتقنية
وفكرا وعقلانية وحداثة وانفتاحا وصنعا للمستقبل وكل شىء . لكن هذا لم يحدث
بين يوم وليلة ، والصهيونية ما كانت ستنجح أبدا مع ذلك الشعب الساموى
القديم الانفعالى المتوجس المتطير ، سدنة أسوأ الخرافات لكل العصور .
أهوال رهيبة وشديدة الامتداد زمنيا هى وحدها التى صقلت چييناته الجديدة وجعلته
ينقلب من أقصى النقيض لأقصى النقيض . إلى أن يتم مع العرب مثل هذا
نخشى أن نكون مضطرين للقول : التغيير وقبول المستقبل وفتح القواقع هى
الچيين المفقود ، والچيينات المفقودة شىء للأسف لا يمكن زرعه ، لا
سيما وأن اتضح أن ثمة ترابط چيينى بين هذا الغياب لذلك الچيين وبين الوجود القوى
لچيينات الانتهاب والاستلاب المميزة للعرق الساموى . [ لاحقا ألهمنا المفكر الإسلامى الكبير
وواسع النفوذ ، مفعم الخيال جاد العمق واضح الرؤية دقيق الهدف والذى لا
يراوغ بالكلمات أبدا ، والأهم منها جميعا أنه من المعاصرين القلائل ممن
يفهمون ما يدور حوله الإسلام أصلا ، أيمن الظواهرى نائب رئيس تنظيم القاعدة ورئيس
تنظيم الجهاد المصرى سابقا . ألهمنا بعبارة توجز كل هذا ، بل وتشعرنا
بمدى عبثية كل ذاك المجهود الذى بذلناه فى هذا البحث والترسانة اللغوية التى
جندت له ، إذ كان من الممكن اختزاله فى كلمتين لا أكثر ، ناهيك عما
تتمتعان به من إيقاع موسيقى جميل . فى رأينا هاتان الكلمتان توجزان ليس فقط
العقل العربى والإسلامى ، بل كل العقل الساموى شرق الأوسطى ( باستثناء
اليهود الأشكيناز طبعا ممن عالجوا
أنفسهم من لعنته ، ونستثنيهم نحن من كل كلام لنا على الساموية ،
فهم كينونة چيينية مختلفة المعالم بوضوح ، حتى الأنف المعقوف الشهير اندثر
لديهم ! ) ، ولعلهما توجزان عامة أيضا كل أصحاب العقول الرافضة
للتقدم بمختلف درجاتهم بمن فيهم الغالبية الكاسحة من الأرثوذوكس والكاثوليك عبر
العالم . فشكرا بلا حدود أيمن الظواهرى ! تلكما الكلمتان الموسيقيتان
اللتان توجزان كل شىء هما : الولاء والبراء ! ] . …
تذييل : … وللآخرين أيضا چيينهم المفقود !
اليونان أم الحضارات وأول
حضارة حقيقية بمعنى أنها وضعت الأسس المادية أو على الأقل الفلسفية لمفهوم أن
الحضارة ما هى إلا السيطرة على الطبيعة ، هزمت على يد الدين ، الذى هو
بالأساس اختراع ساموى يهودى ، إن لم نقل مصريا أيضا مع فارق المحتوى . بموتها قفزت الحضارة الجديدة
إلى الخلف غربا إلى روما ، حضارة تملأ الأسماع والأبصار بتقنيات رائدة
وقيادات جبارة وليس بمجرد تنظير فلسفى . لكن هذه المرة قهرها العرق الساموى
ليس بتسلل أفكاره إنما بتسلله هو المادى إلى المركز على هيئة عبيد بشحمهم
ولحمهم . بعد أن أركعت مسيحية العبيد
روما العظيمة قفزت الجبهة الحضارية للوراء مرة أخرى ، إلى إنجلترا .
إلى البلد الذى تبنى نسخة شبه علمانية من المسيحية ، تؤمن كثيرا بالفرد
وبحريته ، وتحمل كل ما يمكن تخيله من بذور للحضارة العظيمة التالية .
يحلو لأغلب الناس عندنا أن يقولوا إن بينما كان الغرب أو بريطانيا غارقا فى
الهمجية ، كان الشرق هو بؤرة الحضارات تتوالى عليه الواحدة تلو
الأخرى . هذا ينطوى على مغالطتين جسيمتين . الأولى أن ما كان يتوالى
عندنا ليس حضارات إنما حضارات‑ضد ، مصر القديمة والمسيحية
والإسلام . مع خرافات الغيب وبيع الكلام والدجل بآلهة خفية مزعومة ،
ما كان يتوالى هو هدام الحضارة قطاع الطرق مصاصو الدماء ناهبو عرق الغير وليس أى
شىء آخر . المغالطة الثانية أن إنجلترا كانت تدشن بالفعل حضارة حقيقية فى
ذاك الوقت . كان عندنا أثناسيوس وكان عندهم الملك آرثر ، كان عندنا
القرآن وكان عندهم الماجنا كارتا ، وهلم جرا من مثل هذه المقارنات
الشاسعة . المهم ، صعدت الحضارة البريطانية حتى باتت إمپراطورية لا
تغرب عنها الشمس حسب القول الشائع . نقلت لكل العالم ثورة تقنية عظيمة
مذهلة اسمها الثورة الصناعية ، ونقلت لكل الدنيا مبادئ الحرية ، حرية
الاقتصاد ، وحرية الفرد ، وحرية الصعود الطبقى ، وهذه ليست أفكار
( كلام × كلام = كلام تربيع كما إمپراطوريات الشر الثلاث الإسلامية
والفرنسية والسوڤييتية ) ، إنما بنية تحتية لاقتصاد الرأسمالية
الصناعية التى تحرر العبيد وتحرر علاقة الشغيل وصاحب الشغل وتحرر التجارة
العالمية ، أو باختصار تحرر كل شىء . لكن مرة أخرى مخالطتها للأعراق
الشرقية بدأ ينخر فيها ، وذات المبادئ بدأت تنخر فيها من الداخل ،
بصعود قوى نقابات الشغيلة والذوبان التدريجى للقيادة الحضارية ، وبزوغ حكم
الدهماء المسمى عموما بالاشتراكية . هذا ما حدث بعيد الحرب العالمية الأولى
باستيلاء نقابات الشغيلة على السلطة . هذه ليست جذوة وقيادة . طبقة
العبيد لا تصنع حضارة أبدا ، هى لا تصلح لقيادة شىء ، ولا حتى لقيادة
نفسها ، ناهيك عن أن تقود العالم . والحضارات إذا كان لنا أن نتعلم من
تاريخها شيئا ، تنهار حين يسيطر العبيد على المركز . وإن كنا لا بد أن
نشدد هنا أن هذا ليس أكثر من ظاهر الأشياء ، أما الأسباب فهى شىء
آخر ، شىء أعمق كثيرا ، شىء أكثر مادية ، وغالبا بالتحديد هو
التوقف عن توليد تقنية جديدة للغد ومن ثم دفع الثروة والقدرة قدما ( طبعا
إمپراطوريات الشر الثلاث المذكورة ، ليست حضارات أصلا ، ولم يحدث أن
أنتجت بالمرة تقنية جديدة واحدة ، ناهيك بالطبع عن تدشين ثورة تقنية
كاملة . هى مؤسسة من الأصل بواسطة عبيد ، هى لم تملك يوما المشروع
التقنى لتأسيس إمپراطورية فى عالم بلا إمپراطوريات . هى فقط قامت لقطع
الطريق والقرصنة على إمپراطورية ما أكبر قائمة بالفعل ، إمپراطورية حقيقية
وحضارية . والهدف المباشر أو الوحيد لإمپراطوريات الدرجة الثانية ، بقيادات
مثل محمد أو ناپليون أو ستالين ، هى فقط القرصنة على إنجازات الإمپراطورية
الأم ، على الحضارة التى أتت بالثورة التقنية لعصرها ! ) .
إذن ، الحرية الإنجليزية انقلبت نيرانا عكسية ، العبيد الذين تحرروا
كى لا يكون عندهم حجة لو طردهم صاحب العمل أو لو ساومهم على أجورهم ، باتت
لهم الكلمة العليا ، أسسوا نقابات وبالبلطجة انقلب من تخلوا عن حقهم فى أن
يصبحوا سادة ، انقلبوا عبيدا لدى تلك النقابات والبلطجة واضطرابات المصانع
والشوارع ، وفى النهاية وصل هؤلاء لمركز الحكم ، وتداعت إمپراطورية
أخرى . اضطرت الجبهة الحضارية للقفز قفزة ثالثة للخلف غربا ، لتنشئ
الحلقة الرابعة والأعظم ‑حتى اللحظة‑ للحضارة : أميركا .
الأنجلى هم أنفسهم الذين
أسسوا أميركا ، وأعلن الفوج الأول من هؤلاء المستوطنين مبادئ الدولة
الجديدة فيما سمى بمكتنز الماى فلاور ، ومن بعده فى وثائق التأسيس الأخرى
الشهيرة . الفارق بينهم وبين بريطانيا الأم الآفلة أنهم أسسوها بوعى شديد
لا على قيمة المساواة ، إنما على قيمة المنافسة . وسرعان ما أذهلتنا
النتائج الباهرة ، حيث تكاد تتخطى أميركا المعاصرة ثلث اقتصاد العالم
وحدها . اليوم تتكرر الدائرة ، العبيد يقومون بتركيع حضارتنا المعاصرة
بذات الآلية القديمة ، لسبب بسيط أنهم ليسوا فى حاجة لآلية أخرى .
الهجرة الساموية عربية وإسلامية تغزو الآن أميركا على قدم وساق ، وهؤلاء
ليسوا العبيد الوحيد ، بل هناك أيضا اللاتين القادمين من الجنوب ،
وهناك السود ، وهناك الأسوأ من كل هؤلاء وأولئك ، جلابو العبيد ،
ممن يعملون على قدم وساق بما يفوق ما كانه يفعله أسلافهم فى روما القديمة .
إنهم اليسار الأميركى وتحديدا بالاسم الحزب الديموقراطى ، الذى لا وسيلة له
لاستلاب السلطة وهدم الأسس الأصيلة والأصلية التى قامت عليها أميركا ، إلا
جلب المزيد من العبيد .
ترى أين ستكون القفزة الرابعة
للوراء . جغرافيا ، وتبعا للتسلسل المذكور ، ستكون عبر المحيط
الهادئ ، لا مكان آخر ، العرق الساموى أمامكم والمحيط وراءكم .
لم أندم يوما على سذاجتى قدر
ندمى على قراءتى الأولى لأفلام مخرج الياپان العظيم أكيرا كوروساوا أو أفلام
الساموراى أو حتى الأفلام الياپانية عامة . رأيت فى الياپانيين شعبا دائم
الانفعال والصراخ شديد التطرف فى أفعاله ، منها على الأقل ذلك الانتحار غير
المبرر مثلا ( لحسن الحظ أنى لم أتسرع وأكتب هذا وإلا كان خجلى اليوم
مضاعفا ! ) . تخيلت أن هذا هو التاريخ وهم الآن هم عكس
هذا . لم أكن مخطئا أكثر من هذه إلا فى تلك . الحقيقة أنهم ذات الشىء
فى كلا الحالتين . نعم هم ليسوا باردين كالإنجليز ، لكن أيضا ليسوا
نوعا من العرب فى انفعاليتهم . ينفعلون بمنتهى الشدة والتطرف نعم ،
لكن السؤال هو متى ولماذا . أنهم فقط ودائما أبدا ينفعلون لأسباب موضوعية
محض ، للعقل للمنطق ، للحق المجرد ، للصالح العمومى ، وليس
لأية أسباب ذاتية أو شخصية أو قبائلية ، بعبارة مختصرة : ينفعلون ضد
الانفعال . لو رأوا أن غيرهم أفضل منهم لصرخوا بكل القوة دفاعا عنه ،
وضد أنفسهم . نعم ، انفعالهم غالبا ما يكون موجها إلى الذات فى غالبية
الحالات ، وليس من أجلها دفاعا عشائريا أعمى كما حالتنا نحن مثلا العكسية
مائة وثمانون درجة . معظم الكتب عن الياپان ساهمت
فى تضليلنا على نحو أو آخر ، بما فى ذلك كتاب اعتبره عظيما وقمت شخصيا
بترجمته كاملا هو ’ الجيل الخامس للحاسوب ‘ ، حيث يكثر الكلام مثلا
عن قيمة الأسرة واحترام الكبير بما يخرجك بانطباع أن هذا هو عصر الإقطاع كما
عرفته كل الدنيا ، وليس اختلافا ونوعيا وجذريا فى السلوك ورؤية
العالم . بينما الحقيقة هى العكس بالضبط . الحرية الجنسية عندهم
مطلقة ، اخترعوا من الخدش تقريبا شيئا اسمه أفلام الاستحراك الجنسية ،
المدهش أنها أخذت العالم كله كما الإعصار ، فى وقت استكان فيه الجميع
لهيمنة أميركا على صناعة الأفلام ( الفارق مذهل بينهم وبين الصين التى
تراقب كل شىء وتمنع كل شىء ، حتى القبلة على شاشة السينما ، ومثلها
بالطبع الهند ) . من يؤمن بالحرية المطلقة بجناحيها الاقتصادى
والشخصى ، هى شعوب جبلت لتقود ، ومن يحرم كل شىء ويخشى أى شىء ،
هى شعوب جبلت لتقاد ، أو ‑حسنا‑ لتباد ! هم فى جميع الأحوال وجميع
العصور آلات موضوعية محايدة ، ما يفرقها عن چيينات العرق الأنجلى أنها من
الممكن أن تذهب لأى مدى حمية ودفاعا عن تلك الموضوعية والحقيقة المجردة ،
أو تقريبا قل هم الشعب الوحيد الذى ينفعل من أجل أشياء كهذه ، أو بكلمة
أخرى هم المطايا المثاليون الغائيون لآلية التطور ، لچيين التطور ذاك مطلق
الأنانية ( مرة أخرى مصطلحات دكتور دوكينز ) .
يوم ينخر اليسار وقصف الهجرة
العربى‑الإسلامى‑الكاثوليكى أميركا ، هم جاهزون . ساعتها
سينسى الياپانيون ، كل ماضيهم فى لحظة ( كما فعلوا يوم
هيروشيما ) ، وسيولدون ميلادا جدا بالكامل مرة أخرى ، وسيثبتون
أنهم أفضل وأفضل مما ترسخ لألفيات كاملة من حقيقة أن العرق الأنجلى هو خير
العشيرة الإنسانية ، ولا تنس أن الياپانيين استخدموا أسلحة الدمار الكتلى
فى الحرب العالمية الثانية بهدف الإبادة ، أما العرق الأنجلى مرهف القلب
فقد استخدمه لإنهاء الحرب وحقن الدماء ( ! ! ) . ذلك أن
لهذا العرق بدوره چيينه المفقود ، آخر چيينات الإنسان ، لديه بمصطلحات
علوم التطور ذاك النوع الخبيث الدخيل من التطفر الذى يفضى لانقراض كل العشيرة ما
لم تتم محاصرته ، إنه چيين ’ المغفلين ‘ ، چيين رهافة
القلب ، أو فى قول ثالث چيين ’ الإنسانية ‘ ، هذا الذى
يحاول دوما إجهاض أو الانتقاص من الموضوعية المطلقة التى استنتها لنا أمنا
الطبيعة فى ملعبها الأثير ، الأدغال ، مهد الحضارة الحقيقى . أما
الياپانيين فهم قطعا أكثر الأمم آلية وبرودة عقلانية فى كل ما عرفه العرق البشرى
من تنويعات ، وكل ما حدث أن فقط لم تتسن لهم الفرصة الحقيقية لقيادة
العالم ، ومن المرجح جدا أن قفزة الحضارة التالية ستكون كبيرة بالمعنيين
المجازى والحرفى للكلمة . ستذهب هناك لأحضانهم عابرة المحيط الهادى بكامله
هذه المرة .
باختصار : نعم ، هم
ليسوا المؤهلين بعد لقيادة العالم ، لكن ما نقوله عنهم ليس خيالا علميا
مستقبليا بالكامل . بالطبع عليهم على الأقل قبل ذلك أن يقدموا لنا شيئا
يعادل فى وزنه الثورة الصناعية الإنجليزية ، وثورة ما بعد‑الصناعة
الأميركية ، الثورة الچيينية مثلا ، ثورة الذكاء الاصطناعى أو حكم
الروبوتات مثلا ، [ أو الهندسة النانوية مثلا ] ، ولا شىء
يثير الغرابة لدينا فى كونهم متقدمون بالفعل دونا عن الجميع حتى اللحظة على كل
هذه الجبهات المذكورة . لكن الأهم ليس أنهم جاهزين لهذه الثورات التقنية
فقط ، بل لما هو أهم وأخطر تماما ، لما لم يحدث وأن كان أحد مستعدا له
من قبل قط : جاهزون چيينيا للدخول فى حرب إبادة ضد أعراق التخلف العصية على
التحديث التى تعرقل مسيرة حضارة الكوكب . ساعتها سينسى الياپانيون أنهم أمة
حتى بلا جيش تقليدى الآن ، سيلغون المادة التاسعة الشهيرة من
دستورهم ، وسيصنعون القنبلة النووية فى ظرف 24 ساعة . وفى خلال أيام
قليلة سيخلصون كوكب الأرض من شعوبه قاطعة الطريق . هنا ستصل دراما التاريخ
لذروتها وتنتهى ألفيات من الصراع فائق الكلفة بين الحضارة وبين قطاع الطرق
والمارقين ، سيأتى فيلم الإنسانية لنهايته المنطقية بظهور البطل القدير
بتخليصه لبقية العالم من الطغمة الشريرة ، وكتابة الخاتمة السعيدة لحرب
الخير والشر المستطولة .
بعد هذه النقطة لا يمكن لأحد ‑ولا
ربما أرسطو‑ تخيل كيف سيكون العالم بدون قوى تخلف وعبيد ينخرون ركائزه
الحضارية . هذا سيكون عالما بعد‑إنسانى بالكامل ، لا أثر فيه
لذاك الداء القاتل المسمى بالديموقراطية ، السم الذى أودى بكل الحضارات
والإمپراطوريات ، وسيكون بآفاق ، وطبعا بمشكلات أيضا ، لا يمكننا
قط التكهن بها . فقط ما نستطيع التكهن به ، أنه حين تنهار الحضارة
الأميركية ولا يوجد من سيرثها وراء الپاسيفيك ، سيكون المكان الوحيد للقفز
للخلف هو المريخ . المشكلة حتى أن هذا ليس حلا للمشكلة . إذ ايضا
سيلحق بكم هناك العرق الساموى ! السؤال هو عينه كان دائما سؤال بسيط :
لمن الغلبة للغشاشين أم للضاغنين ؟ والإجابة أيضا بسيطة بساطة إجابات أرسطو
على ذات السؤال قبل 2500 سنة . قائمة البلطجية قطاع طريق الحضارة لم تبدأ
بلينين وجاندى وناصر ومارتين لوثر كينج ، ولا يبدو أنها انتهت بالقذافى
ومانديلا والخومينى وصدام حسين ، لذا أيها السادة قليلا من الحلول الجذرية
ولو لمرة واحدة على سبيل التغيير . نعم صحيح أن الحضارة طالما كانت فى صعود
متواصل ، صحيح أنها وجدت فى كل مرة من اليونان للرومان للإنجليز ،
فسحة للقفز إلى مناطق أقل حمية وأكثر برودة فى طباع أعراقها ، أو أنها وجدت
أرضا جديدة بكرا للفرار إليها كأميركا . لكن هذا الهرب لا يصلح لأن يدوم
للأبد ، ولا يكاد يوجد عمق ستراتيچى آخر ، فقط لا مفر من المواجهة
المؤجلة ، مواجهة سؤال التاريخ الأكبر : ألم يكن عالمنا ليصبح أكثر
تقدما بألف مرة عما هو عليه الآن لو كان لدى أرسطو وتلميذه أليكساندر الملقب
بالعظيم سلاح نووى ؟ ! لقد قسم
’ الأستاذ ‘ بنى الإنسان على أساس معيار كبير واحد : هل أنت بلا
مشاعر أو انفعالات أو على الأقل تسعى للتحكم فيها لو راودك بعضها أحيانا ،
أم أنت مائج المشاعر والانفعالات طوال الوقت وطبعا يمتعك هذا أو على الأقل لا
ترى فيه أى ضير أو عيب . هكذا صنف أرسطو بنى الإنسان ما بين يونان
وبرابرة ، ما بين سادة وعبيد . حتى يوما هذا لم يستجد جديد يحمل على
الاعتقاد أن تصنيف أرسطو لا يزال منطبقا على العرق الساموى ، برابرة وعبيد
عصر الصناعة وما بعد‑الصناعة ، وكل العصور قبلهما وبعدهما . مرة
أخرى لا أريد الخوض فى حديث الأعراق الذى لا أكاد أفهمه والأقرب للرمال المتحركة
( الموسوعة البريطانية ليس بها أصلا مدخل اسمه العرق
الساموى ! ) . وأقول إن ما أقصده وما أفهمه هو فقط أرسطو ،
أى ذلك التقسيم للبشر على أساس انفعاليتهم أو برودهم . هؤلاء وأولئك أعرفهم
وأميزهم بسهولة حتى لو كانوا فى أقاصى أستراليا أو جنوب أميركا . بالتالى
أكرر إنه باستثناء الأشكيناز الذين صهروا لألفيات كاملة فى محارق يلفها الطقس
والطباع الصقيعية إلى أن خرجوا من تلك الأفران معدنا مختلفا بالكامل ، لا
انفعال فيه ، يكاد يطابق العرق الأنجلى فى برودته العقلانية المطلقة
( ولعل هذا التطابق الصاعق كان السبب وراء ظهور تلك النظرية سالفة الذكر عن
العرق الأنجلو‑إسرائيلى ) ، فعدا ذلك فكل الخصائص المزمنة
المريرة التى تحدث عنها أرسطو لا تزال تورثها الچيينات جيلا بعد جيل لتحافظ على
شرق المتوسط بالذات ، وبالذات جدا ، كالبؤرة الرئيسة لقرصنة وقطع طريق
الحضارة ، وإلى الأبد . أو على الأقل إلى إشعار آخر : إشعار تلك
المواجهة المؤجلة ! ألم يئن الأوان كى تقول
الأقلية الصامتة كلمتها ، ويعلو من جديد صوتها فوق صخب الدهماء
الجارف ؟ ألم يئن الأوان كى تتحد نخبة العالم ، كى تنهى عصور الظلام
الحالية التى بدأت بما سمى الثورة الفرنسية ومن بعدها غثاء mediocrity يسارى يحمل مسميات
كالديموقراطية والجمهورية والاشتراكية والإنسانية والحقوق ؟ المفارقة أن
الإجابة ربما ليست جديدة جدا بقدر جدة عصر المعلومات الرقمية . يقال عادة
إن عصور الظلام قد انتهت وعصر النهضة قد بدأ بوصول بعض نسخ من كتب أرسطو لڤينيسيا ،
ولعلنا نزعم هنا ‑وربما بكل العزم‑ أن التاريخ سيعيد نفسه عما
قريب ، وبنفس السيناريو بالضبط . سوف تنتهى عصور الظلام 2 وسوف يبدأ
عصر النهضة 2 ، كلاهما بوصول بعض نسخ من كتب أرسطو للإنترنيت .
( وطبعا من نافلة القول إن هذا ليس بحال انتصارا منا للفكر على حساب
المادة ، أو للثقافة والمعنويات والأيديولوچية على حساب التقنية والاقتصاد
وقوى الطبيعة ، أو اختصارا انتصارا للبنية الفوقية على حساب البنية
التحتية . بالعكس تماما . فالمهم نوع الفكر نفسه ومحتواه . وليس
فى كل التاريخ ، بمن هو أعظم من أرسطو نصيرا للمادة وللمادية ، ولأمنا
الطبيعة ولقوانينها التى لا ترحم ولا تحابى ) . … الإجابة للأسف : لو لم
تحدث مثل تلك الوقفة الجادة مع بؤر التخلف والماضوية ، وفورا ، فلن
يكون هناك ’ محيط جلوبى حى مشرق وسريع الانطلاق ‘ تتوسطه ’ جزر
مظلمة وعاجزة ‘ . ستكون كلها أحلام ’ الجات ‘ التى تذروها
الرياح . والعكس سيصبح هو الصحيح ، سيستمر النموذج الكلاسى القديم
قائما : مدن متحضرة تحاول أن تعزل نفسها بأسوار منيعة عن محيط واسع من
العشوائيات أو ’ الصومالات ‘ يسيطر عليه بالكامل قطاع الطرق
المحليين ، فى أفضل السيناريوهات تماما سيفشلون فى غزو العالم
المتقدم ، ويقنعون بالتناحر على فتات شعوبهم ’ المستقلة ‘ صاحبة
’ الهوية الخاصة ‘ . … هل تريد المساهمة ؟ ... يمكنك ذلك مباشرة من
خلال لوحة الرسائل إضافة أو قراءة أو بالكتابة عبر البريد الإليكترونى . الجديد
( انظر جزء 2 ) : … |
| FIRST | PREVIOUS | PART I | NEXT | LATEST |